صفحات المستقبل

عش الزنبران/ عبود سمعو

 

 

على عجلٍ انتعلتُ حذائي ومضيت. حارتي التي ستمتلئ بعد ساعتين، أي في تمام السابعة صباحاً، بأصوات الأولاد الذين هم مستيقظون الآن بعيونٍ نصف مغمضة، على بطونهم رغيف خبز بائت يلوكونه بضجر وينتظرون الضوء، ضوء الشمس حتى يفيعوا مثل عشِّ زنبران (النحل الأحمر الكبير) قديم معلّق على حائطٍ طينيّ مائل. في حارتي يُعرَف الأولاد بأسماء أمهاتهم لتشابه أسمائهم، ولأنّ الأباء في حارتنا ذابوا في سَفَر الكرنك القرمزيّ.

هأنذا أغادرها وأذوب فوق مقعدٍ مهترئ خلف السائق بقرب نافذة يسيل عليها لعاب الفجر. سندتُ رأسي على بلّورها البارد. هذا الأزيز الناتج من ارتطام جبيني ببلّورها، هو حالٌ من التأمل قصوى، فالتأمل لا يحتاج دوماً إلى الهدوء. في رأسي تدور عجلات الذاكرة على طريقٍ ترابية، تثير خلفها غباراً كثيراً حتّى أنّني لا أعود أراني. فليس في وسع المكان أن يحتمل إيماءة مدينةٍ وأنتَ تغادرها على خلسةٍ منها. المدن راهباتٌ لا يغادرن الدير. أشيح بنظري من خلف النافذة المغبشة، فأرى ظلّه جالساً أمام البيت يحتسي الشاي وحيداً، ويترك كأساً فارغة لغريبٍ قد يأتي.

إبريق قديم بهت لونه، بمقبضٍ خشبي مكسور على حافة المصطبة. المصطبة العالية أمام البيت شاهدةُ قبرٍ، شاهدةُ انكسار تفوح منها رائحة الشاي المخمّر. آهٍ لو كنتُ معهم عندما حملوه في صندوقٍ لا يتسع لهدوئه ومضوا به مشياً إلى المقبرة الشمالية. آهٍ لو كنتُ معهم عندما تركوا تابوته منتصف الطريق واختبأوا، لكنتُ فتحتُ التابوت وأقنعتُه بأن نعود إلى الحارة نحتسي الشاي بارداً وندخّن سجائر “الشرق” الرخيصة.

أحمد صديق الشعراء وأنيسهم، يتقن فن الصمت حتى يكاد يسبقه.

الموت هو ذاك الغريب الذي كنتَ تتركُ له كأساً وتنتظره. حديث المقابر شاسعٌ رغم أنّه لم يعد يتسع لقبرٍ جديد.

أمضيتُ أسبوعاً وأنا أمشي على أطراف أصابعي حين فوجئتُ بأنني مشيتُ حافياً فوق الشوك والحجارة الصغيرة الحادة على طول مقبرة “الشيخ عقيل” متمسّكاً بطرف الصندوق الخشبي الذي في داخله صديق عمري نمضي به سريعاً كي نشتله في تراب المدينة شجرةَ صفصافٍ حائرة.

بدايةُ كلّ تأملٍ ذكرى، ونهاية كلِّ ذكرى بكاء.

الفجرُ هنا باردٌ، والدمار المنتقى في المدينة لا لون له ولا رائحة، لكنّه حقيقة. حقيقة مطلقة.

أرى سرب نسوة لا يبدو منهن إلا عيونهن تحمل كلٌّ منهنَ جاطاً من البافون على رأسها، تظهر منه خمسة سطول من الخاثر (اللبن) يذهبن به إلى السوق. يُصدر السائق ضجيجاً وهو يفتش عن الفلاشة، يجدها، يضعها داخل المسجّل ويبدأ بتغيير الملفات الصوتية. الزمور الصغير الذي يصدره المسجل بين ملف صوتي وآخر، يحفر في رأسي عميقاً حتى يستقرّ على صوت عبد الباسط عبد الصمد فأستريح.

من أنا؟ وإلى أين أذهب؟ كيف وهل؟ أسئلةٌ لا طاقة لديّ لأجيب عنها.

لا أحبّ سارتر ولا علاقة لي بالوجودية.أتظاهر بأنّي نائم كي لا أتعرض لسؤال من صديقي الذي يجلس بجانبي ويمسك ملخصاً عن السقوط الحر وقانون الجاذبية. صديقي الذي يجلس بجانبي كنتُ أهرول جانبه ونحن نجتاز معبر الموت في حيِّ بستان القصر في حلب.

عامان يا حلب.

بهويّةٍ مكسورة وكيسٍ فيه أمتعتي وكتاب قانون العقوبات  وملخص لمصادر الإلتزام وأحكامها. كنتُ طالب حقوق قبل عامين. الآن أحمل الكتب للتمويه. عبرتُ مدناً سوريّة ومررت بأعلامٍ كثيرة. شربتُ الفودكا بصحّتك يا وطني حتّى ثملنا. حدّثتَني عن الثورة التي لا تموت، لأنّ بنا نهماً إلى الحريّة. حدّثتُكَ عن علا حبيبتي العَلويّة، وعن فراس الإسماعيلي، ووداد الكردية، وأسمهان الدرزية، وبيدان الشركسي، وحنّا المسيحي، وعن ريماس المرشدية، وعن مهيب الملحد وعن…

نحن سحابة ملوّنة في سمائكَ يا وطني السوري.

سمعتكَ تقول: “سحابةُ شتاء ملوّنة، سحابةٌ حلوةٌ حبلى ستنجب ضوءاً”. ثم حدّثتَني عنكَ لأنّكَ آخر شاخصة معلّقة في ذاكرتي.

أنا ماردٌ سوريّ انتهتْ مدة إقامته في بيروت

كلّما رأيتُ دوريّة للأمن أشعل سيجارةً وأتعثّر بعود ثقاب

أحدّثُكَ الآن عن شغف اليتامى وأسرار العاشقين وموت الشعراء السريريّ بعيداً عنكَ.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى