صفحات مميزةميشيل كيلو

عسكرة أم مقاومة؟: ميشيل كيلو

ميشيل كيلو

لا يميز القسم الاكبر من السوريين بين العسكرة والمقاومة. يعتقد كثير من مواطنينا أن لهذين التعبيرين المعنى نفسه، وأنهما يصفان أمرا واحدا هو القتال ضد النظام.

ساحاول أن اشرح في هذا النص الفارق بين العسكرة والمقاومة، لاعتقادي أن الخطأ في فهمهما يفضي إلى مشكلات سياسية خطيرة بالنسبة الى الشعب والثورة، نلمس بعض نتائجها اليوم، ونخشى أن تقوض غدا فرص البناء الديموقراطي وتساعد الاستبداد على مقاومة تحويل بلادنا إلى حال تصير فيها بخير: على عكس ما هي عليه اليوم.

بداية، لا بد من القول: إن الفارق بين العسكرة والمقاومة لا يتصل بامتلاك واستخدام السلاح، فهو حاضر في الحالتين، وإنه يتركز على جانبين يتجسدان اولا في ان العسكرة تخـضع السيــاسة للبندقية بصفتها رمز السلاح، بينما تخضع المقاومة البندقية للسياسة. وثانيا في قيام العسكرة على استخدام اعظم قدر ممكن من العنف، الذي غالبا ما يكون هجوميا، في حين يكمن جوهر المقاومة في طابعها الدفاعي وبالتالي في محدودية عنفها واستعدادها الدائم للجنوح إلى السلم.

… وكان الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، واضع نظرية حرب العصـابات، قد قــال: «إن السلــطة تنــبع من فوهة البندقية»، فالتقط انصار العسـكرة هــذا القــول واعلنوا أن السـياسة لا بد أن تنبــع من البنــدقية، وان السياسي يجب أن يخضع للعسكري خــلال الحــرب الثــورية، بما أنها شأن محــض عــسكري. وقد تناسى هؤلاء أن ماو تسي تــونغ كان زعــيم حزب سياسي هو الحزب الشيوعي الصيني، وأنه فرق بين السياسة والسلطة، فلم يقل إن الأولى تنبع من فوهة البندقية، بل حصر الأمر بالسلطة، وجعل الاستيلاء عليها هدف حزبه الذي كان يمارس بقيادته السياسات الضرورية لاخذها، ويخضع الاعمال العسكرية المفضية الى انتزاعها لخطط سياسية وضعتها قيادة الحزب، من غير الجائز ان تخرج البندقية، او تستقل عنها .

اما اليوم، فيخلط انصار العسكرة عندنا بين السياسة والسلطة، ويجعلون الأولى تابعة للثانية، بعكس ما كانت عليه عند ماو. ويزعمون أنها يجب أن تكون نابعة من البندقية، وأن السياسي لا بد ان يكون تابعا للعسكري ابان الحرب الثورية، ولا يجوز له احتلال مكان او موقع يتيح له اصدار الأوامر الى المقاتلين وتقرير الخطط والاستراتيجيات التي يطبقونها، ما دامت البندقية هي التي تحسم الصراع وتقرر في نهاية الأمر مصير السياسة والسياسيين .

بهذه الطريقة في الفهم، تنقلب وتتبدل الأولويات، وتسود عبادة السلاح والعنف وتتحول تدريجيا إلى عقيدة سياسية قائمة بذاتها، يجرم من لا يؤمن بها ويعامل معاملة خائن للثورة، وتقع عملية فرز تبرز خلالها الجهات الأكثر تطرفا وعنفا، وتتعاظم مخاطر تحول النضال الثوري إلى «هوجة او طوشة عمياء» وفوضى يرجح فيها حظ التخبط على حظ العقل، وتتم انتقالات سياسية وعسكرية وبشرية تقوض الثورة وتزيح الثوريين عن مواقعهم، ويحتل الجهلة مكان الخبراء والعارفين، ويظهر نمط من القادة يرى في الثورة عملية سفك دماء منــظمة، لاعــتقاده ان العــنف هو روح اي فعل ثوري او نضالي، وان التخلي عن السياسة فضيلة لا يجوز التهاون فيها، وقتل الآخر واجب وطني أو شرعي… الخ ، والتدمير والتخريب مصلحة وطنية يجب ان يتبناها العسكر « الثوري». بمرور الوقت وتقدم العسكرة، تختفي السياسة من مفردات وواقع الثورة، التي تتعرض لتشويه وانحراف يدمران مقوماتها، فتنتهي العسكرة إلى ما لا بد أن تنتهي إليه: اقتتال اهلي عــام يشتغل باسلــوب التغــذية الذاتية إلى أن يصير هدف ذاته، فتغرق البلاد عندئذ في الدماء، باسلحة متعصبين وعوام انضموا الى الثورة فاختطفوها وقلبوها الى نقيضها، في حين تحولوا هم انفسهم إلى امراء حــرب لا مصلــحة لــهم في ثورة، ولهم المصلحة كل المصلحة في استمرار اقتتال دمـوي اعمى واجــرامي يصير مهــنة تأتي بالمــغانم والثروة للممسكين بِأَعِنَّتِهِ. بانقلاب الاولويات تنقلب النتائج الى اسباب وتختلط الموازين والمعايير، ولا يعود هناك شيء صحيح. هذا ما يجب ان يتأمله بضمير صاح كل من له علاقة بالصراع الدائر اليوم في سوريا.

بالمقابل، تعــطي المــقاومة الاولــوية للســياسة وتــرى في العمل العسـكري وجها لها لا يتنـاقض معها، ويصح ما قاله الجنرال الألماني كلاوزيفيتز: «الحــرب هي سياسة بوسائل أخرى»، فلا يكون هناك انفصال بين الفعل السياسي، السلمي، وفعل المقاومة المسلح، الذي يحقق أهدافا سلمية بوسائل أخرى، فهو جزء منها يرفض عبادة السلاح وتقديس العنف، ويرى فيهما خروجا على السلمية وتقويضا للقيم التي تضبط السلاح، خاصة عندما يبادر طاغية او ظالم إلى استخدامه ضد من يطالبونـه سلمــيا وقانونــيا بحــقهم في الحرية والعدالة والإنصاف، على غرار ما حدث في سوريا عقب حركة المطالبة بالإصلاح، حين بادر النظام الى استخدام العنف بعد أيام الاحتجاج السلمي الأولى، واعلن صاحبه في أول خطبة ألقاها بعد احداث درعا، وسط دهشة الشعب الذي كان يهتف في التظاهرات باسمه ويناشده ان ينقذه: «إذا كنتم تريدون الحرب فأهلا وسهلا بها ونحن على اتم الاستعداد لها».

بهذا الطابع، الذي يلزم المقاومة بالجانب الســلمي من السياسة الثورية ويشــكل إطارا جامــعا لها، تــتكامل انشطة الشعب الثائر في جانبيها السـياسي والمسلح، وتسد الأبواب أمام امراء الحرب، وتبقى الثورة ملتزمة بأهدافها المجتمعية والوطـنية، وتنـضبط بالحرية كهدف سياسي جامع، وتصير المقاومة عنصرا تكوينيا داخل المجال السياسي لا عسكرة تقرر هويته، رغم أن مصيره يتوقف عليها في حالات الصراع العنيفة والمحتدمة. قلت في ما سبق: إن المقاومة غالبا ما تكون سلمية، لأنها غالبا ما تكون دفاعية خلال صراع نظام استبدادي ضد شعب يطالبه بالحرية، بما ان الشعب، المجبر على حماية كيانه ووجوده ضد قوى مسلحة تريد إخضاعه بالعنف، لا يقوم بغزو أحد ولا يغادر مناطقه، بل يكتفي بالدفاع عن نفسه ويوقف مقاومته المسلحة لحظة يغادر الغزاة مناطقه، دون ان يكون هو من بادر الى العدوان أو بدأ القتال. العسكرة هجومية والمقاومة دفاعية، وبينما تشتط الأولى وتنحرف لتصير عنفا من أجل العنف، تعزز المقاومة بمرور الوقت الخط السياسي الذي تنضوي فيه وتغنيه.

عند هذه النقطة لا بد من ابراز واقعة مهمة كثيرا ما يتم انكارها، وهي أن العسكر يمارسون السياسة حتى حين ينفردون بالقرار، والعسكرة في جوهرها سياسة لها مظهر عسكري وليست مجرد أعمال مسلحة أو حربية، في حين يختلف خيار المقاومــة كل الاخــتلاف عن خيار العسكرة، لكونه يعتبر العمل المسلح سياسة ذات طابع خاص، على عكــس العسكرة، التي تعتبر العمل السياسي فعلا جزئيا يبــقى نافلا او عــديم الجــدوى اذا لم يكن فرعا من عمل عسكري يظل مع ذلك ثانويا بالمقارنة مــعه، ليس التركيز عليه غير إضاعة جهد كان يجب أن يستخدم في مكان آخر، أصلي وحاسم، هو مجال السلاح. أليــس هذا التصور هو الذي كمن في سوريا وراء عسكرة المجال العام وادلجته ومذهبته، بالنتائج الكارثيــة التي ترتبت عليه، وادت الى تقويض الشأن العام، والانكشاف أمام الأعداء، والفشل في تحقيق أي تقدم، والانتكاس إلى مراحل وممارسات سابقة للدولة وعصر التقدم والحداثة.

سقطت الثورة السورية في مرض العسكرة، فقلص قدرتها على المقاومة وأصابها بأعراض تلازم عادة الصراعات التي تخضع مصالح الوطن العليا لمصالح جزئية بدل أن تخضع هذه لمصالح الوطن العليا، فإن وصل السلاح إلى أيدي المشاركين فيها، بدأت العسكرة وحدث الشطط ووقعت الفوضى ووصلت الأمور إلى نقيض ما اريد لها الوصول إليه، وبدأ تطور يصير من غير الممكن وقفه من دون تنمية روح المقاومة مثلما تجسدها سياسة تجعل العمل المسلح جزءا تكوينيا من مجالها العام، يرتبط نجاحه بتكامله معه واندغامه فيه، وفشله باستيلائه عليه أو تقييده، على غرار ما يحدث في حالات العسكرة، التي تبدأ من نقطة ما، لكنها سرعان ما تنخرط في ضروب من الشطط والهمجية تقضي على اي مظهر من مظاهر السياسة والمدنية، وبالتالي على الثورة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى