صفحات الرأي

عشيرة السني وطائفة الشيعي/ عصام الخفاجي

 

 

أثبت الملك الأردني أنه أكثر فهماً من غيره من الحكام المعنيين لواقع سنّة العراق، إذ تحدّث عن مسؤولية بلده تجاه عشائر غرب العراق. لم تكن دوافع الملك من تجنّب إعلان مسؤوليته عن سنّة العراق الحرص على عدم تصعيد حدّة الاستقطاب الطائفي في العراق، كما أظن، بل إدراكه بأن البعد الديني ليس العامل الأهم في تكوين هوية عشائر غرب العراق على رغم أنه جزء مضمر من هويّتها. لكن ما أدركه الملك لا يريد قادة الإسلام الشيعي إدراكه أو ليس بوسعهم إدراكه لأن الطائفة هي السمة المميّزة لهويتهم.

العشيرة، لا الطائفة، هي موحّد ومقسّم الجسم السنّي في العراق.

فعلى عكس الجمهرة الشيعية، يقف رجل الدين السنّي في المنابر السياسية إلى جانب شيخ العشيرة الذي يتولّى الإعلان عن الموقف السياسي. والخطب الدينية في الجوامع السنّية في تلك المناطق لا توجّه ولا تحذّر ولا تُصدر مواقف متباينة عن مواقف شيوخ عشائر المناطق التي تنتشر فيها العشيرة. ثمة، باختصار، تقسيم عمل بين السياسي وهو شيخ العشيرة، ورجل الدين، يقبع الأول على قمّته.

لا معنى لإطلاق أحكام قيمية على هذا الوضع إذ ليس المقصود مما سبق المفاضلة بين شكلي وعي الهوية أو الحكم بجودة هذا الشكل وسوء الآخر. لكن التنافر بين نظرة ابن عشيرة الغرب السنّي إلى هويته ونظرة ابن الطائفة الشيعية إليها قد يفسّر جزئياً أسباب تعثّر الحوار بين الطرفين وتحوّله إلى حوار طرشان.

لا يحتاج المرء إلى البحث عن مثال افتراضي لتخيّل ما ستكون عليه الحال لو كان البعد الديني الطائفي أساس مواقف عشائر صلاح الدين والأنبار. فمنذ احتلال الموصل قبل أكثر من عام، بل قبل ذلك، كانت هيئة علماء المسلمين التي ورث مثنى الضاري رئاستها عن أبيه تدعو السنّة إلى «الالتحاق بالثورة»، أي بـ «داعش»، وتنادي بضرورة الوصول إلى بغداد «لتحريرها من الصفويين». لكن التقارير والدراسات، وقد صارت بالمئات وربما بالآلاف، عن الملتحقين بالتنظيم في المناطق العشائرية في العراق ترسم صورة مختلفة إلى حد كبير عن أسباب هذا الالتحاق، لا تمثّل القناعة بالفكر الجهادي إلا جزءاً صغيراً منها.

فالقناعة بالفكر الجهادي قد تفسّر أسباب انشقاق أفراد أو مجاميع عن عشائرهم والالتحاق بـ «داعش»، لكنها لا تفسّر أسباب وقوف عشيرة معها وأخرى ضدّها، فليس ثمة عشيرة متديّنة وأخرى غير متديّنة.

العشيرة وحدة اجتماعية تحاول الحفاظ على استقلالها بقدر ما تسمح الظروف. وهي بالتالي كيان له تراتبيته وسلطته الحاكمة. هي جنين دولة إن شئنا. لكن عشيرة القرن الحادي والعشرين تدرك أنها لا بد أن تكون تابعة لدولة تحمل صفة الدولة الوطنية ولو اسمياً.

عشائر غرب وشمال بغداد حافظت على كيانها شبه المتماسك لا لأنها عرب أقحاح كما يغمز طائفيو السنّة للتعريض بشيعة العراق، ولا لأنها بدو كما يحلو لكثير من الشيعة وصفهم. كذلك لم تحافظ تلك العشائر على تماسكها بسبب انتمائها للمذهب السنّي بالتأكيد. فالسبب بسيط ومعقّد في آن. بتبسيط شديد، تحلّلت عشائر الجنوب منذ نهاية الخمسينات، أو قبل ذلك، مع انهيار نظام الملكيات الزراعية الكبيرة الذي كان سائداً فيها. وبقيت العلاقة بين شيخ عشيرة الأنبار وصلاح الدين وأفراد عشيرته أكثر تماسكاً، إذ لا ملكيات زراعية كبيرة تستوجب استعباد عضو العشيرة.

حماية الدين، لابن المذهب السنّي، مهمّة الدولة التي ظلّت سنّية منذ عصور. من هنا جاءت صدمة 2003 إذ صارت الدولة في أيدي أبناء الغالبية الشيعية للمرة الأولى في التاريخ الحديث، والتي لم يخف قادتها رغبتهم في تثبيت وسم الطائفة عليها عوض تبني رؤية تعلن انتهاء غلبة طائفة على أخرى.

حماية الدين، لابن المذهب الشيعي، كانت على الدوام مهمّة النجف، فاتيكانه حتى وإن تزعزع موقع هذا الفاتيكان إثر الثورة الإيرانية. الشيعي الذي تحلّل من انتمائه العشائري لم يلبس رداء الهوية المدنية بل صار منقاداً وراء السيّد. والسنّي الذي لم تعد ثمة دولة سنّية وراءه لم يلبس رداء الهوية المدنية هو الآخر، بل صار منقاداً لشيخ العشيرة. وشيخ العشيرة، لتعقيد الأمر، غير «شيخ المشايخ» لقبيلة أو لاتحاد قبلي تزعزع، بل انهار منذ زمن في العراق وفي غيره من بلدان المشرق. شيخ المشايخ هو، على سبيل المثال، من تزعّم قبيلة مثل شمّر التي كانت ذات يوم عظيمة الجبروت، وكذا زعماء اتّحاد قبائل الدليم وعِنزة التي كانت تنافسها قوة ولم يعد زعماؤها قادرين على فرض طاعة أتباعهم لهم. ولعل جزءاً من محنة سنّة العراق يكمن هنا، في فقدان المرجعية الدينية والعشائرية المتّحدة في آن. والعشيرة، من باب التكرار، وحدة تبحث عن البيئة التي تؤمّن لها أكبر قدر من حق التمتّع باتّخاذ قرارها. وحسناً فعل «داعش»، وما كان له إلا أن يفعل ذلك، حين فرض سلطة مركزية وحشية ترى أن أي هوية أخرى مُروق وتمرّد. فهو، بفعله هذا، تصرّف كما الدولة المركزية التي تحاول نزع سلطة الشيوخ لمصلحة سلطتها.

هو حزب البعث في صيغته الإسلامية. بدأ حزب البعث، كما «داعش»، كما النازيون، حكمه بإرهاب الخصوم وفرض الإذعان بفضل إنجازاته. فرض «داعش» صيغته للحياة وكافأ من يلتزم بها. «داعش»، لمن يريد تبسيط النظر إليه كوحش، يقدّم خدمات للخاضعين لسطوته يتحدى من خلالها الحكام السابقين. يدفع رواتب شهرية لمن يلتحقون به، يقدّم إعانات للمواليد الجدد. لم يكتف بإعادة الكهرباء وإزالة القمامة ورصف الطرقات بل أعاد افتتاح فندق من خمس نجوم في الموصل يستضيف العرسان لمدّة ثلاثة أيام مجاناً.

رعب «داعش» يكمن هنا، لا في وحشيته. تعوّد العراقيون على وحشية البعث حتى حين كانوا يستنكرونها في قرارة أنفسهم. خلال عقد من حكمه الذي دام ثلاثة عقود، حقّق البعث تطوّراً في حياة العراقيين، فما عادوا يرونه وحشاً بل ضرورة تتطلّب الوحشية. مرعبة الدراسات الميدانية التي تنقل عن أبناء مدن يحتلّها «داعش» أنهم لا يؤيدونه لكنهم، في ظلّه، آمنون. مرعب قولهم أن إطالة لحاهم وإلباس نسائهم النقاب وامتناعهم عن التدخين أمر مبالغ فيه ولكن «إن لم تتعرّض لهم، لن يتعرّضوا لك». كم سمعت هذه «الحكمة» في بغداد البعث!

ابن عشيرة الأنبار وصلاح الدين (وأؤجل الحديث عن الحضريين السنة وعن عشائر المناطق المختلطة) يتعاطى مع السلطة مثلما يتعاطى معها أي كائن بشري.

سؤاله هو سؤال كل إنسان. السلطة هي الحماية. حماية للحياة، حماية من الانتهاكات، حماية للحريات، وفقاً لما تتعارف الجماعة عليه من معنى الحريات. سؤاله هو: ما هي الكلفة التي سأتحمّلها من حماية بغداد لي، وما هي كلفة حماية «داعش» لي؟

الدكتاتورية الذكية، و «داعش» دكتاتورية ذكية بامتياز، يرفع سقف المخاوف من التهديدات الخارجية لكي يذعن الخاضع له ويقدم مزيداً من التضحيات لتغطية كلفة حماية مزعومة له. النمط الذي صار مألوفاً في استراتيجية «داعش» هو البدء بترويع أبناء المدن التي يحتلّها، لينتقل فيما بعد إلى فرض قوانينه ونظم حياته بالترافق مع تحسين حياة الخاضعين له بحيث يتوصّلون إلى قناعة بأن ذلك العنف لم يكن إلا لمصلحتهم.

بين الإذعان السلبي، أي الرضى غير المصحوب بالتأييد، والبراغماتية، خيوط مشتركة. لكن البراغماتية التي تتحول إلى انتهازية، هي من أسباب تفتّت الاتحادات القبلية الكبرى إذ تستميل السلطة زعيماً دون آخر لكي تمدّ سلطتها إلى داخل العشيرة.

خطر «داعش» قرّب جماعات الحشد الشعبي الشيعي إلى بعضها وإن لم يلغِ صراعاتها التي قد تنفجر دموياً في أي لحظة. قرّبها لأن «داعش» أعلن حربه على كل شيعي. لكن أزمة عشائر السنّة تكمن في أنها لا تزال تملك خيار الانضمام إلى أبناء وطنها أو إلى من يقدّم نفسه حامياً لمذهبها.

وبوسع بغداد، بل عليها، أن تنقذ العشائر من أزمتها بتقديم نفسها حامية لكل عقائد العراقيين.

* كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى