صفحات الثقافة

عمر الكتابة/ أمير تاج السر

 

كنت وما زلت من الذين يؤمنون بأن الكتابة بشقيها الإبداعي وغير الإبداعي، من كتابة سياسية وصحافية وعلمية وتاريخية، ينبغي أن تكون واحدة من المهن المعترف بها، طالما أن كثيرا من الناس يمارسونها باستمرار، وأنها تأخذ وقتا وجهدا، في سبيل إنجازها، كما أن بعض الكتاب الأسخياء، ممن يكتبون باستمرار، يقضون حياتهم كلها منغلقين خلف جدران صلدة، يصارعون أفكارهم وهواجسهم، من أجل أن ينتجوا.

هذا التساؤل الكبير، انتهى تقريبا في آوروبا وأمريكا، وأصبح الكاتب المجد، موظفا حقيقيا في ما أسميه: هيئة الكتابة، يجلس إلى طاولته صباحا، وينهض عند الظهر، ويكبر ويترقى في وظيفته باستمرار، ويكون عند اقترابه من سن التقاعد الوظيفي الرسمي، قد أصبح من الاكتفاء، بحيث لن يحتاج إلى أحد أبدا.

وبالطبع لم يحدث هذا عندنا، ولا أعتقد أنه سيحدث على الإطلاق، بل على العكس، كلما كبر الكاتب في عمله وعمره، ازدادت السياط التي تشرع لجلده، وجاءت عشرات الحيل التي تكونها الأجيال اللاحقة، لمحاولة إقصائه عن الدرب، وأحيانا تنجح تلك الحيل، ويجد الذي أنفق عمره في ما يظنها وظيفة محترمة، بعيدا تماما عن أي نشاط، وأحيانا لا يعثر حتى على ركن صغير أو زاوية في صحيفة بسيطة، ليدلي برأيه في أشياء تستلزم الإدلاء برأي، وحين يصل إلى سن التقاعد الوظيفي الحقيقي، ويتجاوزها إلى ما بعد ذلك، هو نفسه يحس بالضجر، وقد يكتب أشياء بلا قيمة حقيقية، ولا تضاف إلى تاريخه، أو لا يكتب على الإطلاق.

لذلك، أي للذي ذكرته من الاختلال، سواء في حق الكاتب من قبل المجتمع، أو في حقه، من قبل نفسه، تحدثت من قبل عن سن معينة للكتابة، في أوطاننا، وأنها بالضبط تلك السن الوظيفية، التي تنحصر في ثلاثين أو أربعين سنة، يعمل فيها الموظف ثم يتقاعد في النهاية، وأظنها كافية جدا لمن أراد الإنتاج بالفعل، وليس الجلوس هكذا والامتلاء بالرغبة في الإنتاج، من دون أي تحرك، وفي مجال الكتابة الذي تسبق سنوات النضج فيه بالطبع، قراءات مكثفة، واستعدادات كبرى، ومحاولات لتجربة الموهبة في كتابة أشياء صغيرة، وطلابية في المدارس، ثم أشياء أكبر مثل الأشعار العاطفية والحماسية، والقصص المستوحاة من بيئة الشخص وبيته، والظلال التي يسترخي تحتها، والشوارع التي يتسكع فيها في مدينته، وأخيرا تأتي الكتابة الجادة، حين تصبح تقاطيع القلم صارمة جدا، ولا يسمح بمرور أي زوائد أو تشوهات إلى النصوص التي ستنشر باتساع هذه المرة، وتصل إلى قطاع أكبر من الناس، هم القراء الذين سيتابع بعضهم هذا الكاتب، ويتخلى بعضهم عن متابعته.

لكن في النهاية، تنشأ التجربة المرجوة ليصبح المبدع مبدعا، والتجربة الموازية، ليصبح القارئ أيضا مبدعا، والتجربة الأخيرة التي لن يكون فيها ثمة مبدع حقيقي قد نشأ، وإنما محاولات لعمل شيء بلا موهبة، ستظل محاولات حتى النهاية.

الموضوع ليس هنا قاصرا على الكتابة، وإنما في مجالات أخرى، ربطت بالموهبة، وأظن أن الربط فيها معقول ومقبول، مثل الكرة، خاصة كرة القدم، فدائما ما نجد لاعبي كرة، ظهروا وصعدوا بسرعة إلى القمة، وتمت الإشادة بهم، وبالبحث عن تاريخهم قبل اللمعان، تجدهم قد عشقوا الكرة صغارا، وتدربوا على لعبها في الأزقة والحارات، قبل أن يتدربوا بطريقة علمية، في ملاعب كرة القدم، أيضا مجال الموسيقى والغناء، حيث نجد الموهوبين العشاق للمادة الفنية، بكل ما فيها من زخم، وأولئك الذين تدربوا بلا موهبة، من أجل أن يلمعوا فنيا.

أعود لمسألة عمر الكتابة مجددا، وأتحدث عن ضرورة التوقف عنها، حين يحس الكاتب بأنه لم يعد يملك شيئا ليقال، أو لم يعد متحمسا لما يمر به من أحداث، أو يفور حوله من وقائع، وأقول ذلك بناء على معطيات كثيرة، منها أعمال قرأتها لكتاب رائعين، في أعمار متقدمة، ولم تقنعني مثلما أقنعتني أعمالهم التي كتبوها في سن النضج، وما بعدها من سن امتصاص الحكمة كما أسميها، وأظنها سن الأربعين، أو الخمسين، وأظن أن هناك من كان ينظر إلى تلك الأمور بجدية، من الكتاب، وتوقف قبل أن تصبح الاختلالات المستقبلية، حقيقة ماثلة أمامه.

وسط كل هذا الذي أتحدث عنه، تطالعني تجربة الكاتبة البريطانية: ماري ويسلي، التي توفيت في عام 2002، عن تسعين عاما، وكانت نشرت روايتها الأولى، وهي في سن السبعين، ثم أتبعتها بأربع عشرة رواية أخرى، كتبت بعقل متوهج، على الرغم من خطورة السن التي تعاطت فيها الكتابة، وأنها سن وهبت في الغالب للنسيان، وعدم تقدير الأمور بجدية، أو في أجل حالاتها، هي السن التي يحتضن فيها الأحفاد، وتصبح الأيام خضراء، ووارفة في وجود الجدة التي ينبغي أن تكون الظل في العائلة، وليس كاتبة تتشنج مع الورق والأقلام، وتتعارك مع الفكرة، وترسم الشخوص الذين ينبغي أن يخرجوا في أفضل حالاتهم من ناحية الخير والشر الذي تقتضيه الكتابة.

حقيقة، لا أعرف ما هي الظروف التي تجعل أحدا يكتب بعد السبعين، ولا أستطيع أن أحدد إن كانت هناك محاولات سبقت ذلك أم لا؟ بمعنى أن الكاتبة، ظلت تكتب منذ الصغر، وتدس محاولاتها عن النشر، إلى أن اقتنعت، أو أحبت أن تنشر مادة منها؟ لكنني أجزم أن نجاح الرواية الأولى، وتداولها وسط آلاف القراء، هو ما جعل الكاتبة تكرر تجربتها، أو تجربة نشرها إن كانت الأعمال مكتوبة منذ وقت، ليصبح العدد أربع عشرة رواية، تماما مثل أي كاتب عادي، بدأ منذ الصغر، وتوقف في سن متقدمة.

تجربة ماري ليست قاعدة طبعا، ولكنها استثناء، واستثناء غريب فعلا، ولا أظن أن هناك من يملك صبرا، ليبدأ الكتابة في سن السبعين، حتى لو هبطت عليه تجارب الدنيا كلها، وامتلك ذهنه كل الخيال، والذهن عادة يفقد الكثير من مادته، كلما تقدم الإنسان في العمر. وقد التقيت بكثيرين، أخبروني أنهم يريدون الكتابة، ويريدون بشدة، وبعضهم تجاوز الثمانين، ولم يكتب أي شيء يدعم به رغبته، وأخبرتهم بأن الأمر يبدو صعبا، لكن المحاولة لا بأس بها لمن أراد، المحاولة في أي شيء، حتى تعلم مهارات أخرى، مثل السباحة، والركض، وكرة القدم.

٭ كاتب سوداني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى