صفحات الثقافة

عطالة الثقافة… رهاب السلطة وأوهام المثقفين/ علي حسن الفواز

 

 

 

وسط أزمات الرعب والخوف التي تعيشها (الأمة العربية) تضع اللغة مجازها واستعاراتها وبلاغتها وسيميائياتها على الطاولة مثل حقائب مهملة، ويركن المثقفون أنفسهم في الزوايا هروبا من لعبة الأسلحة، والحكايات المفخخة.

هذا الهروب يكشف اليوم عن فشل الحكومات العربية في صناعة أي مشروع ثقافي، وفي تأهيل العمل المؤسسي أي تنمية ثقافية، مثلما يكشف عن فشل (الأنتلجنسيا) العربية عن الانخراط في صناعة رأي عام قومي، أو مهني يمكنه مقاومة الأفكار (القاتلة) والجماعات (القاتلة) والفرق غير الناجية. الفشل الحكومي والثقافي وضعنا وورطنا بشكل قهري مع تاريخنا الحافل بالمذابح، والسلطات المستبدة، وربما وضعنا أمام تاريخ استلابي لـ(الرقيق الثقافي) حيث يُباع ويُشترى الكثيرون، ليا ليكونوا (وعاظا للسلاطين) بل ليمارسوا وظائف القتلة أحيانا، وتسويق فتاوى القتل أحيانا أخرى.

غياب الملف الثقافي عن طاولات الحكومات العربية، وعن موازناتها الإستراتجية أسهم إلى حدٍ كبير في صناعة ظاهرة العطالة الثقافية، وفي تعويم الفكر الثقافي، وحصر الوظيفة الثقافية في إطار جهدها الصوتي، والعُصابي، أو في تكريس ثقافوية الخيبة والعجز والهزيمة، تلك ورثنا طقوسها منذ هزيمة حزيران/يونيو 1967 وإلى يومنا هذا، حيث تتسع دائرة الهزيمة والعطالة، وحيث يُطرد المثقفون بنوع من المنهجية خارج الفرضيات القومية، وخارج صناعات القرار.. وحين يتحدث الكثيرون الآن عن الملف الثقافي، فإنهم لا يتحدثون عنه إلّا بوصفه ملف أزمة، أو بوصفه ملفا للطوارئ، ربما هناك من يقف بالضد من ذلك، ويطالب باعتبار الثقافة وملفاتها – تاريخيا- جزءا من صناعة عقل السلطة، فلا توجد سلطة عربية تقبل بوجود ثقافة خارج أحكامها أو سطوتها أو فقهها، وأن أي مشكلة ثقافية نواجه تداعياتها هي تعبير عن مشكلة السلطة ذاتها، فنحن لم نرث عقلا مدنيا، ولا عقلا نقديا حقيقيا، وحكومة يكون المثقفون جزءا من (سيستمها).

هذا المعطى يضعنا أمام رعب الحديث عن الثقافة المستقلة، وعن مدنية المؤسسة الثقافية وحريتها، إذ بات الأمر ملتبسا وسط حروب ومهيمنات طاردة، ومواقف إقصائية، ووسط أوهام مركزية لا تؤمن بوجود المختلف والآخر، ولا تطمئن لأي شكل من الصناعات المضادة للمُقدّس البدائي، وللحزبي الراديكالي، وللطائفي الموهوم بالفكرة الناجية، إذ فرضت السلطة العربية، والحزبية العربية سياقات محددة لممارسة طقوسه وأحكامه داخل مؤسسات العقل السلطوي والعقل المركزي.. فهل يمكن القول إن الاعتراف بوجود صناعة ثقافية سيكون بداية الاعتراف بأهمية الملف الثقافي في الأجندة السياسية؟ وهل سيكون لوجود هذه الصناعة ضرورات تخص الحريات والأمزجة والخصوصيات، مثلما تفترض وجود التكنوقراط الثقافي المؤسسي؟

هذه الاسئلة وغيرها تبدو مهمة مع بداية الزمن السياسي العربي، مثلما تبدو ضرورية لإمكانية وضع الملف الثقافي على طاولة الكابينة الحكومية، وإمكانية إخراجها من التعويم، ومن الشرعة الطائفية، لأن (العرب) يتشابهون بعد كل محنة، لكنهم يفترقون حينما تتسع جيوبهم للأعطيات و(المكرمات) فيبدأون لعبة البيع والبيع المضاد.

فهل يمكن للمثقف العربي أن يعيد ترتيب أوراقه وأفكاره وفق هذه القراءات الافتراضية؟ وهل يمكن ان نفكر بجدية حول إمكانية إنتاج بنيات ثقافية قابلة لمواجهة عوامل التعرية السياسية والدينية والتاريخية، وهل يمكن التفكير جديا بشرعنة وجود بنيات تحتية للصناعة الثقافية كما يسميها الاقتصاديون، تلك التي تملك استشرافا لرسم خريطة طريق للتنمية الثقافية، باتجاه وجودها ضمن مستويات متقدمة من التنميات الوطنية، لصيانة المشروع الثقافي، ولتعزيز دور الثقافة والمثقف، التي يمكنها أيضا المساهمة في تأمين رأسمال ثقافي وقاعدة تقوم على أساس تراكم المنتجات الثقافية على مستوى السوق، وعلى مستوى وجود رأي عام يدافع عنها، ووجود قوانين تحميها، وتحمي (حصون) العقل الثقافي من أي انقلاب عسكري أو سياسي أو أيديولوجي قد يرميه إلى النهر أو إلى المزبلة؟

هذه الأسئلة المستفزة والمثيرة والمفارقة، قد تكون أمام الجميع، لكن الحديث سيرتبط أيضا، بالحديث عن (أي جميع)، فهو مفهوم غامض وملتبس، ويدخل في حساب (الخطاب السياسي) إذ لم يشأ من يجد في هذه الأسئلة مجالا للحديث عن رعب السلطة، وتاريخها في صناعة الخوف، وصناعة المؤسسة القمعية، تلك التي تشرعن وجود الاخصاء الثقافي، والطرد الثقافي. وبعيدا عن تحولها إلى فوبيا ضاغطة، فإن ترويض السلطة للثقافة والمثقف بات رهانا قارّا في السيرورة الثقافية التي تصطنعها الحكومات، تلك التي لا تنفضل عن تاريخ الرعب التاريخي، والرعب الأيديولوجي والانقلابي، فما صنعته الانقلابات (التاريخية) من رعب أضرّت العقل الثقافي بمستوى الأضرار التي تركتها الكوارث الطبيعية والغزوات الدامية، رغم أنّ تاريخنا الثقافي (القومي) للأسف حافل بهؤلاء الانقلابيين أكثر مما هو حافل بصنايعية الوعي، وعامر بالاستبداديين أكثر من مروجي الحريات..

ما ورثناه منذ أكثر من ستين عاما من العسكرة الانقلابية وحتى الثورية، ومن الأيديولوجيا وصناعات الحروب القومية وشعاراتها الفاقعة، وصولا إلى وكالات الفقه الأسود، والانتحاريين والتكفيريين وضعنا أمام رعب خطير لفوبيا الثقافة بوصفها صناعة للوعي المضاد، أو بوصفها صناعة جمالية مريبة ومخالفة للشرع، التي لا تفارق تهمتها القديمة باليسار واللبرلة الشغوفة دائما برفض الهيمنة والظلم والمركزة..

كراهية الثقافة تحول للأسف إلى سلوك عنفي من قبل الكثير من الحكام والمسؤولين الأيديولوجيين والعسكر والفقهاء، حدّ أن البعض يبدو كأنه يعيد صورة غوبلز النازي في التعاطي مع صورة المثقف والثقافة، وهذه الكراهية عطلت الكثير من برامج العمران الثقافي، إذ أن الذين يكرهون الثقافة والمثقفين، يتحسسون من أي عمل لشرعنة أي معطى عقلاني أو تاسيسي للصناعة الثقافية، تلك التي قد تسهم في إنماء العقل، وفي تحسين شروطه في التعاطي مع قيم الحرية والمواطنة والجمال والفكر والدولة والحداثة..

كاتب عراقي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى