صفحات الرأي

عمائم فوق الرؤوس والدول: ستّةُ مرشِدين

جهاد الزين

المشهد لم يكن ممكناً تخيُّلهُ قبل… جيل: إسلاميّةٌ أو إسلاميّات سياسيّةٌ بطقوسٍ ومراسيمَ ورتبٍ مختلفة من تركيبات حزبية وتنظيمية حديثة بثقافة تقليدية. عمائم فوق الرؤوس أو من داخلها في أعلى قمم السلطة السياسية.

هناك حاليا ستة مرشدين في خمس دولٍ في المنطقة:

أولهم وأقدمهم السيد علي خامنئي مرشد “الجمهورية الإسلامية” في إيران الذي “ورث” منصبه عن مؤسس الجمهورية السيد الخميني. الشيخ محمد بديع مرشد “حركة الاخوان المسلمين” الحزب الحاكم في مصر، الشيخ راشد الغنوشي زعيم “حركة النهضة” الحاكمة في تونس.

هؤلاء الثلاثة يتولون أدوارا سياسية مباشرة في إدارة بلدانهم. لكن نفوذ كلٍّ منهم متفاوت: فالخامنئي حاكم فعلي لكل الدولة الإيرانية، ملك إيران غير المتوج، بينما الغنوشي هو “الرجل القوي” في تونس أي صاحب النفوذ الأقوى ولكن ليس الأوحد، أما الأخير البديع فهو في المنصب الأول في الحزب الحاكم.

هؤلاء مرشدون “رسميون” في علاقتهم بالحكم والسياسة في بلدانهم.

لكن مقابلهم هناك ثلاثة “مرشدين” لا يحملون أي صفة رسمية وهم متفاوتو الأدوار حسب خصوصية مواقعهم ويتأَتّى نفوذهم من الموقع المعنوي الكبير لكلٍّ منهم:

أولهم الآتي من موقع هو الأكثر تقليدية وعراقة بين الآخرين هو السيد السيستاني “المرجع الأعلى للطائفة الشيعية في العالم”، هذا اللقب – الموقع الرفيع الذي لم يكن سياسياً على مدى قرون وحوَّله التغييرُ في العراق الذي أتى بـ”الأغلبية الشيعية” إلى الحكم إلى موقع ذي دور سياسي غير مباشر وإنما شديد الأهمية في إدارة شؤون العراق الكبرى منذ العام 2003. إنه المرجعية التي تراقب ما يدور في بغداد وتتدخل “حين يلزم الأمر” لضبط أو تكريس المعادلة العامة للدولة “الجديدة”.

ثانيهم ذو دور مثير برز قبل “الربيع العربي” عبر الإمكانيات المالية التي حصل عليها من تمركزه في قطر وتصاعد حضوره دراماتيكياً، انطلاقاً من خطابه “الافتتاحي” الشهير في ميدان التحرير، بعد ثورات “الربيع العربي” ونجاح الحركات الإسلامية في الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع. ومن هو غير الشيخ القرضاوي المعتبَر عبر التنظيم الدولي لـ”الإخوان المسلمين” “مرشد” مرشدي الحركات “الإخوانية” العربية بما فيها داخل أوروبا بمعزل عن مدى قدراته “السلطوية” من غزة إلى القاهرة إلى طرابلس الغرب إلى تونس…

ثالثهم، لا تعرف عنه النخب العربية العلمانية والليبرالية كثيرا رغم أهميته الفائقة في بلده، وهو الشيخ فتح الله غولن أكثر زعماء الحركات التبشيرية المسلمة ليبراليّة وتصالحاً مع القيم الغربية. ومع أنه مقيم – منذ أرغمه العسكر التركي في أواخر التسعينات من القرن الماضي على مغادرة تركيا – في الولايات المتحدة الأميركية، فهو يُعتَبر اليوم شخصية نافذة شديدة التأثير السياسي في “ترجيح” الكفّة الشعبية لـ”حزب العدالة والتنمية” رغم أنه لا علاقة له بالحزب. فهو يدير شبكة ضخمة من المدارس تبلغ 500 مدرسة داخل تركيا وخارجها من إفريقيا إلى آسيا الوسطى ومن الولايات المتحدة إلى أوروبا فضلاً عن كون منظمته تموّل، وتُشرف على، شركات كبرى واتحادات رجال أعمال وصحف أشهرها صحيفة “زمان” الرئيسية في تركيا اليوم. وقد ذهب بعض خصومه إلى الحديث عن “تنظيم داخل الجيش التركي” والإدارة التركية تابع لمنظمته وهذا التنظيم –إذا صحّت المعلومات – يكون قد ساهم في إضعاف “دفاعات” قيادة الجيش التركي ضد “الهجمة” المدنية – القضائية الناجحة التي قادها “حزب العدالة والتنمية” لرفع وصاية الجيش التقليدية عن الحياة السياسية في تركيا.

فتح الله غولن – إذا جاز الاختصار – يشبه الإسلام التركي في ما آل إليه. ومثلما هو “الحاكم” رجب طيّب أردوغان وحزبه حصيلة سياسية للحداثة العلمانية الأتاتوركية وورثَتِها حتى لو قاتلها هو وأسلافه طويلاً، فإن “الحركة” التي يقودها اجتماعيا وتربويا وماليا وبالتالي سياسياً فتح الله غولن هي وليدة المصالحة العميقة بين الإسلام التركي والقيم الغربية والسابقة حتى لتأسيس الجمهورية.

 أما السيد السيستاني الإيراني المولد والآتي مثل الكثير من أسلافه إلى النجف العربي في استمرارٍ لتقليدٍ تعليمي، فهو عراقيٌّ بالمعنى الحرفي لما هي عليه إيطاليّةُ أيِّ بابا غير إيطالي يُنْتَخَب على رأس الفاتيكان في روما. وهي هويّةٌ عراقيّةٌ لمرجعية النجف أصبحت سياسياً أكثر عراقيّةً بعد التغيير الجوهري عام 2003.

لم يستقبل السيستاني إلى اليوم أي أميركي مسؤولاً كان أو خبيراً. صحيح أن المرجعية كانت شريكا غير مباشر مع الطبقة السياسية العراقية الجديدة والخبراء الأميركيين في النقاش الكبير الذي دار حول الدستور العراقي وهذه المرجعية هي التي حسمت في النهاية مادة علاقة الإسلام بالدولة عبر الصيغة التي ابتكَرَتها عن”ثوابت أحكام الإسلام” كمخرج لتمييز ليبرالية الدولة الفدرالية العراقية الجديدة عن النمط الأصولي الإيراني للدولة (ولاية الفقيه)… صحيح كل ذلك إنما لا يمكن إلى هذه اللحظة فصل حالة المرجعية عن معادلة نوع جديد ودقيق من العلاقة الوثيقة بين بغداد وطهران حتى لو كان السيد السيستاني فكرياً من غير مدرسة “ولاية الفقيه” الخمينية… على كل حال إثارة المعادلة العراقية الجديدة لا تقف عند هذا الحد إذا رصدنا “لغز” التحالف الإيراني الأميركي الثابت القائم حول السلطة السياسية في العاصمة العراقية! ولا سيما حاليا حول زعيم “حزب الدعوة”رئيس الوزراء نور المالكي. “حزب الدعوة” الذي هو الصيغة الشيعية لـ”جماعة الإخوان المسلمين” المصرية.

لنلاحظ أن الحالات “الإرشادية” التي نشير إليها تشمل المثلّث العربي الإيراني التركي في زمن الغلبة السياسية للحركات الإسلامية: دولة دينية قلبا وقالبا ومجتمع ذو نزوعات علمانية شبابية في إيران، دولة علمانية ومجتمع ذو أغلبية متديّنة ونخبة منقسمة في تركيا، وعالم عربي متخابط الحدود والشرعيات.

قبل جيل… من كان يجرؤ على تخيّلِ هذا المشهد “الإرشادي” الشامل … غيرُ المستَشرقين؟!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى