صفحات الناسمالك داغستاني

على مقام «الصَبا»، موسيقى سجن صيدنايا/ مالك داغستاني

 

 

ليس من المألوف أن يغادر أي منّا فراشهُ حين تُفتَح أبواب المهاجع عند السابعة صباحاً، ففي الوقت متسعٌ قبل أن يصل طعام الفطور. اليوم الأخير من شهر كانون الثاني عام 1989 كان يوماً مختلفاً، وأغلبنا لم يلتزم فيه بهذا التقليد. بعد فتح الأبواب، وخروج الرقيب من الجناح، بدأ يتناهى إلى أسماعنا عزف أسعد على العود (في تلك الفترة، كنا قد بدأنا نميز ونعرف عن بعدٍ طُرُقَ عزف معظم الأصدقاء، حتى لو لم نكن نراهم). موسيقى عند السابعة صباحاً؟ ما باله هذا المجنون؟

واحداً تلو الآخر، غادر العديد منّا أماكنهم إلى الممر. كان أسعد شلاش (خريج معهد موسيقي في حلب) قد أخرج عودهُ وكرسيّاً (مجموعة كبيرة من أطباق البيض مضغوطة فوق بعضها ومربوطة بإحكام. تغلّفها قطعة قماش عتيقة من الأعلى. هذا هو تعريف الكرسي في السجن) وجلس مستنداً إلى الجدار في منتصف الممر، ليتفادى أن يسمع الحراس عزفه. دون أن ينظر إلى أي أحد منّا أو يرد على أي من أسئلتنا، تابع عزفه لحنَ أغنية نجاح سلام المعروفة «رقّة حُسنِك وسمارك».

كان في عزف أسعد للّحن شيءٌ جديد، ولا يبعث على البهجة كما هو في الأصل. هكذا، ولسبب ما، حَوَّل أسعد لحناً متعدد المقامات، ويمتاز بكثافة الطرب في مقام «البيات»، إلى لحنٍ خالص الحزن. في نهاية هذه المفاجأة الصباحية غير المألوفة، سيخبرنا أسعد: «أمس مات محمد عبد الكريم» (ملحن الأغنية).

سنعلم بعد سنوات، أنه وبينما كان جناحنا في سجن صيدنايا ينعى أسطورة عزف البزق بهذه الطريقة الخاصة (بعد أيام سيقدم كورس خاص الأغنية في كل المهاجع دون استئذان سكانها)، فإن قلّةً كانوا قد رافقوا جثمانه من مشفى الهلال الأحمر في دمشق إلى مثواه الأخير، بعد أن أمضى آخر سنواته وحيداً ومُهملاً، في غرفة متواضعة وسط حي «عين الكرش»، ليس بعيداً عن محكمة أمن الدولة العليا حيث سنُحاكَم أمامها بعد سنوات. يومها بدا أسعد وكأنه ابن الفقيد الذي يتلقى التعازي بوفاة أحد أهم آبائهِ. سوف يكرر أسعد دائماً: «فقط لو أُتيح لهذا العبقري ظرفٌ أفضل، لكان من أشهر موسيقيي العالم».

عودٌ وموسيقى في السجن؟ بل وأكثر.

في بطن الوحش

واحد من تعريفاتنا المتنوعة للسجن «أنه المكان الأمثل لاهتراء الروح»، ولذا كان من المحتّم علينا ومنذ الأيام الأولى، التفتيش عن آليات المقاومة للحفاظ على تلك الروح.

نعم، حتى في بطن الوحش، والوحش هنا فرع الأمن أو أحد السجون، «تدمر»، «المزّة»، «صيدنايا» أو أي مكان آخر حجزَ فيه نظام الأسد حريّة السوريين. نعم، حتى هناك يمكن اجتراح معجزة خلق فضاء للتنفس رغماً عن السجّان، لو امتلكنا الإرادة. كان يمكن الغناء همساً في فرع فلسطين بين جولتي تحقيق وتعذيب، ويمكن اكتساب المعارف وحفظ أبيات من الشعر في تدمر بين حفلتي إعدام. نعم يمكن ذلك فيما لو أردتَ، وكنتَ منحازاً للحياة. غنينا كل صباح وأجسادنا متورمة في الأيام الصعبة للتحقيق، كما غنينا ونحن في أشد حالات القلق حين تلا السجان أسماءنا للترحيل إلى سجن صيدنايا (لم نكن نعلم لحظتها أن سجن صيدنايا قد افتُتح، وظننا أننا ذاهبون إلى جحيم تدمر). ودائماً غنينا في أشد حالات اليأس وانعدام أي أمل.

أخذَ تجمّعنا في جناحٍ واحدٍ في سجن صيدنايا من الوقت عدة شهور، فالانتقال من فرع فلسطين إلى السجن بعد انتهاء التحقيق وصدور قرار بتوقيفنا لمدة مفتوحة دون محاكمة، جرياً على العادة السورية لنظام الأسد، استغرقَ تقريباً كامل عام 1988 حتى وصل معظمنا إلى هناك.

قبل وصوله إلى صيدنايا، كان أسعد قد عزف على العود في فرع فلسطين. ماذا؟ في فرع فلسطين؟ أجل.

بوساطةٍ ما، استطاعت عائلة ابراهيم وطفة (مهندس مدني) إيصال «طبخة ملوخية» إلى المهجع الثامن في الفرع. كان الطعام محفوظاً في أوانٍ معدنية، وكانت أكبرها بيدين جانبيتين. من صندوق خضار دَخَلَ المهجع، تم خلع واحدة من الأخشاب قبل أن يستعيده السجان. أسعد وبمساعدة من الشاويش اللبناني ماهر (سجين ورئيس المهجع)، الذي كان يحتفظ ببعض الممنوعات الخطيرة (مسماران وقطعة زجاج)، قاما بتحويل تلك الطنجرة إلى عود. سيتم إعداد قطعة الخشب بالمقاس المناسب عبر تشكيلها بواسطة كسرة الزجاج، لتكون الزند الذي تمّ تثبيته بمسمارين على يد الإناء المعدني. خمسة ثقوب في اليد الأخرى للوعاء المعدني، ومثلها على نهاية الزند. سوف تُربَطُ الأوتار الخمسة على خشبة صغيرة، وتمتد من ثقوب اليد لتمرّ في ثقوب الخشبة، وليُربَط كل وتر هناك من الأسفل بعودة ثمرة البرتقال. أعواد البرتقال تلك، وعبر تدويرها، سوف تشد الأوتار بشكل مناسب من أجل «الدوزان». أوتار؟ نعم، الأمر غاية في البساطة، ففي البطانيات والعوازل كانت هناك خيوط ماكينة الخياطة التي ستصلح لأوتار الجواب، أما أوتار القرار فقد تم جدلها من خيوط الجوارب. هكذا، بعد جهد ليس بالقليل صار لدى المهجع الثامن في فرع فلسطين عود. ليلاً وأثناء نوم الرفاق، كان أسعد ومحمد غانم (مهندس ميكانيك) الذي سيتقن العزف فيما بعد، يسهران في حمام المهجع. الأول يمرّنُ أصابعه (تكنيك أصابع) كي لا تيبس في ذاك المكان المعادي، والثاني يبدأ أولى خطواته لتعلم العزف. فيما تم صنع «ناي» من خرطوم بلاستيكي، ليكون لنزلاء المهجع وصلة صباحية موسيقية وغنائية.

رغم أنه لم يكن هناك عود في باقي المهاجع (كان معظم المحشورين فيها خريف 1987 من حزب العمل الشيوعي)، إلّا أنه كثيراً ما كانت تتناهى إلينا أصوات غناء، وبشكل خاص نسائي. سنعلم فيما بعد أن أغلب ما كنّا سمعناه، كانت أغنيات بثينة تنبكجي (مهندسة مدنية)، التي برعت بأداء أغاني فيروز. كانت تغنيها لزوجها نزار مرادني (مهندس مدني) المعتقل في الزنزانة المقابلة. كل هذا كان يحدث في بطن الوحش (قبو فرع فلسطين) في فترات الهدوء القصيرة، وقبل أن يبدأ عناصر الفرع تجوالهم الذي يوزّع الشر في الممر مع بدء الدوام، وبدء التحقيق وجولات جديدة من التعذيب، التعذيب الذي لم يتوقف يوماً.

معهد صيدنايا الموسيقي

في الجناح ألِف يمين طابق ثاني في سجن صيدنايا، وبعد أن تمًّ تجميعنا هناك، نحن معتقلي خريف 1987، كتب أسعد على ورقة علبة السجائر إعلاناً عن البدء بدورة موسيقية لتعليم العزف على العود ومرره على المهاجع. قبل فترة، وكنّا حينها ما نزال في الباب الأسود (الباب الأسود هو أربع مهاجع مقتطعة من الجناح ب يمين طابق ثالث، مغلق بباب مغطى بصفيح أسود، وهو مخصص لعزل المعاقبين من السجناء) قام أسعد بمساعدة عدد من الأصدقاء بصناعة عود مستطيل الشكل من خشب صناديق الخضار، أصعب ما فيه كان صناعة الزند، الذي احتاج إلى قطعة سميكة من الخشب القاسي تمّ انتظارها طويلاً حتى وصلت على زاوية أحد الصناديق.

في جناحنا الجديد سجل العديدون أسماءهم لدورة العود، وتم الاتفاق على أن يقوم أسعد بتدريس كل مجموعة في مهجع إقامتهم. بدأت الدروس، ومعها بدأت ورشات تصنيع الأعواد، ليصبح لدى كل مهجع عود واحد على الأقل. بعد الدرس كان المتدربون يتقاسمون بالدور ساعات النهار، ليقوم كل منهم بالتدرب على العود الخاص بالمهجع.

مع بدء هذه التدريبات، بدأت مأساة الجناح بكامله مع موسيقى العود. فالتدريب على العزف أمر مختلف، ولا يشبه العزف. كان عزف الطلاب (من المؤلم جداً، لي ولباقي قاطني الجناح، تسميته عزفاً في تلك الفترة) يشبه إلى حدٍّ كبير الضجيج المتواتر الذي يثير الأعصاب، وعلى مدار ساعات النهار. لجأ بعضنا هرباً من هذا الجحيم الموسيقي إلى السير في الممر. كان أطرفُ ما حدث أن أحد الأصدقاء من غير الطلاب قد طلب تسجيل اسمه في دور التدريب على العود، وعندما حانت ساعته أخذ العود ووضعه جانباً دون أن يستخدمه، ومع استغراب تصرفه أجاب: هذا دوري وساعتي التي سأستريح خلالها من (طنطناتكم) التي تقتلني.

في تلك الفترة كانت قد بدأت تصلنا بعض الكتب من أجنحة أصدقائنا المعتقلين قبلنا، ولسبب يساريٍّ مفهوم، كان إقبال الرفاق كثيفاً على قراءة كتب المفكر اللبناني اليساري مهدي عامل. هنا أيضاً صار لدينا سلسلة طويلة من أسماء الرفاق في دور الانتظار على قراءة كتبه، ترافق مع خلافات على الأحقية في الدَور (بعد عامين، وبعد البيروسترويكا، سيتحوّل الزحام إلى كتب ميشيل فوكو وغاستون باشلار). منير شعبو (مهندس ميكانيك) سيطلق يومها توصيفهُ الشهير لأزمتنا في الجناح: «اثنان خلقا الفوضى وخرّبا هذا الجناح، أسعد شلاش ومهدي عامل».

حفل التخرّج

مع مرور الأيام، اقتنعَ كثيرٌ من الرفاق طلّاب الموسيقى أنهم تورطوا في شأنٍ لا يمتلكون الموهبة التي تؤهلهم للاستمرار فيه. مع الانسحابات العديدة وتطور عدد قليل من المتدربين، أصبح العيش في الجناح مقبولاً إلى حدٍّ ما. بعد حوالي عام من التدريب، قرر مدير معهدنا الموسيقي إقامة ما يمكن وصفه بحفل التخرج. كان حفلاً استعرض فيه الخريجون مهاراتهم في العزف، سبقها كلمة عن الطلاب الخريجين ألقاها ابراهيم بيرقدار (مهندس بيتروكيميا) باعتباره متفوقاً في الدورة. عُزِفَت العديد من الأغاني والتقاسيم، وحاز الحفل على إعجابنا (نحن الضحايا السابقون للطنطنات).

خلال حفل التخرج وما بعده ستتم الإشارة إلى الطلاب المتميزين، والذين أثبتوا حقاً أنهم كانوا مؤهلين ليصبحوا عازفين مهرة. اثنان على وجه التحديد هما ابراهيم وكريم الحاج حسين بدأت تتبدى في عزفهم روح خاصة، إضافة لإتقان تكنيكات العزف. ابراهيم بيرقدار، وهو مقيم حالياً في مدينة «غازي عنتاب» التركية، ويشارك في العديد من الأنشطة الموسيقية السورية في المدينة ومع الأطفال في مخيمات اللجوء، شَعَرَ في بداية تدريباته بأن حركة أصابعه في العزف ثقيلة، فما كان منه إلا أن ربط (بطاريتين) من القياس الكبير بمطاط على ظاهر كفّه، وراح يتدرب مع هذا الثقل الإضافي. وتابع كريم الحاج حسين بشغف دراسته وعزفه حتى برع فيه. وكذا فعل كسرى الكردي (طالب مدرسة ثانوية) ودهام عبد القادر وموريس وانيس (طالب كلية الاقتصاد).

أما نحن باقي سكّان الجناح، فقد بدأت تتسرب إلينا، أردنا أم لم نُرد، بعض الثقافة الموسيقية، فنقاشات الرفاق الموسيقيين كانت تدور غالباً عما تحوَّلَ إلى همهم الأول. هكذا صرنا نعلمُ، على نحوٍ متفاوت، عن المقامات، النوتة، الصولفيج، الطبقة (الصوتية) والأوكتاف.

طرحةٌ على أكتاف ضيعتنا

هذه الأغنية قصةٌ لوحدها. من كلمات لصديق أسعد وابن بلدته الشاعر عبد السلام حلّوم باللغة المحكية (جاءت أساساً كجزء خاص ضمن قصيدة بالفصحى)، سيعزف لحنها أسعد على مقام «السيكاه» بلحن «الموليّا» الخاصة ببلدته وبلدة صديقه الشاعر، «سراقب» في ريف إدلب. مع الإضافات اللحنية الخاصة، واللوازم الموسيقية المطلوبة التي أعدّها أسعد، غناها كورالٌ من الأصدقاء بعد تدريب دقيق، وبتوزيع خاص للأصوات. كان هذا أول عمل بدا لنا احترافيّاً.

بعد أدائها في أربعينية خضر جبر، سوف ترافقنا هذه الأغنية، متكاملةُ العناصر، في معظم جلسات وسهرات الموسيقى في السجن، خاصة سهرات رأس السنة الشهيرة، ثم ستذهب معنا إلى ما بعد السجن أيضاً:

تعبااان.

تعبان جاي المسا، عجدايلك يغفى

لفّيه حزمة حطب، ما ظن سَبَل يخفى

عطشان بس الأرض تسقيه من كفّا

مجروح ريت الجرح وردات جورية

يا دييييب.

يا ديب صيح بغضب، تصْفَرِّ حنطتنا

والشمس طرحة قصب ع كتاف ضيعتنا

تنور نحنا الحطب، ما تنام جمرتنا

تلهب جدايل نارِ، تحرق ظلم ميّة

وتصيييح.

وتصيح أخت النسر، وتقول جابونو

دبكة ع الميلينِ، قوموا حنّونو

والدمع مانو دمع، هادا ندى عيونو

معليش يا خنجر عدو، شهيد الحرية

رفيقنا خضر جبر (مقدم في الجيش)، المعتقل منذ أكثر من عشر سنوات، كان قد أُطلِقَ سراحه قبل حوالي تسعة شهور بعد التأكد من استفحال مرض السرطان لديه، ليتوفى في مدينته السلمية ربيع عام 1990.

«أبو خالد»

«تم اعتقال أبو خالد». هكذا وصل الخبر إلى الجناح، وأبو خالد رفيق في الحزب (لم أكن أعرفه قبل السجن) اعتُقِلَ في مدينة حمص. كان لديَّ عيبٌ دائم (وما زال)، وهو أني أخلق تصورات عن هيئة الشخص من خلال اسمه. هكذا وبسبب مخزونات ذاكرتي، فمن الطبيعي أن أبو خالد شخص ضخم بملامح قاسية. وعلى الأرجح فإنه طويل بكفّين عريضتين (ما ذنبي؟ كان فرّان حيّنا عندما كنت طفلاً يدعى أبو خالد).

بعد شهور قليلة أحضر عناصر الشرطة شخصاً لا يستطيع المشي بسبب التعذيب، أدخله الأصدقاء حملاً إلى الجناح، وسمعت أحدهم يهمس: «إنه أبو خالد». ككل مرة ورغم شعوري بالصدمة، فإني لن أتوب عن بناء أشكال الآخرين معتمداً على أسمائهم. أبو خالد (اسم حركي) كان حسان عبد الرحمن (طالب كلية الطب في جامعة حلب)، وهو لا يشبه في شيء «أبو خالد» الخاص بي، الذي شكّلته في دماغي، وإن أردتم الحقيقة فهو نسخة معاكسة عنه. حسان تعلّمَ عزف العود منذ طفولته، وتابع تعلّم الموسيقى في معهد حلب للموسيقى أثناء دراسته في كلية الطب. ولأن عديدين كانوا يعرفون موهبته، فقد تم سريعاً صنع عود خاص له. هذه المرة لم يكن العود مستطيلاً، بل بالشكل الطبيعي للعود. تم استخدام قطع من الكرتون القاسي بدلاً من الخشب لصناعة رِيَش قصعة (ظهر) العود، وبعد لصقها بدقة، تمت تقسيتها بواسطة مادة غرائية استخرجت من نقع الخبز والمربى بالماء لعدة أيام. وهكذا بدا صوت العود وكأنه حقيقي، مع صدر خشبي وزند قابل للفك والتركيب لتلافي مصادرته أثناء حملات التفتيش.

«أبو الندى» شيخ الكار

لم يكن أبو الندى واسمه الحقيقي سمير عبده (عمل خاص، أربعيني من القامشلي) يجيد العزف على أية آلة موسيقية، ولكنه كان يملك صوتاً معقولاً، مع قدرة مدهشة على الأداء، ومعرفة غزيرة بالأغاني والموشحات القديمة والمقامات الموسيقية، اكتسبها بمشاركته في بعض الفرق الموسيقية والغنائية، إضافة إلى متابعة شخصية دؤوبة، وخاصة على يد موسيقيين مهمين في مدينة حلب.

أبو الندى لم يستطع الاعتراف بأن هناك من يفوقه علماً بالموسيقى في الجناح (هو محقّ بدرجة ليست بالقليلة). هذا الأمر سيشكل، بتحريض من بعض الأصدقاء (صنّاع الفتن) في جناحنا، مادة دائمة لتغذية التنافس بين أسعد وأبو الندى على حيازة لقب «المعلم». في يوم ما، سيقوم منير شعبو (مهندس ميكانيك، أحد أفضل مهندسي الفتن الطريفة في الجناح) وعلي الحكيم (طالب هندسة مدنية، شريك منير في فتنة الموسيقى) ومعن حيدر الذي يمكن وصفه بأنه كان في مثل هذه المواقف التمثيلية وكيلاً لإبليس في جناحنا. قام هؤلاء بتنظيم مظاهرة في الجناح. سيحملون أبو الندى على الأكتاف بمساعدة بعض المُريدين (كان لكل من أبو الندى وأسعد حزبٌ من المريدين، ساهم هؤلاء الثلاثي بدأب على هندسته وتنميته)، وبينما كانت المظاهرة متوجهة إلى المهجع الرابع حيث أسعد، مع الهتاف بحياة المعلم أبو الندى، فإن معظمنا خرج إلى الممر لاستطلاع ما يجري. أمام باب المهجع سيخرج أسعد رامياً عصا الطاعة، ومعترفاً أن منافسه هو المعلم الأول في الجناح، لتنتهي الفتنة الموسيقية في مهدها، بعد هذا الانتصار الاستثنائي الذي حققه شيخ الكار أبو الندى.

جميع المهتمين بالموسيقى في جناحنا استفادوا من معارف أبو الندى وثقافته الغنائية الأصيلة، وفي فترة لاحقة سوف يُقام حفل موسيقي غنائي خاص للقدود والموشحات، وكان له في تعليم تلك الموشحات للمشاركين الدور الأهم.

«الموسيقي الأعمى» في سجن صيدنايا

بعد سنوات من انقضاء سجننا سوف تروي سميحة نادر زوجة أحد الأصدقاء المعتقلين معنا، أنه بينما كانت مجموعة من النساء من أخوات وأمهات وزوجات المعتقلين ينتظرن على رصيف محكمة أمن الدولة العليا وصولَ سيارة نقل السجناء، فإنهن حَرِصنَ على عدم إصدار أصوات عالية خوفاً من ردة فعل عناصر الشرطة، التي يمكن أن تودي إلى عدم السماح لهن بما كنّا ندعوه «زيارة المحكمة»، إلّا أن امرأة بدأت بالصراخ عند نزول المعتقلين من السيارة، كانت تردد بصوتٍ عالٍ: «يمّه يا تركي، أنا هون… يمّه يا تركي، أنا هون». ستطلب منها الصديقة أن تكفَّ عن الصراخ: «الله يخليكي يا خالة لا تصيحي، هلق ما عاد يخلونا نشوفهن، تركي بيشوفك بدون صياح». وسوف تجيب المرأة: «يا خالة، تركي ما يقدر يشوفني. تركي أعمى».

نعم كما خطر في بالكم، فأنا أستعير هنا عنوان رواية فلاديمير كورولينكو. ولكني لا أنوي الحديث عن روايته، ولا عن بطرس بطلها. فقد كان لدينا في الجناح موسيقيٌ وأعمى، لكنه على عكس بطل كورولينكو، لم يقضِ حياةً رغدةً عافَهَا ومضى إلى مصيرٍ سيختاره بنفسه. رغم أن الأمر يحتاج بشدّة هنا إلى بعض الاستطرادات، إلا أنني ولأجل ألّا أفلت كثيراً ملفّ موسيقى السجن، سأحاول الاختصار.

تركي المقداد (خريج قسم الفلسفة. موسيقي، عازف أوكرديون وأورغ)، اعتقلته المخابرات السورية لسماعه جريدة حزبنا السرّية. نعم سماعهِ. فهو لا يرى ليقرأ، ولذا كان هناك من قرأ له الجريدة، ووصلَ الخبر عبر تقرير من مخبرٍ ما، إلى أحد فروع الأمن بما يفيد أن تركي واحدٌ من أعداء الوطن. بهذا المعنى، ولمعرفتهم برأيهِ (فقط رأيه) بنظام الأسد، اعتُبِرَ تركي معارضاً يجب سجنه وتحويله فيما بعد إلى محكمة أمن الدولة العليا.

الصولفيج وعلامة «سي» الموسيقية

كان تركي المقداد قد تعلّم وحفظ أصول الصولفيج في معهد تعليم المكفوفين بدمشق، وكغيره من المكفوفين فإن أذنه كانت مرهفة. المهتمون في الجناح سيطالبون تركي بأن يعلمهم الصولفيج. كحالنا في بداية دورات تعليم العود، بَدَت دورة «الصولفيج» لغير المشتركين بها تعذيباً حقيقياً. أحد الأصدقاء سيطلب من تركي: «أبو محمد الله يخلّيك. بعرِف إلغاء الدورة صعب، بس شو رأيك تبطّل تدربهم ع السي، والله انبخشت أدنينا».

كان الطلاب يجتمعون يومياً في ساعة محددة في الفسحة نهاية الجناح، وبعد أن يفترشوا البطانيات على الأرض، كان تركي سيطلب من أسعد أن (يدوزن) عوده على (تون) البيانو. ويبدأ الدرس، ومعه تبدأ حركة نزوح مؤقت لسكان المهاجع القريبة، ليحلّوا ضيوفاً على المهاجع الأبعد. حضر هذه الدورة جميع المهتمين، إضافة لمن أراد تعميق ثقافته الموسيقية.

كان تركي أثناء التدريب الصوتي الجماعي، يتمكن بطريقته من تمييز أصوات المُنَشّزين وينبههم بأسمائهم، ثم يطلب فردياً من كل شخص أن يؤدي العلامات الصوتية. يا للفضيحة، كانت النوتات الموسيقية تتطاير بأخطاء لا تغتفر في البدايات، وسوف يصححها تركي بطريقة لا تخلو من السخرية. عموماً تركي لم يكن يقدم نفسه على أنه الكفيف الذي يحتاج المساعدة. كان مثقفاً وذا بديهة لافتة، بل ولسان سليط أيضاً. وإضافة للصولفيج قام تركي بتدريس الموسيقيين أنواع الإيقاعات، وكان هذا تطوراً لافتاً استفاد منه الموسيقيون في الجناح.

أما نحن الجمهور الضحيّة، فكنا نميّز من مهاجعنا أصوات الأصدقاء يرددون علامات السلم الموسيقي، وفي تلك الفترة بدأت التعليقات العدائية والحاقدة على علامة «سي» الحادَّة في أصوات طلاب الصولفيج.

عود حقيقي و«كمان» أيضاً

بعد فترة من العزف على أعواد لا تشبه الأعواد شكلاً، رغم أن أصواتها مقبولة، خصوصاً بعد أن بدأت مرحلة تهريب أوتار حقيقية بواسطة عناصر الشرطة، تم اتخاذ قرار بصناعة عود بقصعة من الرِيَش الخشبية. ورشةٌ كاملة داومت على العمل لأكثر من شهر. قام جميل أضنه لي (طالب هندسة مدنية) برسم دقيق للرِيَش وانحناءاتها، ولكافة أجزاء العود. نحتاج إلى منشار ومبرد، لا بأس. تم (فكفكة) عدد من علب المربى الفارغة وتسنين أطرافها لتغدو كأسنان المنشار، قطعة أخرى ثقبت بالمسمار مئات الثقوب لتكون المبرد، وقبل استخدامها تمت تقسيتها بإحمائها على النار طويلاً ثم تبريدها بالماء. بعد تثبيتها على قطع من الخشب (مقابض)، صار لدينا أهم أداتين لصناعة العود الجديد.

مشكلة وحيدة واجهت الورشة، وهي أن أطوال قطع الخشب في صناديق الخضار (السحاحير) لا تكفي لطول الريشة. تم التغلب على هذه المشكلة بحفر مكعب كبير من الخشب وتجويفه ليسد هذا النقص في نهاية العود. كان العمل يجري على الرِيَش بانتظار أن يأتي صندوق يحتوي على هذا المكعب، وقد وصل أخيراً. سيتم ترقيق خشب الرِيَش بحفّها بقطع الزجاج وبعض قطع البورسلان المكسورة، وسيرأس أسعد ورشة النجارين التي ضمّت معظم طلابه. كان جمال الكردي (طالب، هندسة عمارة) يأخذ الرِيَش الخشبية (التي باتت بسماكة تتراوح بين 2 و3 مم) والمنقوعة لأيام في الماء ويحنيها وهو يمررها فوق النار، ومن ثم يثبتها فوق القطعة الأمامية التي سيثبت فيها الزند، ومن الجهة الثانية، في القطعة الخشبية المحفورة لتتشكل القصعة شيئاً فشيئاً. سيشهد الجميع لجميل أضنه لي وجمال الكردي ببراعتهما بالتصميم ودقة التركيب، واللصق بمادة الغراء التي كانت تُهرَّب إلى جناحنا. بعد أكثر من شهر من العمل سيعلق كثيرون «ما هذا؟ إنه عود حقيقي كالأعواد التي نراها في محلات بيع الآلات الموسيقية؟». أسعد دشَّن العود الجديد بتقاسيم على مقام «الصبا» الحزين. كان الصبا المقام الأكثر ملاءمةً لأرواحنا في أيام الانتظار الطويلة تلك.

بعد فترة سيصل إلى جناحنا معتقل جديد، علي الصارم (مهندس في مركز البحوث العلمية)، وسيصنع ببراعة وحرفية عالية آلةَ «كمان» لحسان عبد الرحمن الذي كان يجيد العزف على أكثر من آلة. كمان ستبدو أيضاً حقيقية بشكلها وصوتها، ومن الصعوبة (لمن لم يشهدوا مراحل صنعها) التصديق أنها كانت منتجاً محلياً. لم يتم التنازل في صناعتها عن أي تفصيل، فحتى مسند الذقن جرى نحته بشكله الدقيق. شعر القوس والأوتار فقط هي ما تم تهريبه من خارج السجن.

«كمان» في مَنْوَر الحمام

ولا في أي مرحلة من سجننا، خلت حياتنا من شرطيٍ أو رقيبٍ متعاطف. كانوا يقدمون لنا بعض الخدمات البسيطة، والأهم أنهم كانوا يحذروننا مسبقاً لبعض الحالات الطارئة. هكذا وَصَلَنا خبرٌ بأن حملة تفتيش سيتعرض لها جناحنا خلال دقائق. أهم ما كان يجب إخفاؤه في الجناح هو الآلات الموسيقية وأدوات العمل (منشار، مبرد وغيرها) إضافة لبعض أجهزة الراديو (كانت قد بدأت تصلنا تهريباً) وسخانات الماء المُصنّعة محلياً. حسان اعتبرَ أن أثمن ما لدينا هي آلة الكمان التي لم يكن قد مضى سوى أسبوع على صناعتها، ولذا حرصاً عليها قام بربطها بحبل رفيع ودلّاها في منْوَر الحمام، فلن يخطر ببال أي شرطي أن يكون أي شيء هناك، ولن يُرَى الحبل الرفيع المربوط بقضبان نافذة المنور. يومها لم يُصادَر من الجناح أي شيء ذي أهمية، لكن الحارس الذي يتجول على السطح عادة، أطل برأسه ورأى شيئاً ما يتدلى من المهجع السابع (مهجعنا) وقام بالإبلاغ. وسط دهشة وذهول عناصر الشرطة ومدير السجن، خرجت الكمان أمامهم بعد سحبها من المنْوَر. أجل لم نخسر يومها شيئاً مهماً سوى هذه الكمان التي كانت مفخرةً أن تُصنَعَ في السجن، وبأدواتنا البدائية، بعد متابعة استمرت شهور لصورة أي كمان كانت تصل الجناح في الجرائد، وبعد بحث دقيق ومضنٍ عن قياساتها الدقيقة.

لم تكن هناك من فرصة لاقتناص ما يعيد التوازن للروح في السجن إلا واستغليناها حتى آخرها. مساءً كان ابراهيم بيرقدار يعزف على عوده ويرافقه أحد الأصدقاء بالغناء، محتفلين بمناسبة عيد ميلاد ابن أحد زملاء المهجع. كان عودهُ مستطيلاً، لكن أوتاره كانت حقيقية. وخلافاً للعود بأوتارِ خيوط الجوارب، والذي كان صوته ضعيفاً، فإن صوت العود ذي الأوتار الحقيقية كان مسموعاً وقوياً. مساعد الانضباط تسلل إلى الجناح دون صوت، ليفتح باب المهجع ويمسك بإبراهيم متلبساً بالجرم المشهود، إنه يعزف الموسيقى. راقب ابراهيم بحزن وغضب، ولكن باستسلام، عوده وهو يتكسر تحت أقدام المساعد، الذي طلب منه تجهيز نفسه للنزول إلى الزنزانة. اللعنة. في هذا البرد؟ والزنزانة تحت الأرض بثلاث طوابق. كان فيصل الحلاق (موظف، اغتيل برصاصة تلقاها وهو في سيارته نهاية عام 2012، بعد أن قضى أحد عشر عاماً في سجون الأسد) قد أوصى أهله منذ فترة على «فروة» صوفية من السلميّة، وقد وصلته اليوم في الزيارة. ناول فيصل (شديد الحساسية للبرد) فروته إلى ابراهيم كي تُعينه على برد الزنزانة.

قضى ابراهيم ثلاثة وثلاثين يوماً في عقوبته، ويوم عاد، كانت فروة فيصل ممزقة وفي حالة يرثى لها. أحد الأصدقاء سيسأل: «ابراهيم… احكيلنا الحقيقة. انت كنت بالزنزانة ولّا بتمّ الكلب؟». قبل فترة، كان أسعد شلاش قد تعرض لنسخة مطابقة لما جرى مع إبراهيم، تكسيرُ عوده وقضاءُ شهر في الزنزانة.

عيد النيروز وحق تقرير المصير

رفاقنا الكرد قرروا الاحتفال بعيد النيروز. قبل أكثر من ثلاثة شهور من الموعد بدأت الاستعدادات وجرت التنقلات. كل فرد من الفرقة سينتقل من مهجعه، ليجتمع جميع أعضائها في مهجع واحد من أجل التدريبات. وافق يومها رفاق المهجع السادس أن يتشتتوا بعد تقديم المهجع لفرقة الفنون الكردية المُحدثة. في تلك الفترة انطلقت طرفة في الجناح تؤكد أن انتقال رفاقنا إلى مهجع واحد لم يكن من أجل التدريب، وإنما كان في سياق مطالبتهم بحق تقرير المصير للشعب الكردي.

حسين كامل (طالب معهد تجاري) كان عازفاً ماهراً على الطنبور، الآلة الوترية الكردية الشهيرة. أحمد صالح حسن (لقبهُ في السجن كالو) كان يعزف العود، وسوف يرافقهم على الإيقاع (وعاء بلاستيكي كبير) خالد حيدر (طالب طب أسنان، جامعة حلب). قام كمال حمو (طالب رياضيات، جامعة حلب) بمساعدة جوان يوسف (طالب هندسة ميكانيك، جامعة حلب) وسراج كلش (طالب في كلية فارونج للصحافة، روسيا الاتحادية) بتدريب مجموعة من الشباب على الرقص (في العرض سيكونون شباناً وفتيات). صُمِّمَت اللوحة الأهم من ذاكرة المدربين (كانوا شاركوا في القامشلي قبل السجن مع الفرق الكردية المحلية)، ودُمِجت في هذه اللوحة ثلاث دبكات كردية شهيرة: «كفوكي»، «از تازما» و«جوخو». كما تم تقديم عدة رقصات أخرى كانت تنويعات على الرقصات الفولكلورية الكردية المعروفة: «الكرمانجية»، «الباكية»، «شيخاني» ورقصة «هورزي». ومن ابتكار الصديق ابراهيم زورو (معلم مدرسة) قدموا رقصة اخترعها بنفسه كانت ضاحكة وهزلية بحركاتها، مع أغنية كردية فولكلورية هي (لو بِشّو/ قطة جميلة).

مع انفعالات الحفل والعزف، سيعلّق أحد الأصدقاء على شاربي حسين كامل الكثّين حين يندمج في عزف الطنبور: «حسين يعزف جالساً، لكن شاربه يرقص مع الفرقة». وسيروي كمال حمو معاناته مع المتدربين بطرافة، وكيف كان يحرك لهم أرجلهم بيديه بمختلف الاتجاهات كي يتقنوا الحركات أثناء التدريب، وقد أتقنوها حقاً، كما بدا في الحفل.

أقيم الحفل في فسحة نهاية الجناح، وكان مبهراً حقاً ولا يُنسى. جميع أفراد الفرقة يرتدون الزي الكردي التقليدي الرجالي والنسائي مع أغطية الرأس. كان لافتاً للجميع المهارة في أداء الرقصات، وبشكل خاص أبهرَ طالب الصحافة سراج كلش بأدائه الاستثنائي الجمهورَ الكبير الذي اجتمع من الجناحين اليمين واليسار (حينها لم تكن الجدران قد بُنيت بعد لفصل الجناحين). تم تفصيل ملابس الفرقة من أغلفة الفرشات العسكرية، التي ساعد لونها «الخاكي» القريب من الزي الكردي التقليدي على تسهيل المهمة. قام بتفصيل ملابس الفرقة سجين كردي قديم كنا ندعوه أبو حسن عنتر. يومها نفدت الخيطان من الجناح، فاضطروا لاستخدام خيوط النايلون التي سحبوها من أكياس البصل، حقاً كان ما فعلوه جهداً استثنائياً. فيما بعد سيخبرني عضو الفرقة رشاد عبد القادر (اعتقل طالباً في الثانوية) الذي تعلَّمَ عزفَ الطنبور في السجن: «كنت أرى الطنبور قبل السجن أداة موجودة في معظم البيوت الكردية لمرافقة الأغاني، هنا مع المقامات والصولفيج والنوتة والإيقاعات والتدريب سيتحوّل الطنبور بالنسبة لي إلى آلة موسيقية».

الإخوان المسلمون و«محيو» وأهازيج عيد الأم

استمر حفل النيروز إلى ما قبل موعد إغلاق أبواب المهاجع. فجأة بدأت التحذيرات تصل «جاء محيو… جاء محيو»، ومحيو هو اسم (الدلع) لمدير السجن المقدم محي الدين محمد. كان صوت الموسيقى والدبكات قد وصل إلى مكاتب الإدارة. سيبدأ محيو كلامه مع رئيس الجناح بسؤالٍ استنكاري، سيتحول إلى مَثَلٍ ما زال أصدقاء صيدنايا يستخدمونه حتى اليوم: «شو هالأهازيج والمنيـ…ات؟». كان على رئيس الجناح أن يجيبه فوراً أن الشباب يحتفلون بعيد الأم، فمجرد ذكر كلمة نيروز كان على الأغلب سيودي بجميع الرفاق الكرد إلى الزنازين فوراً. صدمةُ الجواب بأن سجناءً دون زيارات يحتفلون بعيد أمهاتً بعيدات خفَّفَت إلى حدٍّ ما من هياج محيو المحاط بالعديد من عناصر الشرطة، ومع ذلك استمرَّ بالهجوم مبرراً أنه حتى من هم خارج السجن لا يحتفلون مثلنا، وسوف يأتيه الجواب الذي جعله ينسحب دون عقوبات على غير العادة، لكن مع توصيات شديدة بعدم إصدار أي صوت: «اللي برا السجن أمهاتهم جنبهم، نحنا هون بلا أمهات».

كان معتقلو الإخوان المسلمين يسكنون الجهة اليمنى من الجناح يومها، وكان هنالك دائماً هذا الفارق بيننا وبينهم حول الحلال والحرام، وبطبيعة الحال الموسيقى هي واحدة من المحرمات. طبعاً كان الأمر متفاوتاً بينهم، فهناك المتشدد كما المعتدل تجاه هذا النوع من المحرمات. حفل النيروز ليَّنَ أفكار معظم جيراننا في الجناح ليتحولوا إلى الاعتدال، فأقبلوا ليشاهدوا الحفل.

بعد أن مضى محيو، وكان حفل النيروز قد انتهى، سوف يغني أبو المؤمل بمرافقة عود حسان عبد الرحمن. كان أبو المؤمل محمد حمدان الصالح (معلم مدرسة)، وهو من مدينة الرقة، يمتلك صوتاً عذباً، إضافة لحفظه التراث الفراتي والغناء العراقي القريب من مدينته. كان ضوء النهار قد بدأ يخفت عندما بدأ أبو المؤمل لمناسبة عيد الأم بأغنية المطرب العراقي سعدون جابر «يا أمي يا أم الوفا». لم يكد صديقنا ينهي المقطع الأول من الأغنية، حتى كانت الدموع تسيل على خدود معظم جمهور الإخوان المسلمين. كانوا شباناً صغاراً، بل وأطفالاً في كثيرٍ من الحالات، عندما غادروا أمهاتهم قبل حوالي العشر سنوات. دون زيارات لا في سجن تدمر، ولا حتى هنا بعد أن تم نقلهم إلى صيدنايا.

«الحجة» والنوتات الخطأ

كثيراً ما كانت تحدث خلافات حول صحة ما يعزفه الرفاق: «أنا متأكد إنو الحجة (الحجة هي أم كلثوم) بتبدأ المقطع التاني بعلامة الدو» سيقول أيمن قاروط (طالب قسم الفلسفة) لحسان عبد الرحمن. وحيث لا مرجع يرجّح قول أحدهما، فالفيصل هو سماع الأغنية من الراديو. في مثل هذه الحالة كان سيبدو وكأن تعميماً داخلياً قد سرى بين الموسيقيين لرصد الأغنية. «افتحوا عإذاعة الكويت يا شباب… افتحوا عإذاعة الكويت»، سيهتف أحدهم ليلاً لباقي الزملاء في المهاجع الأخرى. بعد انتظار شهر أو شهرين، سيستمعون إلى الأغنية ليقرروا بأي علامة موسيقية كانت الحجة تبدأ المقطع الثاني من أغنيتها «يا ظالمني» مثلاً.

كنتُ ما أزال نائماً عندما دخل أيمن إلى مهجعنا وهو يحمل معلومة جديدة، وسيبدأ، بلهجته الدمشقية، الشرح لجاري حسان. أمس كان قد استمع إلى إحدى الأغنيات ليلاً، واكتشف الخطأ في عزفهم لعلامة موسيقية ما في الأغنية. سريعاً سيتناول حسان العود المعلق فوق رأسه على الجدار ويبدأ بعزف المقطع والتجريب فيه، ليقررا معاً في النهاية أن ملاحظة أيمن كانت في محلها، وأنهم كانوا يعزفونها بعلامة خاطئة.

طبعاً أنا سأستيقظ على أصوات نقاشاتهم وعزفهم، محاولاً أن أمثّل دور الحانق. في ذاك الصباح قمت بتهديدهم أنني في يوم ما سأكتب بسخرية عن حركاتهم الصباحية تلك، وها أنا اليوم أنفذ تهديدي بعد أكثر من ربع قرن، ولكن دون سخرية، فقد كان كل ما فعله هؤلاء الأصدقاء عظيماً. أيمن يتابع عزفه اليوم في دمشق. حسان، وهو من الأبرع في جناحنا، انتقلَ إلى فرنسا عام 1998، وهناك كان لفترة مدرساً لمادة العود في معهد «pole sud»، وأقامَ كثيراً من الحفلات في العديد من المدن الأوروبية، مقدِّماً مع موسيقيين غربيين موسيقى مختلطة شرقية وغربية، كما قدَّم في العديد من المراكز الموسيقية الفرنسية محاضرات تعريفية عن العود والموسيقى الشرقية ومقاماتها وإيقاعاتها. ألّفَ وعزفَ (وما زال) كثيراً من المقطوعات الموسيقية، التي توزعت على العديد من الألبومات.

«شو قَولِك فينا نرجع؟»

بعد سنوات من مغادرتي السجن، وقبل وفاته بعدة شهور، ستجمعني لحظة خاصة بالفنان اللبناني عازار حبيب. كان يجلس وحيداً على طاولته في أحد مطاعمٍ مدينة حمص، صامتاً يتناول كأساً من العرق قبل بدء الغناء. ذهبتُ إليه واستأذنته أن أجلسَ لدقيقتين. بسبب ابتسامته اللطيفة، وقبل أن يرحب بي كنتُ قد جلست. عرّفته باسمي ومن أكون، وقدّمتُ لما سأقوله بأن من حقّه الأخلاقي عليّ، وعلى آخرين كُثُر، أن أخبره ما سوف أخبره إياه الآن:

«لم تكن هناك أي سهرة غنائية في أي مهجع من مهاجعنا في صيدنايا ستنتهي دون أن نغني جماعياً، شو قولِك فينا نرجع. كانت أغنيتكَ رفيقة ليالينا الطويلة تلك لسنوات، وكنا نردد في صيدنايا مازحين إنها نشيدنا الوطني». لم تنزل دمعته على خدّه وهو يستمع إلى كلماتي، ولكني أجزم أنها كادت. ودّعتُه ومضيتُ إلى طاولتي. في سهرته تلك، وعندما سيغني تلك الأغنية، سوف يترك مكانه ويأتي ليغنيها مستنداً بيده على الطاولة التي كنتُ أجلسُ إليها، وهو ينظرُ إلي. أحسستُ لحظتها، أن كل أصدقاء صيدنايا كانوا يستمعون سعداء لأغنيتهم.

ما الذي أحاولُ أن أفعلهُ هنا؟ هل أردتُ القول في كتابتي هذه إن حياتنا كانت زاهية إلى هذه الدرجة؟

أبداً. ودون أن أشعر بأني أفقد شيئاً من محاولتي لأكون موضوعياً، يمكنني القول إنها كانت على العكس تماماً. حياة (إن جازت تسميتها كذلك) لا تشبه في مراراتها أي حياة، ومع كل صباح ستحاول أن تقتل فينا شيئاً جديداً. أنا إنما أكتبُ هنا لأوثّقَ آليّاتنا التي تفنّنا في ابتكارها للدفاع عن قلوبنا التي كانت ما تزال نديّة. وأحاولُ قبل كل شيء، تقصّي أثر اللحظات التي كنا نقتطعها من فم ذاك الموت المقيم والمتواصل. أكتب عن فسحة هاربة بين دمعتين مهلكتين، وعن نضال الروح في نِزاعها الضاري لتعيش يوماً إضافيّاً آخر. وربما، على نحوٍ ما، أعرّفُ السجان أو أعرّيه بدلالتنا، نحن ضحاياه. باختصار، إني أدوّن تفصيلاً مجهرياً لزهرة بالكاد تُرى في لوحة قاحلة.

كانت ليالي السجن، على العكس من كل ما تبديه كتابتي هذه، مريرة وقاسية وطويلة. وإن كنتُ هنا تجنبتُ كثيراً من العنف والقسوة التي كانت ستشوه هذا النص عن الموسيقى، فإن سجننا كان المكان الأمثل لاستخراج المشاعر الاستثنائية والمتطرفة في حّدها الأقصى. أنور جعفر (طالب قسم الفلسفة) وهو عازف غيتار متمرس، سيذهب مرةً في عزفه بانفعال استثنائي (انفعال لا يمكن أن يتبدى إلا في حالات موت ما)، لينتهي بأصابع تنزف دماً. نعم، دمٌ حقيقي كان يسيل من رؤوس أصابعه على الغيتار.

عدنان حسن (طالب كلية الطب) يتكور على عوده ويعزف لأحدٍ ما، لشخصٍ غير مرئي إلا في رأسه، ويحاول جاهداً صياغته موسيقياً، علَّه يستطيع ترطيب ذاك الفضاء الجاف. هذا الطبيب الموسيقي سنجده في لحظة أخرى يزرع الفرح بألحانه، سيعزف ألحان أغان فولكلورية وقربه يجلس سليم أسعد (أبو حطب) يغني بصوته المميز، وفي منتصف أغنية ما سيتوقف عدنان عن العزف محتجاً (بطريقته الكوميدية الخاصة) على أبو حطب، الذي لم يكن يُوفًّق دائماً بالبقاء على الطبقة الصوتية كما هي في الأغنية.

سأراقبُ دهام عبد القادر (اعتُقل طالباً في الشهادة ثانوية، وسيحصل بعد السجن على ماجستير علم الاجتماع)، أراقبه لساعات وهو يتمرن أمامي على مقطوعة ما على العود، غافلاً عن كل ما يحيط به، وكأنه خارجٌ للتو من لوحة فارسية. كان دهام، كما يصفه معظمنا، هو الحالة الوصفية عن الإنسان النقي الذي يمكن أن تقدمه الحياة، لو شاءت أن تكون كريمةً، هديةً كل بضع سنوات. سيتابع دهام تعلمه للموسيقى خارج السجن في بلدته عامودا، لكن الحياة ستخذله شابّاً بالمرض الأقسى، السرطان. سوف نجتمع في أيلول 2010 (أكثر من خمسين شخصاً من أصدقاء صيدنايا) في المطار لاستقبال جثمانه المحمول من ألمانيا، ومرافقته عابراً دمشق، لوداعه على مشارفها، وهو عائد إلى تراب بلدته عاموداً. بعد وفاته ستصدر رسالة الماجستير التي قدّمها في كتاب عنوانه «الدلالات الاجتماعية للّغة – مقاربة سوسيولوجية».

الدلالات الاجتماعية للغة؟ الآن أتلمسُ أكثرَ عمّا أكتبُ هنا.

في وداع الموسيقى

نهاية عام 1995 كنا نتجمع، نحن من أنهينا أحكامنا، في فرع فلسطين. كان الوقت بارداً جداً، وجميعنا تقريباً أُصبنا بنزلة برد وسعال. خلال فترة وجيزة تعافينا جميعاً. وحده كريم الحاج حسين (طالب رياضيات، جامعة دمشق) بقيَ يسعل بشدة. في إحدى نوبات سعاله انتبه كريم إلى بقعة من الدم خرجت مع السعال. يا الله. إنه السلّ.

سريعاً أبلغنا السجّان بمرضه، وطلبنا نقله إلى المستشفى. رغم تلقينا الوعد بذلك، إلا أن التنفيذ سوف يتأخر أسبوعاً. من أجل عدم انتشار العدوى، اقترح الجميع عزل المريض، وكان ذلك. انتقل كريم إلى زاوية قرب الباب غادرها على الفور قاطنوها. ولأن التعب قد نال منه، كان على أحدٍ ما أن يبقى قربه لمساعدته، وتطوَّعتُ لذلك (سأخضع لفحوصات وتحاليل فور خروجي من السجن، وسيخبرني الطبيب أن جسمي تعرَّف على السل واستطاع مقاومته).

كان كريم تعلّمَ الموسيقى وأتقنَ العزف خلال سنوات السجن الماضية، خصوصاً وأنه يحفظ الكثير من التراث والغناء العراقي (كمعظم أهل السلميّة)، ويؤديه بصوت جميل. وبحسب تعبير أستاذه أسعد، كان كريم يمتلك أذناً نظيفةً. خلال ملازمتي له، وعلى عادة السجناء المنتظرين لحريتهم، كنا ندردش معاً حول مشاريع المستقبل. سيخبرني كريم أن أحد أهم أحلامه أن يكون لديه معهدٌ لتعليم الموسيقى في مدينته، وحلمه الأكثر خصوصية أن يعلم أبناء إخوته عزف العود. طبعاً كريم لم يكن لديه أبناء، ولم يكن متزوجاً، فقد دخل السجن وكان له من العمر واحد وعشرون عاماً.

راح وضع كريم الصحي يتدهور سريعاً، ولا استجابة من الفرع لنقله إلى المستشفى. في واحدة من نوبات سعاله الشديد، تقيأ في قشرة جوز الهند التي كنت أستخدمها منفضة للسجائر. تناولتها منه وكانت قد امتلأت بالدم. دون وعي، بدأت الضرب على الباب بقوة إلى أن حضر السجان، فأريته الدم المتجمع في جوزة الهند اليابسة. عندها فقط أخذوه إلى المستشفى. تلك الأيام الحرجة كانت آخر الأيام التي رأيت فيها وجه كريم البريء. سوف نخرج إلى الحرية بعد أكثر من شهر، وسوف نعلم أن كريم قد توفي في المستشفى خلال أيام قليلة من تحويله إليها. كان السلّ قد وصل إلى السحايا. أجل بهذه البساطة مات رجل وسيم كان سيملأ فضاء مدينته موسيقى.

لو أنه لم يفعلها، لو أنه لم يمت.

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى