صفحات العالم

علاج الأزمة بالصدمة هل ما زال ممكناً في سوريا؟


دمشق ـ غازي دحمان

سوف يسجل تاريخ الازمة السورية، بأن وزير الخارجية التركي ، أحمد داوود أوغلو، وبتفكيره الإستراتيجي العميق، كان من بين القلائل الذين قرأوا آفاق الحدث السوري ووصلوا باكراً إلى طرح مخرجات سياسية منطقية تتفق وحجم الأزمة وطبيعتها. فقد دعا الرجل إلى العلاج بالصدمة للخروج من أتون أزمة، هي في الواقع أكبر بكثير من قدرة الذهنية الأمنية السورية على التعاطي مع إستحقاقاتها، إنطلاقاً من الخبرة التاريخية لهذه الذهنية في التعامل مع أزمات سابقة، حيث اقتصرت العلاجات حينها على الحلول الأمنية وحدها، وكأن أوغلو أراد إراحة سوريا من مخاض عسير ما زالت تتخبط في ثناياه.

حينها، لم يكشف أوغلو عن تفاصيل وصفته، وقد يكون ذلك قد حصل عبر الرسائل السرية المتبادلة بين قيادة البلدين. إلا أن التقديرات الدبلوماسية رأت أن وصفة العلاج بالصدمة لابد ان يكون الوزير التركي قد استشف بنودها من واقع الأزمة وحيثياتها، فالأزمة تخلقت من واقع القمع الذي تعيشه سوريا منذ عقود ومن واقع هيمنة أجهزة الامن وتحكمها بكل تفاصيل الحياة، ومن حقيقة موت السياسة برجالاتها وفكرها وممارساتها، وأيضاً من حقيقة إحتكار الدولة وتحويلها إلى شبه مزرعة لعائلات بعينها ليس للشعب فيها سوى دور الخدم.

على ذلك، فإن الازمة لم يكن بالإمكان حلها على الطريقة السلطوية السورية، القمع بيد، وتقديم بعض الأعطيات الشكلية باليد الأخرى، والحفاظ على مملكة الصمت، مع بعض التعديلات الطفيفة، التي لا تناسب الشعب بقدر ما تضمن إعادة إنتاج شروط الحكم بطريقة أكثر جدوى تتلاءم والمتغيرات الإقتصادية العالمية التي يعيش في ظلها مدراء الحكم السوريون كأن يصار مثلاً إلى زيادة مرتبات الموظفين من خزينة الدولة ليقوموا بشراء المنتجات التي يحتكر إنتاجها واستيرادها المدراء بأنفسهم.

وواضح أن العلاج بالصدمة أريد منه، في هذه الحالة ، تفكيك أساسات الأزمة، بما فيها من بنى أمنية متخلفة وقاهرة، وحالة سياسية عاطلة عن العمل، وواقعا إقتصاديا لم ينتج سوى الحرمان والبؤس، وبمعنى من المعاني، يتطلب العلاج بالصدمة قيام الرئيس بشار الأسد بالتخلي عن الدوائر الأمنية المحيطة به، والأكثر من ذلك، تقديم رؤوسها إلى المحاكمة والمساءلة، وإعادة بناء الحياة السياسية في سورية عبر التخلي عن إحتكار البعث للسلطة، والبدء بالعمل بنظام إقتصادي يحقق مصالح الشعب ولا تكون عوائده لفئة محددة وصل بها الإبتذال والفجور إلى حدود الإستفزاز القاتل.

لا شك أن هذا النمط من العلاجات يتطلب الإقدام على تضحيات كبيرة من النظام، قد تكلفه التخلي عن مراكز قوة مهمة فيه، كما أنها تحرمه من أوضاع وإمتيازات أسسها عبر عقود لنفسه، الامر الذي يدفع إلى الإعتقاد بسذاجة مثل هذا الطرح، فمن غير المتوقع أن يقبل أي نظام بإضعاف نفسه وتعريض بنيته للخطر، لكن في المقابل ، يجب التوقع بأن العرض التركي قد حمل الكثير من الضمانات للنظام السوري، ولعل من أهمها إعادة تموضع هذا النظام في البنية السورية بطريقة اكثر عصرية وتحقق له الشرعية الداخلية والخارجية.

ولعل ما يؤكد ضياع مثل تلك الفرصة ( النصيحة ) التي اجترحها الأتراك في حينها، وقائع تطورات الأزمة في سورية، والتي تبدوا بعد ستة أشهر من إنطلاقها ، تسير بإتجاه إنسداد سياسي واضح، فبرغم محاولات السلطات في سوريا القيام بإجراء تعديلات سياسية معينة، إلا أن الأزمة ما زالت عند مربعها الأول، أقله لجهة إستجابة حركة الثورة لسلسلة الإجراءات السلطوية، والتي لا ترى فيها سوى محاولات فارغة للإلتفاف على الحراك الشعبي ما دامت هذه الإجراءات لم تتطرق حتى اللحظة إلى أساسات الأزمة التي تتلخص بتغيير آليات عمل النظام الأمنية والسياسية والإقتصادية، تلك الاساسات التي تمس حياة الناس بشكل مباشر، وتؤثر في عيشهم وأمنهم، والتي لا يستقيم الحديث عن إصلاحات سياسية وإنتخابية وإعلامية في ظل استمرارها.

لقد حملت النصيحة التركية فرصة مهمة للنظام السياسي في سورية، ووفرت له، ولسورية، فرصة لتجاوز الأزمة، قبل الخوض في بحر الدماء من درعا إلى دير الزور، مروراً بحماة وحمص وإدلب، ولا أحد يستطيع التنبؤ بآفاقها، كما منحته فرصة إعادة صياغة الحياة السياسية في سوريا وضمان وجوده كمكون له وزنه في هذه الصياغة، إضافة إلى إمكانية عودته كفاعل إقليمي مهم، وهذه الفرصة، أو الفرص، تبدو اليوم وقد تضاءلت كثيراً حتى مع عودة تركيا على العمل على خط الأزمة، لأن الواقع قد تغير، ولا بد أن الأتراك أعادوا حساباتهم بما يتناسب وواقع هذه المعطيات المستجدة

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى