صفحات الثقافة

“عصيّ الدم” لمنهل السراج


في وقت الخداع العالمي يصبح الجهر بالحقيقة عملاً ثورياً

    فاطمة عبدالله

ليس محض مصادفة عبثية ان تعيدنا منهل السراج عبر روايتها “عصيّ الدم” (دار الآداب) الى ثمانينات القرن الماضي يوم ارتكبت آليات الأسد الأبّ الحديدية مجازر حماة الشهيرة، محدثةً في التاريخ والذاكرة حفراً مأسوية، فيما سوريا تتخبط وسط اشكاليتي الخير والشر وما يريده الشعب وما لا يريده النظام. انها أوقات الخداع العالمي حيث يصبح الجهر بالحقيقة عملاً ثورياً، كما افترض جورج أورويل.

لوهلة، تبدو السيناريوات ذاتها، مقيتة وملعونة. لم يتبدل ما ينذر بكنس الشياطين ذبّاحي الأعناق ونهّاشي الجثث المضرجة بالدماء. سوريا محكومة من آل الأسد منذ نقطة الحليب الأولى، بالسكين نفسه، لا بل بالدبابات والهراوات والأخشاب الفكرية نفسها. كاتبة الرواية، المقيمة في ستوكهولم منذ سنوات، لم تستطع ان تنسى شيئاً، حتى أكثر اللحظات كسلاً. في ذاكرتها مشاهد تستفز العين على التقيؤ. ثلاثون ألف قتيل، أربعون ألفاً، وذل وقهر. كيف كانت حماة وكيف أصبحت، ثنائية تشبه مضاجعة الشبح بالنسبة اليها. أكثر ما يؤلمها، ويجعلها على شكل شظايا مهزومة، مشهد رجال الأمن يسيرون بثقلهم في ذاكرتها. هم العقاب الذي كُتب للسوري قبل ان يولد. هم حاضرون في الخيال والواقع، في الضمير ووراء الأبواب. عبر بطلة روايتها، فداء، تستحضرهم بكل ما يعنيه وجودهم من تنكيل وتعذيب وفساد ورشى وعيون تشتهي النساء. انهم خدّام النظام، روبوتات تُدار بالريموت كونترول من تحت الأرض.

قد يجد القارئ صعوبة في الفصل بين الكاتبة وبطلتها. كلتاهما من حماة، وكلتاهما انتهت بها الحال في العاصمة الأسوجية بعد معاناة. واقع فرض قذارته على الرواية. نقرأ: “يُقاد المواطن كنعجة، والجزار يقوم بالذبح باعتياد. فإذا كانت النعجة تذبح لتفيد ببضعة كيلوغرامات من اللحم، فإن المحقق يستثقل حتى عبء أجساد الضحايا. أين يذهب بكل هذه الجثث؟”. انه مشهد المحقق يسلك سلوكاً هستيرياً لشدة انشغاله وتعبه من كثرة ما عذّب من مواطنين، ومن قلة النوم وكثافة أعداد الضحايا، فيتوقف من الضجر. “الأقرف” من هذا كله، النزول الى الشارع قسراً للهتاف بالروح والدم والولد للرئيس والدعاء له بطول العمر، مع شعارات غالباً لا يعرف رافعوها ما كُتب عليها.

عائلة مؤلفة من خمس بنات، وثلاثة شبان، والأبوين فؤاد وسعاد، تقدم نفسها نموذجاً مكثفاً للمجتمع الحموي آنذاك. نشأت العائلة بين أب واظب على تعليم بناته، ومجتمع يرى البنت لبيتها وزوجها وسجادة صلاتها، فما الذي يحوجها الى الشهادة والجامعة. الأحداث واقعية وأليمة تقبع في العتمة حيث تحضر اللحظة بخجل لكأنها ترى عضواً ذكرياً ينقط، فيدهمها الغثيان. تمر شخوص الرواية على غالبية مكونات المجتمع السوري من إخوان مسلمين وشيوعيين ونظام وشيعة، ليتكون نهايتها التمزّق والتشتت. هذه الابنة الكبرى فداء، تُعجب بزميل شيعي في الجامعة، لتنتهي زوجة لآخر من طائفتها اسكاتاً لألسنة المجتمع. تكتشف انه أسوأ الرجال على وجه الأرض، فينفصلان في أسوج، مكان اقامتها الجبرية، لتحاول عبثاً التأسيس لحياة جديدة. تلك غادة، أحبّت الموسيقى من صغرها ولم تنلها لأنها كانت من حق أولاد المسؤولين، لتنتهي منتحرة بعدما اقتيدت الى التحقيق لانتمائها الى مجموعة شيوعية في الجامعة، وطلب المحقق منها ان تأتي اليه بملابس داخلية حمراء مزوَّدة تقارير حول نشاطات زملائها. مخلص، مدخن السجائر وشارب العرق، اقتيد الى التحقيق لانتماء أخيه الى “الاخوان”، وانتهى به الأمر منفياً وإياه الى السعودية.

دمرت المدينة بالكامل. استحالت فارغة، يائسة، مقهورة لا فرق فيها بين الصراخ والبكاء والرجاء والتعنت والصمود. الكل رحل يبحث عن وجود آخر يؤوي خيباته وسنوات الأسى التي دنّست بقايا الحياة. كثر تركوا وهاجروا، وكثر هاجروا ورجعوا، ومع الهجرة والعودة لم يحدث الا المزيد من البؤس واليأس. أخذهم الدمار بعيداً الى حيث يجرجر المشردون أجسادهم في انتظار الموت. الجميع دفع الأثمان الباهظة، من قتل واعتقالات ودهم وتفتيش وقطع أيدٍ لسحب أساور وشرم آذان لانتزاع أقراط. نقرأ: “هل الحكام من بشر، أم من آلهة تقلب الأرض والسماء، تسحق البشر والرزق من الوجود، وتقدم الشتاء على الخريف؟”. الحكام من حديد، أسنانهم تساقطت من قضم اللحوم، ومخالبهم محشوة بالأوساخ، سيسقط جبروتهم ليستكين الشهداء في قبورهم، وينتصر الأحياء على الأرض.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى