صفحات الحوار

عمّار عبد ربّه: حلب المستمرّة

 

 

الدوحة – فوزي باكير

ما يجري للمكان لا يحدث على الأرض فقط، وإنّما يحدث أيضاً في ذاكرة وشعور أصحابه الذين شهدوا ما تعرّض ويتعرّض إليه، من خراب لا يفرّق بين بيتٍ وبيت، أو بين مسجدٍ وكنيسة، أو مبنى حديث وآخر عمره ألف سنة.

وإذ لا يستطيع الإعلام، رغم كل ما يبثّه، رصد هذه التغيّرات العنيفة داخل الإنسان؛ يأتي الفن هنا، في هذا السياق، ليقدّم مقولته التي تحاول أن تُخرجَ المشهد عن نمطية تقديمه التي يبرع فيها الإعلام.

هنا، تتجاوز الفوتوغرافيا دور التوثيق إلى التقاط تفاصيل لم تعد تظهر في الضخ المتواتر للصور الدموية التي كأنما يُروِّج لها الإعلام. ومن هنا أيضاً، يأتي معرض الفوتوغرافي السوري، عمّار عبد ربه، “حلب.. لهم ولهنّ السلام”، الذي افتُتح أمس في “الحي الثقافي كتارا” في الدوحة، ويستمر حتى نهاية الشهر الجاري.

قبل قرابة عامٍ ونصف، أقام عبد ربه (1966) معرضاً يحمل العنوان نفسه في باريس، كان يضمّ 15 صورةً. معرضه الحالي، يضم 31، أربع منها التُقطت بين عامي 2008 و2009؛ أي قبل الثورة، وما تبقّى فصوّره بين عامي 2013 و2014.

ما الذي تغيّر منذ 2013 حتى الآن؟ يجيب الفنان في حديثٍ إلى “العربي الجديد”: “لم يتغيّر الكثير. قد تُحاصَر المدينة، لكن ثلثيها، تقريباً، مُحرّران من سيطرة النظام. ربّما غيّر العدوان الروسي بعض المعطيات، إلا أنّها لم تخضع”.

يضيف: “رغم أنّ شيئاً لم يتغيّر، إلّا أن المعاناة، بالطبع، ما تزال مستمرّة، كما أنّ الحياة كذلك ما زالت مستمرّة”. يوضّح: “علينا، هنا، أن نفهم أمراً: الإنسان السوري ليس ذلك الذي تحاول وسائل الإعلام تشكيل صورته بوصفه “إرهابياً” أو “داعشياً”، أو لاجئاً؛ علماً أن اللجوء مسألة لا يمكن النظر إليها بمعزل عمّا حلّ في سورية ككلّ في هذه الخمس سنوات. الإنسان السوري، أيضاً، رغم كلّ ما يدور، ظلّ متمسّكاً بحياته، وظلّ يمارسها رغم كل هذا الخراب”.

هكذا، نُلاحظ في لقطات عبد ربه تركيزه على تفاصيل الحياة اليومية في مدينة حلب؛ فنرى، مثلاً، فتياتٍ يعُدن من المدرسة، أو طفلاً يبيع “الجرنك” (الخوخ الأخضر)، أو رجلاً يحمل سلاحاً على كتفه، ويده الأخرى في يد ابنته في طريقهما إلى المدرسة، أو امرأتين تتسامران في الطريق، ومن خلفهما يظهر الركام، أو حتّى مقاتلاً يدخّن الأرجيلة ويشرب الشاي

وعند النظر إلى صور حلب ما قبل الثورة، وما بعدها، نرى أنّ الحياة اليومية حافظت على الكثير من عاداتها، لكن المكان هو ما تعرّض إلى تحوّلات مدمرة؛ فالمسجد الأموي هناك الآن بلا مئذنته، وبنايات لا حصر لها مدمرة ومتهاوية.

تَظهر الصور، للحظة، وكأنّها التُقطِت بعد الحرب، وليس أثناءها: “هناك علاقة فريدة بين أهل حلب ومدينتهم. صحيحٌ أن المدينة لم تعد كما كانت عليه في السابق، لكن الشّعب أيضاً يريد أن يصنع تاريخه، فما يزال محافظاً على علاقته الطبيعية في المكان”. ويعود عبد ربّه هنا ليؤكّد: “تحوّلت صورة السوري إلى كائن غير إنساني، وقاتل، مُهمّشةً جزءاً كبيراً من حقيقته التي تسعى الكاميرا إلى إعادة تصديرها ووضعها في المركز. لا ننفي وجود من هم حقّاً قتلة، مثل “داعش” وغيره، لكن كم تبلغ نسبة هذه الفئة مقابل الشعب السوري؟”.

رغم أن عبد ربّه من دمشق، لكنّه، كما يوضّح، تربطه علاقة شخصية بحلب؛ “فهي لم تتعرّض إلى تشوّهٍ عمراني كذاك الذي تعرّضت إليه دمشق قبل الثورة، ظلّت محافظةً على أصالتها”، ويضيف:

“لو قُدِّر لي أن أذهب مرّة أخرى إليها، سألتقط صوراً تتبنّى المفهوم نفسه الذي عملت عليه في هذا المعرض؛ تصوير الحياة اليوميّة لأهلها. ربّما من الصعب أن أضع تصوّراً مسبقاً لما ستكون عليه اللقطات، لكن للناس وللمدينة جاذبيّتهم وسحرهم اللذين سيأخذانني إلى تفاصيلهم الحياتية الطبيعية”.

يتابع: “سأصوّر الإنسان السوري الذي ما يزال واقفاً على قدميه رغم كلّ شيء، ويتصدّى للقنّاصة، مثلاً، عبر ابتكار الستائر بين المباني السكنية، لكي يُشتّت من يُطلقوا النار تجاه المواطنين”.

كيف كان دخولك إلى حلب أوّل مرّة بعد الثورة؟ كيف واجهت المدينة؟ سألنا عبد ربّه؛ فصمت طويلاً، قبل أن يجيب: “شعرتُ بألم، وبالذنب. كان علينا أن نمنحها المزيد من المحبّة والمؤازرة والدعم، لكنّنا خذلناها”. يقول: “قد يبدو التشبيه مزعجاً، لكن الأمر يشبه امرأةً عشتَ معها عمراً طويلاً، ثمّ فجأةً تشوّهَ وجهها بسبب حادثةٍ ما، وسيكون عليكَ حينها أن تؤازرها وتتحدّث إليها، لا أن تُدير ظهرك وتتركها وحيدةً”.

من جهةٍ أخرى، ورغم صمتِه قبل الإجابة، الذي كان يُشير إلى جرحٍ ما بداخله، يقول عبد ربه: “يبدّد ذلك الألم أهلُ حلب، فلديهم طاقة هائلة في مقاومة كل ما يحصل من خلال النكتة في عزّ الحرب”. يضحك، موضّحاً: “لقد غيّروا كلمات أغنية صباح فخري الشهيرة، لتصبح: “كنّا ميّة على النبعة، إجا الطيّار صرنا سبعة”؛ إنّهم يسخرون من الموت والقاتل معاً”.

____________

كواليس الصورة

للصّورة في الحرب كواليسها أو قصصٌ تدور خلفها. ماذا كان سيخبرنا هؤلاء الذين في الصور لو تحدّثنا إليهم؟ سألنا عمّار عبد ربّه (الصورة) عن علاقته مع بعض شخوص صور معرضه: “كانوا يحدّثونني عن معاناتهم، وأملهم أيضاً؛ أملهم المتمثّل بانتهاء كل ما يعيشونه، وإصرارهم على البقاء في حلب. كثيراً ما يقولون: لو تركناها، فلمن ستبقى؟ في بقائنا دفاعٌ عن سورية كلّها. يوماً ما، ستكون سورية حرّةً وملكاً للجميع”.

 

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى