صفحات مميزةعلا شيب الدين

عشّ العصفور: علا شيب الدين

علا شيب الدين

لا يزال ذلك المشهد حياً في الذاكرة. مشهد يعود إلى سنين مضت قبل اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، في سوق الحميدية بدمشق، حين كانت لزيارته، برفقة الأصدقاء في السنة الأولى من الدراسة الجامعية، متعة خاصة. اندلع فجأةً صوتٌ قوي في أقاصي السوق، فتوجَّهت الأنظار إلى الجهة التي صدر منها الصوت، فإذ بحشد من المتّشحين بالسواد، يضرب المنخرطون فيه على صدروهم ويلطمون، ينوحون ويبكون، وبعضهم مدمَّى. بدأ المارة في وسط السوق، يتباعدون بسرعة يميناً وشمالاً، بغية إفساح المجال لمرور الحشد. ولمّا كان شيءٌ مما يخصّ الأديان أو الطوائف والمذاهب، غير داخل في الوعي بوضوح آنذاك، وما من خبرة ولا معرفة حقيقيّتَين بعادات الآخر وتقاليده وعقائده وطقوسه؛ سألنا رجلاً مسنّاً كان واقفاً إلى جانبنا: “مين هدول الناس وشو عبيعملو؟” فأجاب: “هدول إخوتنا الشيعة الإيرانيون”.

في تلك الفترة، كانت هيلين إحدى الصديقات الكُرديات المقرَّبات. كان الخجل أحياناً من سيطرة العربية على تواصلنا اللغوي، دافعاً إلى محاولة تعلّم بعض مفردات لغتها. قالت مرةً، بينما كانت تعلّمني، إن اسمها في اللغة الكُردية معناه “عشّ العصفور”. كانت تكتب لي المفردات الكُردية، بأحرف عربية، إذ لم تتعلّم الكتابة بلغتها الأمّ، المحظورة في “بلاد التعريب”.

كان مهيمناً على شخصية هيلين وسلوكها، الإحساس بأنها من أقلية قومية غير محمية ومسلوبة الحقوق في بلدها. كان ذلك يظهر بوضوح عندما يحدث أحياناً أن تسرد بعض تفاصيل قمع الأجهزة الأمنية لها ولعائلتها وللأهالي في مدينتها القامشلي، في الحادي والعشرين من آذار من كل عام، أي في عيد النوروز. إذ كان الأمن، كما كانت تروي، يمنعهم من إشعال النار، وغير ذلك من طقوس خاصة بتقاليد الاحتفال بالعيد نفسه، وأحياناً كان يطلق عليهم النار.

آنذاك، كنّا نحسّ أكثر مما نفهم، أن ثمة ما يهين الكرامة، متغلغلاً في كل شيء. ظلَّ ذلك على ما يبدو، يشحن الوعي الفردي والجماعي، إلى أن تفجَّرت الثورة، وصار يُفهَم لماذا كان يُسمَح للغريب بأداء الدور الذي يريد على مسرح البلد، ويُستبعَد ابن البلد كغريب، وتُلقى عليه تعاويذ السيادة الوطنية والاستقلال، وخرافات البطولات القومية. ولماذا كان الأكراد السوريون مثلاً، محرومين من أبسط الحقوق، كتعلّم اللغة الأمّ، أو التكلّم بها في الفضاء العام، أو حتى تسمية حديثي الولادة بأسماء كردية. ولماذا كان الأمن “يشحط” عاشقَين سوريين يجلسان تحت شجرة في حديقة عامة، ويُبتزّان باتهامات بشعة، بينما يُرخَّص للبيوت اللاأخلاقية، وتُفتح الأبواب على مصاريعها للخليجيين وأمرائهم في “مواسم” الصيف.

يفهم مَن ثار من السوريين بوضوح الآن، لماذا كانوا لا سوريين إلى هذا الحد، ولماذا يصول الإيرانيون وأذرعتهم في عراق المالكي ولبنان “حزب الله”، ويجولون في سوريا قتلاً وتدميراً، من دون حسيب أو رقيب.

بعد اندلاع الاحتجاجات السلمية في درعا بجنوب البلاد 18/3/2011، على إثر واقعة الأطفال الشهيرة، أطلّت مستشارة الرئيس في خطابها الطائفي التحريضي الشهير، وتحدّثت عن موضوعات شتى، كان من بينها، رشوة اسمها: “زيادة رواتب العاملين في الدولة”. فردَّ عليها أهالي درعا في تظاهراتهم: “يا بثينة يا شعبان/ الشعب السوري مو جوعان”. أدرك النظام أن الاحتجاجات لن تظل محصورة في درعا، فبدأ الاشتغال الحقيقي على الغرائز، والانحدار الممنهج بالبلد إلى مستوى العصبيات الطائفية والقبَلية والعشائرية والإثنية (القومية) والعرقية والمذهبية. اعتمد الأسد سياسة استمالة الوجهاء في المناطق المختلفة، بعد اتساع رقعة الاحتجاجات، والتقى مثلاً، بوجهاء مدينة دوما الثائرة بريف دمشق. فردّ عليه أهالي المدينة في تظاهراتهم: “بَدْنا نحكي عالمكشوف/ حراميّي ما بدنا نشوف”. عندما أصدر قانوناً أعاد بموجبه الجنسية السورية إلى عشرات الألوف من الأكراد السوريين الذين جُرَّدوا منها عام 1962، ردّ الأكراد في اليوم التالي لتلبية مطلبهم “التاريخي”: “ما بدنا جنسية/ بدنا حرية”، في تظاهرات عمّت شوارع الكثير من المدن والبلدات ذات الغالبية الكردية، ما أفصح عن وعي سياسي لدى عموم السوريين الثائرين، ولدى الشباب الكردي السوري الثائر، الذي يتجاوز أيديولوجيا الأحزاب الكردية التقليدية. وعي غير متمركز ثقافياً حول الذات، ولا تأسره ولاءات المناطق، بل ينحاز إلى الخيار الوطني السوري في الحرية التي سُمِّيت بها إحدى جُمعات الثورة السورية، بعد ترجمتها إلى اللغة الكردية، أي جمعة “آزادي” 20/5/2011. ساهم ذلك كله وغيره مما ليس هنا مجال التفصيل فيه، في تقويض محاولات النظام تصوير الاحتجاجات على النظام السياسي، وتطلّعات الشعب السوري الثائر إلى الحرية والديموقراطية، أنها مجرّد مطالب “مناطقية” أو “عشائرية”، وليست سياسية، وطنية، سورية، عامة.

في الشهر المنصرم، انتشرت في صفحات الثورة السورية على الـ”فايسبوك”، صورة جلاء مَدرَسيّ، أو وثيقة نجاح خاصة بالتعليم الأساسي (الحلقة الأولى) للعام الدراسي 2012-2013. يُوزَّع الجلاء في المدارس بالمناطق الكردية المحرَّرة مثل مدينة عفرين بريف حلب وقرى كردية أخرى.

أُطِّرَ الجلاء المستطيل الشكل، من الخارج، بثلاثة خطوط خضراء وصفراء وحمراء، وتوسطته رسمة صغيرة، عبارة عن كتاب مفتوح، أصفر اللون، تعلو من منتصفه شمعة. أما على الجهة الداخلية للجلاء، فقد أُدرِجَت أعمدة عدة، خُصِّص بعضها لأسماء المواد وبعضها الآخر لدرجات التلميذ في كل مادة. بين المواد، هناك مادة غير مألوفة بالنسبة إلى عموم السوريين، بمَن فيهم الأكراد أنفسهم، اسمها “اللغة الكردية”. وكل التفاصيل “الخاصة” في الجلاء، ضُمِّنَت في هوية عامة وطنية سورية، أشارت إليها كلمتا: “الجمهورية السورية”، كُتبَتا في أعلى الجهة الخارجية للجلاء.

بدا إدخال اللغة الكردية في المنهاج الدراسيّ، بمثابة إعادة اعتبار إلى هذه اللغة الحية التي لا يجوز أن تموت، وإلى أهل اللغة أنفسهم، الذين مُنعوا طويلاً، كأقليات قومية، من استعمال لغتهم في النواحي الأدبية والتعليمية والثقافية وغير ذلك. إذ اللغة ليست مجرّد قواعد وكلمات، بل هي انعكاس للحضارة والثقافة، وللروح البشرية، كما أنها ليست أداة للفكر فحسب، بل تشكيل للعقل أيضاً. مَن أدخل اللغة الكردية في المنهاج الدراسيّ للأطفال السوريين الكرد، يدرك، على ما يبدو، الأهمية القصوى لتعلّم الطفل لغته الأمّ أولاً، كون ذلك أحد أهم عوامل تكوين شخصية واثقة، مستقلة، غير مغتربة عن ذاتها، وغير تابعة للآخر في لغته وخصوصيته القومية والثقافية، إنما متحاورة معه ومتناغمة. خصوصاً أن الهوية القومية ليست مفهوماً مغلقاً ونهائياً، فهي قابلة للإثراء والأخذ والعطاء بشكل دائم.

ليست مادة اللغة الكردية فقط، كان شيئاً غير مألوف بالنسبة إلى السوريين، فخلوّ الجلاء نفسه من صورة “الأسدَين”، ومن أيّ صورة لأيّ شخص، أمر غير مألوف أيضاً، الأمر الذي يعطي الأهمية للقيمة العلمية فحسب، ويجرِّدها من نزعات الشخصنة والأدلجة، ويساهم، من ثمّ، في تحرير عقل التلميذ وتحريضه على التفكير العلمي.

تأطير الجلاء بخطوط ملوّنة ترمز إلى ألوان العلم الكردي، أمر غير مألوف كذلك. قد يترجم البعض هذا الإجراء، بنزوع انفصالي انعزالي. لكن في الإمكان قراءته في ضوء وقائع تاريخية كالتي أشيرَ إليها في ما سبق من السطور، أي الأخذ في الاعتبار الوعي السياسي الذي أفصحت عنه التظاهرات الشعبية ذات التطلعات الوطنية السورية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية الثقافية. فالسوريون بمَن فيهم الأكراد، ثاروا على نظامٍ طمسَ التنوع الثقافي والقومي والحضاري المهم في سوريا، وصهرَه في تجانس سديمي، محوِّلاً حيوية التنوع إلى “كتلة أسدية” يغيب فيها الروح الفاعل ويُقصى خارج التاريخ والزمن. وعليه، لا بد من أن تكون الثورة بديلاً أخلاقياً وسياسياً يكون للناس في فضائه، حرية التعبير عن خصوصياتهم الثقافية والحضارية والقومية والدينية والعرقية، وعن كل ما يمكن أن يثري التنوع والاختلاف، ويساهم في اعتراف الجميع بالجميع على قاعدة المواطَنة. هكذا، يصبح في الإمكان مثلاً، حلّ “القضية الكردية” ضمن الإطار الوطني السوري، عبر السعي إلى دولة الحق والقانون، التي تجسِّد وحدة المتنوِّع والمتناقِض والمختلِف. بدلاً من الأحلام القومية العابرة للحدود، التي تشبه ربما الحلم الطوباوي في الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة.

إن الحلم الذي طالما داعب مخيلة الكردي السوري، في أن يكون هو هو، ومعترَفاً به في دولة تحفظ الحقوق وتحتضن التنوع، قد يكون هو نفسه خلف إزالته كلمة “العربية” من تسمية الدولة في الجلاء المدرسيّ المذكور، لتحل التسمية العادلة: “الجمهورية السورية”، محلّ التسمية الإلغائية: “الجمهورية العربية السورية”. وعندما يحلّ العدل على الصعيد اللغوي – إذ اللغة ليست أداة للفكر فحسب، بل تشكيل للعقل أيضاً- لا بد أن يحرّض ذلك – في معنى ما- على السعي إلى أن يصبح العدل نفسه واقعاً مادياً عملياً. لأن “الجمهورية” بوصفها نظاماً حديثاً في الحكم، لا ينبغي أن تنحاز إلى قومية ما أو دين ما أو مذهب ما أو طائفة ما. الدولة التي تحقق أحلام السوريين جميعاً في الحرية والعدالة والمساواة، هي تلك التي تجسّد وحدة التنوع.

ينسحب ذلك على الجيش أيضاً، إذ لا ينبغي أن يكون الجيش منحازاً إلى قومية ما أو دين ما أو مذهب ما أو طائفة ما. كالانحياز الذي تشير إليه تسمية: “الجيش العربي السوري”. الجيش الذي ثبتت لاوطنيته، ولا سوريّته، ولاعروبيته، بعد اندلاع الثورة الشعبية في هذا البلد، وربما طوال عقود ما قبل الثورة. فهو لم يحمِ لا العرب من السوريين ولا غير العرب، كونه مصمَّماً أساساً ليكون حامي العائلة الحاكمة المالكة ونظامها. إن صدمة السوريين الثائرين بالجيش الذي طالما ظنّوه حاميهم، دفعت على ما يبدو، إلى تفتّح وعي ثوري يفكر في ضرورة أن يكون الجيش وطنياً سوريّاً حراً، لا يدافع عن نظام أو طغمة حاكمة، لا يضرب شعباً أعزل بالمدافع وبالدبابات والطائرات والكيميائي والسكود، ولا يتدخل في السياسة والحكم. بل يحمي الناس، ويصون أرض الشعب وعرضه ضد كل عدوان.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى