صفحات الرأي

علم الاقتصاد أخفق في توقع الأزمة المالية… لكنه حال دون انهيار كبير/ غريغ إيب

 

 

في مطلع آب (أغسطس)، دانت محكمة يونانية خبيراً اقتصادياً جزاء إنجازه عمله. ففي 2010، تولى أندرياس جورجيو دائرة الإحصاءات اليونانية، ودقّق في أرقام الدين اليوناني بناءً على معايير الاتحاد الأوروبي. ومذ ذاك، سعى مسؤولون يونانيون إلى إلقاء لائمة إجراءات التقشّف والصعوبات الاقتصادية التي تلتها عليه. واستقبل الخبراء الدوليون إدانة القضاء اليوناني جورجيو أخيراً، بعد تبرئته أكثر من مرة، بالإحباط والحيرة. فهم يرون ان عمله نموذجي. وحال جورجيو هي مثال مدقع على حط الناس من شأن الاقتصاديين وتحقير خبراتهم في اصقاع العالم. فإثر تحذير حاكم بنك انكلترا، مارك كارني، في العام الماضي من تقويض الانسحاب من الاتحاد الأوروبي الاقتصاد البريطاني، طالب برلماني مؤيد للانسحاب بإقالته. وحين قال مكتب الموازنة في الكونغرس إن استبدال قانون «أفوردبل كير آكت» (قانون الرعاية الصحية) سيزيد عدد غير المستفيدين من تأمين صحي في أميركا ملايين، طعن فريق دونالد ترامب بعمل الوكالة هذه، ووصفوه بـ «أخبار كاذبة».

وكثر من الناخبين يشاركون السياسيين ازدراء الخبراء. وأكثر من 40 في المئة من الأميركيين لا يثقون بالبيانات الاقتصادية الفيديرالية. وهذا الارتداد على رأي الخبراء يعود الى الأزمة المالية الشاملة قبل 9 سنوات، ولكن هذا الحنق عليهم ليس مرده فحسب الى إخفاقهم في استباق الأزمة أو في شرح المأساة. فاليوم، يتعاظم الشرخ بين الاقتصاديين وبين الجمهور. ويتباهى الاقتصاديون بأنهم أكثر علماء علوم الاجتماع، «علمية» وأخذاً بالمعايير الحسابية. فهم يدرجون الدواعي الإنسانية والسلوكية في خانة المتغيرات الكمية. ولكن الناس ليسوا «كميين»، ودواعيهم غالباً ما لا تستند الى اسس اقتصادية. واليوم، لا حلول اقتصادية لأكثر المسائل إثارة للانقسام، منها العدالة وتعاظم هوة اللامساواة والهوية الوطنية والثقافة. وحين يلقي الاقتصاديون خطابات عن حسنات العولمة وحلول السوق، يرى يساريون انهم يفتقرون الى الأخلاق، ويأخذ عليهم يمينيون أوجه الشبه بينهم وبين النخب المعولمة التي تزدري الوطنية والقومية. ولكن شغفهم بالأرقام هو ما يجعل خبراتهم لا غنى عنها. فهم يجرّدون المشكلات الداهمة من الانفعال، فيسلطون الضوء على أمثل السبل لتذليلها.

وأبصر الاقتصاد النور في القرن الثامن عشر، وكان من فروع فلسفة الأخلاق. وكان رواده الأوائل، ومنهم ديفيد هيوم وآدم سميث- يرون أن تحرير مصالح الفرد، عوض انسياقه وراء السلطة الدينية أو السياسية، يعظم رفاهية المجتمع. وهذا ما ساقه آدم سميث في كتابه البارز، «ثروة الأمم» (1776)، ودار كلامه على «اليد الخفية» في السوق المنعتقة من القيود والعوائق. ولكن اقتصاديي اليوم، يرون ان كتاب ديفيد ريكاردور، «مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب» (1817)، خلف أثراً أبلغ من المنعطف السالف («ثروة الأمم»). وشطر كبير من الناس اليوم لا يفاجئهم اختيار طبيبة تزجية وقتها في علاج المرضى، والدفع من عائدها لمربية مقابل اعتنائها بأولادها. ويعود الفضل الى ريكاردو في ادراك الاقتصاديين ان المبدأ هذا نفسه يصح في الدول. فالعامل الأميركي المتوسط قادر على تصنيع عدد عجلات (إطارات) يفوق العدد الذي ينتجه عامل أجنبي، ولكن قدرته على انتاج الحبوب أكبر، لذا، ينصح بأن تصدّر أميركا الحبوب وتستورد العجلات. وهذه النظرية تعرف بـ «الميزة التفاضلية». وأشاد ريكاردو بقوة التجارة الحرة وقدرتها على ارساء السلام، وكتب:» تشد أواصر مجتمع الأمم في العالم المتحضر من طريق رابطة المصالح المشتركة والمبادلات». ويجمع الاقتصاديون على ان العولمة تعزز الاستقرار السياسي والتعاون. ولكن الناس لا تستيغ اعلاء شأن المصالح المادية ودواعيها، وترى انها كريهة. وفي 1790، كتب ادموند بورك- وجمعته صداقة بهيوم وسميث- في «تأملات في الثورة الفرنسية» أن عهد الفروسية انقضى. وتلاه عهد السفسطائيين (والمفكرين)، والاقتصاديين، والآلات الحاسبة (المحاسبين)، وخلص الى ان «مجد اوروبا خمد». وتعاظم نفوذ الاقتصاديين في القرن العشرين. وولّدت الأزمة الكبرى (1929) الاقتصاد الكلي، الذي يدرس سبل تفاعل الاستهلاك والاستثمار والعائد ومعدلات الفائدة. وفي سبيل أدوات أمثل لإدارة الاقتصاد، فوّضت الحكومة الفيديرالية الأميركية اقتصاديين في ثلاثينات القرن العشرين حساب قيمة الناتج المحلي العام. وكان الكونغرس على قناعة مفادها ان الاقتصاد لا يُترك على غاربه لأجهزته، وأصدر قانون التوظيف في 1946 الذي أنشأ مجلس المستشارين الاقتصاديين لتوجيه الرئيس ومدّه بمشورة الخبراء. وفي 1947، توسل بول سمويلسون في كتابه النافذ والذائع الصيت، «أسس التحليل الاقتصادي»، بالرياضيات لإرساء طابع رسمي أو مراجع علمية لمسلمات الاقتصاد. فأطلق ثورة زودت الاقتصاديين بنهج متماسك لشرح السلوك الاقتصادي وتحليله. فزاد التزام الاقتصاديين بالعلوم الفيزيائية لبلوغ القدر نفسه من الوقائع الموضوعية وكسب قدرة كبيرة على التوقع بأطوار الاقتصاد والأزمات. ولا شك في أن الاستناد الى الرياضيات والعلوم الفيزيائية ساهم في توضيح الفكر الاقتصادي وتشذيب شوائبه، ولكنه لم يساهم في زيادة القدرة على التوقع والاستباق. ولم يسع الاقتصاديين توقع الأزمة المالية بين 2007-2008، ناهيك عن الانكماش الذي تلاها. ولم تتخلص الاقتصاديات من الانحياز (الى جهة أو عقيدة). فالاقتصاديون حين ينصحون الرئيس أو رؤساء الوزارة يسكبون تحليلاتهم في قوالب تثبت صواب رؤاهم الاقتصادية. وفي العقود الأخيرة، طُعن في مكانة الاقتصاديين على منوالين. فالطعن الأول، وهو ذائع في اوساط اليسار، حجته تقول إن الاقتصاديين أسرى افتراض مفاده ان افعال الأفراد منطقية وتصب في مصلحة واحدهم. ويقول اصحاب الحجة هذه ان إنفاقنا وعادات الاستثمار غالباً ما تنقاد الى الانفعال ومبادئ عامة تستند الى التجربة، والجهل وضعف البصيرة. ويرى هؤلاء ان الأزمة المالية هي خير دليل على ما يقولونه، فالمصرفيون من اصحاب الرواتب المرتفعة وعملائهم، تسلحوا بالتقنيات الاقتصادية، وغالوا في المغامرة العالية الأخطار فأوشكوا على تدمير النظام المالي الشامل. والطعن الثاني يتحدر من الشعبويين ودعاة رابطة الأرض (معاداة المهاجرين)، والحركات القومية في اكثر بلدان المعمورة ازدهاراً. ويرى الاقتصاديون ان الحدود الوطنية والسيادة هي عقبات أمام حرية حركة السلع ورأس المال والأشخاص. ولكن حركات اليمين الجديدة ترى ان العوامل هذه (الحدود والسيادة…) هي الشرط المسبق للهوية واللُحمة. وكثر من البريطانيين اقترع لبريكزيت (الانسحاب من الاتحاد الأوروبي) لأنهم يرجحون كفة ضبط الهجرة وقوانينهم المحلية على كفة الميزات المالية المترتبة على الانتساب الى السوق الأوروبية المشتركة.

وفي اليونان، لا يُصلى الاقتصاديون الارتياب فحسب، بل يلاحقون امام القضاء. ففي العقد الذي تلى عام 2000، طعنت «يوروستات»، وهي ذراع الاتحاد الأوروبي الإحصائية، في دقة الإحصاءات اليونانية واستقلالها السياسي. كان تضخم العجز في 2009 وراء اندلاع ازمة اقتصادية اضطرت اليونان الى اعلان الإفلاس في 2010. وحين تولى جوجيو، وهو يحمل دكتوراه في الاقتصاد من جامعة ميشغان وأمضى 21 عاماً في صندوق النقد الدولي، مقاليد وكالة الإحصاء اليونانية في آب (اغسطس) 2010، راجع ارقام العجز والدين الرسمية مراجعة دقيقة فأشادت بعمل وكالته «يوروستات». ولكن السياسيين، على اليسار واليمين، اتهموه بتضخيم العجز اليوناني لتسويغ طلب الدائين من أثينا التزام سياسة تقشف. . ولا شك في ان بعض لائمة انقلاب الناس والسياسيين على الاقتصاديين يتحملها الاقتصاديون أنفسهم. فمخالفتهم السياسات الشعبوية غالباً ما تلون بلون توقعاتهم التي لم تصب. وحسِب الاقتصاديون البريطانيون ان «بريكزيت» سيشرِّع الباب امام اضطراب عظيم يودي بالاقتصاد والأسواق الى التهلكة. وتوقع اقتصاديون اميركيون أن يلقى اقتصاد بلادهم مثل هذا المصير إذا انتخب ترامب رئيساً. وهذه التوقعات، البريطانية والأميركية، لم تصب الى اليوم: اقتصاد البلدين نما نمواً بطيئاً لم ينقطع، والأسعار في اسواق الأسهم ارتفعت. ولا شك في ان ثمة أثماناً تترتب على بريكزيت وانتخاب ترامب على المدى الطويل، ولكنها قد تكون ضامرة وتعصى الرصد. ولكن الإخفاق في توقع مآل الاقتصاد، لا يسوغ التهم التي توجه الى الاقتصاديين. فالأزمات في جوهرها عصية على التوقع. وفي بحث صدر أخيراً، يقول ريكاردو رايس، وهو اقتصادي في «لندن سكول اوف إيكونوميكس» أن الإخفاق في توقع انهيار مالي لا يدين الاقتصاديات، شأن إخفاق الطب في توقع متوسط حياة المريض وتاريخ وفاته. وعلى رغم ان الاقتصاديين لم يتوقعوا أزمة مالية، ساهموا في لجم أضرارها ووقفها (الأزمة) من طريق التزام نظريات الاقتصاد والاستناد الى الخبرات. فعلى خلاف ما كانت عليه الدراسات الاقتصادية في الماضي القريب، تقلصت حصة الجانب النظري الى 28 في المئة من الدراسات الاقتصادية في 2011، في وقت بلغت حصة النظري في دراسات نشرت في 1963 في أبرز ثلاث مجلات اميركية اقتصادية، حوالى النصف. فالدراسات في 2011 صارت تستند الى معلومات تجريبية (امبيريقية) تستند الى البيانات العامة، والبيانات التي يجمعها الباحثون أو الاختبارات. واليوم، ليس الفيصل في المناقشات الاقتصادية الاستناد الى أمثل النظريات بل الى افضل البيانات (الداتا): فكفة الإحصاءات راجحة على كفة الحساب. والاقتصاديون اليوم شاغلهم القياس أكثر مما يشغلهم الحساب. ويتفادى الاقتصاديون التفسيرات البسيطة وغير المركبة. فهم مدربون على البحث عن التوازنات، ولسان حالهم إذا غيرنا هذا العامل، ما ارتدادت التغيير على العوامل الأخرى وما أثره فيها؟ ويسلط دعاة رفع الحد الأدنى للأجور الضوء على منافع يجنيها العمال، على خلاف الاقتصاديين الذين يسألون عما سيطلبه صاحب العمل ممن يتقاضى الحد الأدنى مقابل هذا التغيير؛ وعما سيدفعه للعمال الذين يتقاضون ما هو أعلى بقليل من الحد الأدنى؛ أو عن خسارتهم في السوق امام شركات ليست ملزمة رفع الحد الأعلى أو عن زيادة صاحب العمل الاستثمار (رداً على رفع الرواتب) في الأتمتة؟ وأنصار رفع التعريفات الجمركية على الفولاذ المستورد يقولون انه (الرفع) سيعود بالمنفعة على صناعة الصلب وعمالها المحليين. ولكن الاقتصاديين يسألون: ما مصير الشركات التي تستهلك الفولاذ حين تُرفع الأسعار، وما مصير العمال فيها والزبائن؟ وهل الاقتصاص من السلع المستوردة يرفع سعر الدولار وينزل الضرر بالصادرات الأميركية.

* صحافي، مراسل، عن «وول ستريت جورنال» الأميركية، 25/8/2017، إعداد منال نحاس.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى