صفحات مميزةياسين الحاج صالح

عناصر أولية من أجل استراتيجية عامة للثورة السورية


ياسين الحاج صالح

الغرض من هذه الورقة هو إدخال قدر من التنظيم على تفكيرنا في الثورة السورية من وجهة النظر العملية. وفي حين أن من المتأخر كثيرا الكلام على استراتيجية للثورة السورية، وهي تقترب من إتمام عامها الأول، فإن العناصر المقدمة هنا ربما تفيد في تشخيص واقع الحال وبلورة سياسة أكثر تماسكا من طرف أية قوى سياسية مرتبطة بالثورة.

المقصود بالاستراتيجية تصور واضح يربط بين (1) الهدف الذي تتطلع إليه الثورة، وهو إسقاط النظام وبناء سورية جديدة أكثر حرية، و(2) التنسيق بين مكونات الثورة بهدف تثمير كل منها على أحسن وجه، و(3) توظيف العوامل المساعدة لتعزيز قوى الثورة وتحقيق الهدف، مع (4) الحساسية للزمن والمراحل الزمنية والتحولات النفسية.

الهدف

هدف الثورة السورية هو التخلص من النظام الأسدي، والتوجه نحو أوضاع سياسية واجتماعية وقانونية أكثر حرية وعدالة. يحصل أن يجري التعبير عن ذلك بلغة الديمقراطية. والمقصود في هذه الحالة نظام تعدد أحزاب وتداول سلطة ويتيح تمثيلا أوسع للسوريين، ويتيح لهم تنظيم قواهم والدفاع عن مصالحهم، ويقوم على حكم القانون، ويضمن المساواة الحقوقية والسياسية بين المواطنين السوريين على اختلاف منابتهم.

في بداية الثورة كان يجري تعريف الثورة أكثر بهدفها الإيجابي، الديمقراطية. مع الزمن، وتحت تأثير ما ووجهت به الثورة من عنف مهول صار يجري تعريفها بهدفها السلبي، إسقاط النظام.

لم تبذل جهود منظمة لمعاكسة هذا الميل العام. لكن دخل التداول على نطاق واسع نسبيا مدرك غامض هو الدولة المدنية. وهذا مفهوم ضعيف الشخصية ولا مضمون محددا له، وتاليا يسهل التلاعب به. غير أن له وظيفة مهمة: توفير مساحة تقاطع مبهمة بين علمانيين وإسلاميين، يتخلى بموجبه الإسلاميون عن الدولة الدينية والعلمانيون عن الدولة العلمانية. لكن لم يجر نقاش جدي حول الأمر.

مكونات الثورة

المكون الميداني: المظاهرات الشعبية السلمية؛

المكون الاجتماعي: البيئات الحاضنة في مئات المواقع في البلد؛

المكون العسكري: “الجيش السوري الحر”؛

المكون السياسي: “المعارضة” في المجلس الوطني وغيره، وكل من يعمل للثورة سياسيا؛

مكون اقتصادي: مصادر الإغاثة والدعم المادي؛

مكون إعلامي: وهو وثيق الصلة بالمكون الميداني. الثائرون السوريون غطوا ثورتهم إعلاميا. لكن أقنية فضائية عربية هي من المكون الإعلامي للثورة دون ريب. الجزيرة والعربية بخاصة.

المظاهرة ليس فعلا منعزلا عن غيرها. تحتاج إلى مبادرة وتنظيم، وإلى بيئة حاضنة مناسبة، وإلى حماية نسبية.

هذا يربطها بالمكونين الاجتماعي والعسكري. والمكون الاجتماعي محتاج إلى أن يعيل نفسه أو أن يدعم كي يكون قادرا على احتضان النشاط الاجتماعي، هذا يربطه بالمكون الاقتصادي.

الفضل الأكبر في المظاهرات السورية، وهي أداة الثورة الأساسية، لناشطين شجعان في مئات المواقع في البلد. هؤلاء هم أبطال الثورة الحقيقيون. ودعمهم وتسهيل عملهم وضمان حمايتهم بقدر المستطاع من أولويات أية استراتيجية للثورة.

المكون العسكري، “الجيش السوري الحر”، بحاجة إلى دعم واحتضان. الدعم المادي أولا، لكن بالقدر نفسه الدعم السياسي والفكري. أي تنظيمه وترقية انضباطه، وبلورة رؤية واضحة لدوره. وكذلك التعامل مع باحترام.

المكون الاقتصادي معني أساسا بقضية الإغاثة اليوم، وبدرجة أقل بتسهيل أمور الثائرين على الأرض. تلزم موارد أكبر، تساعد الأسر التي فقدت بعض أفرادها، وتضمن كرامة المعتقلين حيث أمكن الوصول إليهم. لكن يلزم أيضا تنظيم وضبط هذا المكون على أسس من الشفافية والمحاسبة الصارمة.

المكون السياسي هو من يقع عليه الربط بين هذه الوجوه المتنوعة.

هناك تقصير شديد في هذا الشأن من جهة المكون السياسي.

لم ينجح في أن يكون المنسق العام لأنشطة الثورة ومكوناتها. ولم يبذل جهدا ظاهرا في هذا الاتجاه.

عدا قلة الخبرة والاستعداد، يبدو أن سببا مهما لذلك هو ضعف الثقة بين المجموعات المعارضة. ولقد أهدر كثير من الوقت والطاقة على التخاصم بين عناصره، وسيذكر ذلك دوما في سجل بعض الأشخاص.

ولا يبدو مستوى التنظيم والثقة داخل كل منها متميزا.

من المؤكد أن التنسيق ضعيف داخل المجلس الوطني مثلا، وأنه لا يفكر بطريقة متقاربة، وأن مستوى الثقة داخله ليس مميزا، ويبدو أن مكوناته تتعامل معه كقطاع عام، تخصه بأقل جهودها بينما تهتم كثيرا بمصالحها الحزبية أو الفئوية أو الشخصية خاصة.

وضعف المكون السياسي هو السبب في افتقار الثورة السورية إلى استراتيجية.

وإلى قيادة.

وضع الاستراتيجية هو المهمة الأولى للقيادة. وهو ما يتيح لها تنظيم الثورة.

دون ذلك يطغى الارتجال والتكتكة والتخبط. على ما هو محقق بخصوص المجلس الوطني السوري.

المجلس الوطني يقول عموما ما يقوله الثائرون على الأرض، لكن ما لزومه إن فعل ذلك؟ وظيفة القيادة هي أن تقود لا أن تنقاد.

هيئة التنسيق تفرض على الحراك الثورة قوالب من خارجه وغير حساسة للتطور الزمني، وهو ما يعكس تكوين المعارضة التقليدية وعجزها عن المبادرة المستقلة. لذلك يشغل الطعن في سياسة المجلس الوطني موقعا بارزا في تفكيرها، بدل بلورة رؤية واضحة حول الثورة وتطورها.

ربما يتجاوز تطبيق الاستراتيجية التي تنسق بين مكونات الثورة وتؤمن لها الدعم الكافي قدرات المجلس الوطني، لكنه لم يضع استراتيجية أصلا، ولم يصارح السوريين بحاله وقدراته.

العوامل المساعدة

المقصود القوى العربية والدولة.

لم ينظر إليها كقوى مساعدة في أحسن الأحوال.

شغلت موقعا واسعا في تفكير المكون السياسي للثورة على حساب الداخل.

سهل من ذلك افتقار المكون السياسي إلى استراتيجية للثورة، وإخفاقه في مخاطبة الداخل والعمل على مستواه.

علاقة المجلس الوطني بالداخل اقتصرت على تمثيل شكلي، وليس على تفاعلات كثيفة مستمرة.

انفتاحه على قوى خارجية كبير، وربما دون تنسيق بين مكوناته بخصوص هذه العلاقات.

علاقة هيئة التنسيق بالداخل علاقة خطابية، لم تنعكس في شكل عمل فعلي على مستوى الداخل، ووجدت نفسها دوما أقرب إلى الخارج القريب من النظام.

لا يمكن منع القوى الإقليمية والدولية من الاهتمام بالشأن السوري، ومن محاولة التأثير على تطوره، لكن المكون السياسي للثورة مدعو إلى ربط نفسه بالدخل وتطوير مبادرات وروابط وتفاعلات تثقل وزنه وتجعله عنوانا تقصده القوى الإقليمية والدولية، وتحسب له حسابا كبيرا.

فشل المكون السياسي في ذلك فشلا ذريعا.

انقسام المكون السياسي يوفر هامش مناورة مريح للقوى العربية والدولية للتلاعب به، أو لإخفاء مواقفها الحقيقية، أو افتقارها لمواقف محددة وراء انقسام المعارضة.

ويسهل كذلك عملها على استتباع أطراف من المكون السياسي أو أطراف فرعية ضمن كل طرف. هذا محقق.

انقسام المكون السياسي يعكس المحاور الإقليمية والدولية، ويسهل لها عملها. وهذا شيء ينبغي العمل على اجتنابه بكل السبل.

الشيء الإيجابي الذي يساعد على اجتناب سياسة المحاور هو الارتباط الوثيق والدائم بمكونات الثورة بالداخل.

وكذلك العمل من أجل بلورة مبادرة سياسية كبيرة موجهة إلى المجتمع السوري: قضايا المرحلة الانتقالية، “مخاطبة الكتلة الصامتة”، مخاطبة الموالين للنظام، مسألة المصالحة الوطنية، شكل الدولة في المستقبل بقدر من التفصيل.

المهم بناء السياسة حول اعتبار دور القوى الدولية مكملا، وليس أساسيا.

الزمن والتحولات النفسية

الميل العام اليوم هو التصلب والانفعال في صفوف قوى الثورة.

ميل متسع إلى العنف وإلى تديين الثورة وإلى التماس الحماية من أي كان.

المكون السياسي مدعو إلى وضع خطط تنظم ممارسة العنف بحيث يكون أداة من أدوات الثورة: يحمي المظاهرات السلمية بقدر المستطاع، ينتظم في إطار محدد، ويحتكر وحده السلاح وممارسة العنف، ويتحرك بالتنسيق مع المكون السياسي وتحت إشرافه.

المكون السياسي بالمقابل معني بأن يوفر له الدعم المادي ويساعده في تنظيم نفسه.

لا يتحتم أن يتحقق ذلك، وقد لا يتحقق إلا القليل منه، لكن الاستراتيجية هي مسألة تصحيح مستمر لتدارك ما يعرض من الإخفاقات، وتحسين العمل.

هناك صيغ متطرفة من تديين خطاب الثورة ولافتاتها، كالكلام على إعلان الجهاد”، تتسبب في تغريب قطاعات من المجتمع السوري عن الثورة أو تثير توجسها.

هناك صيغ معتدلة ومفتوحة، يتقبلها طيف من العلمانيين وغير المسلمين.

يقع على المكون السياسي الدفع باتجاه صيغ جامعة لخطاب الثورة، ومواجهة التديين المتطرف.

مواقف وخطاب وطني جامع من الإخوان المسلمين بالذات لهما تأثير مهم.

مهم جدا أيضا تأكيد العلمانيين على وجود طيف علماني في الثورة السورية وعلى فاعليته.

احترام جمهور الثورة المؤمن والمتدين واجب.

المبدأ العام هنا أنه كلما انضمت قطاعات اجتماعية جديدة، وفي المدن بخاصة، ومن خارج البيئة الإسلامية السنية العامة، كان ذلك أفضل للثورة ومستقبل البلد.

يمكن الاستفادة كثيرا من المكون الإعلامي، العربي في هذا الشأن.

في هذا الشأن أيضا هناك فشل ذريع للمكون السياسي للثورة، أظهره بمظهر رث.

استخدمت الفضائيات العربية والناطقة بالعربية بطريقة بائسة، تظهر تخاصم عناصر المكون السياسي، أو تعكس نزعات الظهور والنجومية، أو تفكر في شيء واحد هو التنديد بالنظام وإجرامه.

كان لدى المتكلمين دوما أجوبة سريعة جاهزة على كل شيء، محتواها الفكري والسياسي ضعيف، ويقول المتكلمون المختلفون أشياء متناقضة. والمتكلم الواحد يقول شيئا مرة وشيئا مناقضا مرة أخرى، أو يقول عموميات تدل على أنه ليس لديه ما يقول. مرد ذلك الافتقار إلى الرؤية والخطة الواضحة.

لم يظهر خطاب سياسي متزن ويخاطب عقول السوريين، والرأي العام العربي. وهو مخاطب مهم.

كان الوضع في هذا الشأن أفضل في بداية الثورة، ثم تدهور بالتدريج بسبب الافتقار إلى الرؤية والخطة أيضا.

النقطة التي أظهرت وضع المكون السياسي المنفعل حيال الحراك الثوري في الداخل، وحيال القوى الدولية، وحيال منابر الإعلام الكبرى، وأثارت أيضا أشد الانقسام والبلبلة ضمن هذا المكون السياسي وعموم الناشطين، هي ما يتصل بالحماية الدولية للشعب السوري والتدخل الدولي.

قيل الكثير، ولم يقل شيء واحد واضح.

من يحمي؟ وكيف؟ وهل يرغب أي كان في توفير الحماية الحماية؟ من يتدخل؟ وكيف؟ ولأي غرض؟ وما هي المخاطر المحتملة لذلك؟

سيطر الانفعال المشروع حيال جرائم النظام على التفكير المتأني في أمر معقد.

اليوم، تتحول الأزمة السورية إلى مسألة سورية مدولة. هذا أمر يتعين إدراك أبعاده وتضميناته.

النظام هو المسؤول الأول والثاني…عن ذلك بلا ريب، لكن يلزم أن تكون لدينا تصورات واضحة قدر الإمكان عن معنى هذا التطور ودينامياته ومساراته المحتملة، وما قد يوفره من فرص وما يطرحه من تحديات.

مع ظهور “المسألة السورية” يلزم تفكير أكثر تركيبا في هدف الثورة: إسقاط النظام والحفاظ على وحدة المجتمع السوري ووحدة البلد والسيادة الوطنية. ليس هذا سهلا، لكن لو كان سهلا لما كان هناك لزوم للسياسة والقيادة السياسية.

 الأولية اليوم

نقطة القوة في الثورة السورية هي الفاعلية الاحتجاجية المتجددة والمتجذرة.

نقطة الضعف هي المكون السياسي العاجز عن التخطيط والقيادة، ما يجعل الثورة السورية بلا رأس الرأس. هذا ينذر بظهور كثير من الرؤوس الصغيرة المتنازعة في البلد بعد سقوط النظام.

ما يجب فعله اليوم هو دعم نقطة القوة بكل الوسائل، المادية منها والسياسية، والعمل على تدارك نقطة الضعف.

من لوازم معالجة نقطة الضعف التوصل إلى تفاهم بين قوى المعارضة على التنسيق في القضايا المشتركة، وتشكيل هيئة مستقلة تراقب أية تصريحات مسيئة أو تخوينية، ويحق لها توجيه اللوم العلني لمن يقوم بذلك. المهم وقف التخاصم وتنظيف المناخ العام المعارض قدر الإمكان، وليس السعي الذي لا معنى له للتوحد.

إضافات

ليس المعول عليه في الاستراتيجية أن تطبق بحذافيرها، بل أن تكون موجها عاما للسياسة، يقبل التصحيح في تفصيلاته، لكنه يبقى مهيمنا على التكتيكات.

المعيار العام هو التقدم نحو تحقيق الهدف.

ضعف المكون السياسي للثورة السورية مفهوم وغير مفاجئ. ما ليس مفهوما أن لا يساعد الضعيف نفسه وينظم عمله ويركز قواه حيث تكون مؤثرة أقوى التأثير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى