صفحات الناسعدي الزعبي

عنتاب، خيمتنا الأخيرة/ عدي الزعبي

 

 

«مية السلامة»، تقول شذى مبتسمةً.

تركض بين الطاولات وعلى الدرج، لتعود بعد دقائق بنفس الابتسامة المرحة.

على طاولة مجاورة امرأة محجبة وحيدة، وعلى طاولة أخرى عائلة ديرية تملأ المكان بصخبها.

يشرح لي الشيف الحمصي الفارق بين الماريا والتوشكا، الأولى تأتي مع صلصة حمراء أما الثانية مع الجبنة. يحلف أن التوشكا هنا هي ذاتها التي كنا نأكلها في «الفردوس» في حمص. أتظاهر بأنني أعرف المطعم المقصود.

لهجة شذى الحلبية في المطعم الحمصي تمنحها عذوبة خاصة. يتذمر الديرية من غلاء الأسعار. تأتي أصوات ضاحكة من الطابق السفلي. المرأة الوحيدة تأكل ببطء ودون شهية.

ربيع عنتاب يجعل الجو في الليل ساحراً. بعد سنوات من الغربة في بريطانيا، تعلّمت أن أستمتع بنسمات الربيع أينما كنت وكيفما أتت.

صوت أم كلثوم البهي يصدح بقوة، ويسحر عمال المقهى ورواده الشباب في المنفى، مشوّشاً ما بقي من توازنهم النفسي،

«هو العمر أيه غير ليلة زي الليلة!».

ها أنا في عنتاب، عاصمة الثورة، كما يقول الأصدقاء ساخرين. تجنّبت زيارة المدينة على مدى السنوات الماضية، لم أشعر بأنها ستقدّم لي شيئاً. وصلت المدينة وكرهتها فوراً. عنتاب مدينة قبيحة، تحمل كل سمات التوسع العمراني غير المدروس، واللجوء السوري بفقرائه ونشطائه، بالإضافة إلى قباحة المدينة القديمة المتواضعة.

يردد الأصدقاء أن عنتاب تشبه حلب.

«شو جاب لجاب يا جماعة. شو جاب لجاب!»، أقول بغضب.

يردد البعض بصوت خجل، «ولكننا نحب عنتاب».

أصمت منتظراً بقية الكلام.

«المدينة هادئة وصغيرة ومحافظة. تشبهنا،  تشبه سوريا».

فجأة أرى ما لم أره من قبل: معظم السوريين لم يغادروا سوريا من قبل. بالنسبة لهم، عنتاب مدينة كريمة تستقبل الجميع برحابة صدر لم نجدها عند الإخوة العرب.

«كل المدن متشابهة في نهاية الأمر. إن كنت رب أسرة، فكل ما يلزمك وظيفة جيدة ومدارس محترمة لأولادك. كل المدن متشابهة ومتساوية يا صديقي»، يقول الرجل الأربعيني بحكمة.

هذا ما سمعته من أساتذتي في الجامعة في الريف الإنكليزي أيضاً.

تلبس شذى المعطف وتعبث بهاتفها.

«مع السلامة يا شذى»

«مية السلامة»، تقول بابتسامة واثقة.

تبقى المرأة المحجبة وحيدة تراقب صحنها نصف الممتلئ البارد.

غادرت شذى المطعم في الساعة العاشرة ليلاً. لم أر فتيات يعملن في مطاعم أو مقاه في سورية، إلا نادراً. كن دائماً مرهقات نتيجة تحرش الرجال المستمر بهن. الأمور هنا مختلفة، كما يبدو.

لم أجد الفرصة لأسأل شذى إن كان الحلبية يستقبلون الناس ب«مية السلامة»، أم أنها فلتة لغوية تختص بها وحدها.

داعش وأردوغان ونجوم الليل السهران

أردوغان وداعش يحضران في كل مكان، من اللاجئين الأفقر إلى الناشطين والكتاب والمحللين والزوار وعاملي المنظمات غير الحكومية.

«أردوغان استقبلنا وفتحلنا بوابو. أكتر من هيك شو بدنا».

أبتسم لمضيفتي مشجّعاً.

تشرب من قهوتها، تعدّل حجابها، و تتابع،

«إزا راح أردوغان، تاني يوم كلنا منتقلّع، الله وكيلك متل ما عمقلك».

«نحنا هون بضيافتو، وما رح ننسالو هالجميل»، تؤكد الفتاة الأصغر سناً.

«يعني أيه، أحوالنا ممكن تصير أصعب إزا راح أردوغان. هلق أنا ما بحبو، بس ما فيي ما فكر بحالنا كمان. معارضي أردوغان فاشيين، سواء يسار أو يمين».

يشعل المحلل سيجارة أخرى، و يتابع،

«يمكن قدرنا هاد أنو نضل مع الإسلاميين وين ما رحنا؛ يمكن هاد بيقلك شي عن مستقبل سوريا».

مع كأس البيرة الثالث، تنفتح قريحة الناشطة،

«أكيد أنا علمانية وإزا كنت تركية مستحيل صوت لواحد متل أردوغان. بس الواحد ما بيقدر ما يفكر بهالناس المساكين وين بدها تروح. هلق أنا واثقة أنو أردوغان فوّت داعش والنصرة…».

أقاطعها، «في معلومات و وثائق؟».

«أنت بس شكّك. لأ سيدي ما في معلومات، بس مبينة متل عين الشمس…».

أردوغان بطلنا الشعبي، القائد الرمز في زمن عزّ فيه الرجال، الصدّيق المقدام الفاروق المنزّه، حامي حمى الإسلام، المعتصم دون جيوش و لا رماح. أردوغان نجمة على صدر الليل الحالك، على وجه القمر، كصورة الإمام علي في الأساطير الشيعية. قلوب السوريين المساكين المكسورة يجمعها حبه، و كره داعش.

«أكيد أنا بكره داعش. ولاد الحرام مانعين العالم تلم محصولها»، تقول المرأة.

«عمي صاروا حابسينو تلات مرات، وكل مرة حجة شكل. قال لازم يعلّم بناتو الحشمة»، يقول الشاب.

«هلق لا داعش ولا النصرة بتعلمنا ديننا. نحنا منعرف ديننا منيح»، تقول أم المعتقل.

«متل ما عمقلك، في دواعش معبا هون، وفي عندون خطط ليغتالو ناشطين وسياسيين سوريين»، يقول الصديق.

لا أستطيع مقاومة الابتسامة:

«والله مو كتير زابطة أنو داعش بدها تغتال العالم بعنتاب. يعني كلنا عبعض بعنتاب مو شايفينا…».

” أنت ما بتعرف شي. عنتاب معباية مخابرات، سورية ومصرية وأميركية وتركية، وداعشية يا سيدي».

معظم من التقيتهم أكدوا هذا الأمر، ولكن لا معلومات موثوقة قدمها أي منهم.

أيضاً، باستثناء الناشطين وعاملي المنظمات غير الحكومة، يخبرني السوريون أنهم يخشون السهر في المدينة. لا أمان هنا، على الرغم من الظواهر.

«أنا برأيي داعش صنيعة إيران».

«متل ما عمقلك، صنيعة أميركا».

«النظام مسؤول عن داعش، كلهم عملاء للنظام».

«متل ماني شايفك، السعودية وتركيا وقطر خلقوا داعش».

«من يومين شفت شب هون واشم عإيدو (باقية و تتمدد) قسماً بالله ما بيفوت غير ما يكونو التراك عرفانين».

المعابر مغلقة منذ شهرين، وقصص دخول دواعش جدد إلى الرقة ما زالت تتردد هنا. بلى، هناك بعض التشديدات، ولكن ما زال بالإمكان الالتحاق بداعش.

المعابر مغلقة، أي أن الدخول غير الشرعي هو السبيل الوحيد إلى سوريا. يعتقد الناس أنها ستُفتح بعد الانتخابات. أيضاً، السلطات التركية في عنتاب أوقفت إصدار بطاقات السوريين المعروفة بالكيمليك. لا يعرف السوريون بالضبط ما هدف هذه البطاقات، لماذا تم إصدارها، ولماذا توقّف في عنتاب وليس في باقي المناطق. البطاقة تسمح للشخص بالتحرك داخل البلد وبالحصول على طبابة مجانية. بدونها، خصوصاً لمن لا يملك جواز سفر، تصبح الحياة مستحيلة.

في المقهى الواقع في قلب الحديقة، يخبرونني أن سلطات حزب العدالة والتنمية أوقفت شرب العرق هنا. لا يوجد قرار واضح، ولكنها تضييقات تدفع أصحاب المطاعم إلى الانصياع.

من طاولة بعيدة تأتينا أصوات نقاش حاد بين سوريين حول داعش.

فجأة يقول الشاب الجالس قبالتي،

«شو سألو؟ كم مسيحي داعش فيها؟».

«كم مسيحي داعش قتلت…كم مسيحي داعش قتلت؟ شبنا؟».

ننفجر ضاحكين.

تتلاشى ضحكاتنا في العتمة.

نجوم الليل السهران وحدها تنصت لقهقهاتنا الحزينة.

 

ناشطون وناشطات ونشاطات ثورية

يتمتع الناشطون والناشطات بسمعة سيئة بين السوريين؛ التهم متنوعة: من حصولهم على رواتب خيالية من المنظمات غير الحكومية؛ ما يُشاع عن فسادهم؛ تناحرهم الدائم الأزلي؛ عمالتهم للجهات الداعمة ومن يقف خلفها؛ أثرهم المعدوم، أو الضار حتى، على الثورة؛ وفي النهاية، تضخّم أنواتهم المرضي.

بالطبع، الناشطون موجودن في كل مكان، من اسطنبول إلى دبي إلى باريس ولندن وبيروت وغيرها من مدن المنفى السوري؛ ولكنهم يتركزون بنسبة كبيرة في عنتاب: هنا مقر المنظمات غير الحكومية لكونها المدينة الأقرب من سوريا، حيث الحدود أقل انضباطاً من كل دول الجوار؛ كما أنها مقر الحكومة المؤقتة، و فيها إحدى أكبر نسب سوريي المنفى في مدينة واحدة؛ بالإضافة إلى قربها من مخيمات اللجوء في تركيا.

لم يكن هذا لقائي الأول مع ناشطين، ولن يكون الأخير، كما يبدو. من الظلم تعميم أي ملاحظات أو مشاهدات على كل الناشطين وعلى أنشطتهم المتنوعة، والتي تتراوح ما بين خزعبلات تنويرية إلى تقديم العون المادي إلى الداخل السوري بشجاعة منقطعة النظير، وما بينهما من طبابة وتعليم وتحرير المرأة وأنشطة إعلامية ممتازة أو بمنتهى التفاهة…إلخ. في عنتاب نجد كل أنواع المنظمات بلا استثناء، من المنظمات العاملة في الحقول الطبية والتعليمية، ومن أكثرها احتراماً إلى مشاريع النصابين؛ كما تجد منظمات مرتبطة بدول بشكل مباشر، من خليجية وأوروبية وغيرها، إلى منظمات غير حكومية تتمتع باستقلال واحترام عال، من «قاسيون» قدري جميل إلى أطباء بلا حدود؛ بالإضافة إلى منظمات سورية تتعاون مع منظمات أجنبية للحصول على التمويل. التنافس على التمويل يسمم الأجواء بشكل كبير، والرواتب العالية التي يتقاضاها العاملون تجعل الحقد والنميمة والعلاقات الشخصية الوصولية هي السائدة في هذه الأوساط. جزء كبير من المساعدات الآتية إلى الداخل، الطبية والتعليمية، تصل عن طريق هؤلاء بالطبع.

ولكن، ما يجمع الناشطين، على ما أعتقد، هو خسارتهم لأنفسهم في مجرى الثورة. تحول معظم الناشطين إلى نجوم إعلاميين تطلب المحطات الإعلامية المختلفة إفاداتهم. الأكثر نجومية بينهم يتجولون في العواصم الأوروبية لاستعراض بطولاتهم في أيام الثورة الأولى. هذه النجومية تُفقد الإنسان بعضاً من توازنه: أن يتحول شاب لم يبلغ الثلاثين بعد إلى نجم تلفزيوني وشخصية عالمية تطلبها هيلاري كلينتون لتناقش معها مستقبل سوريا، ويعرض عليها الائتلافات والهيئات والمجالس السورية تمثيل الشباب، تعقد اجتماعات مع ميشيل كيلو وخالد خوجة وبرهان غليون وآخرين، ويتجمّع حولها معجبون ومعجبات مذهولون بحكمة وعمق وروعة الناشط أو الناشطة، لعمري أمور تدفع حتى المعري إلى التخلي عن زهده. يؤكد لي من هم أكبر سناً أن ما سبق أفقد الكهول توازنهم، فما الذي نتوقعه من الشباب؟

الناشط، إذن، يملك ميزة إيجابية سلبية في آن معاً، وهي أنه نشط في خدمة الحرية في فترة حرجة من تاريخ الشعب السوري، ولكن لم يُكتب له أن يفعل أي شيء آخر في حياته القصيرة. هكذا تتمحور ذاته حول نشاطه السابق. الملاحظ أن الناشط لا يستطيع إدارة أي حديث طبيعي: كل الكلام يعود إلى ما حدث في الأيام الأولى للثورة، وإلى المواقف السياسية المختلفة المطروحة اليوم، ورؤيته لها كثوري، ومعتقل سابق على الأغلب، بالإضافة إلى مرارة وسوداوية تكاد تلامس حماقات كيركيجارد الوجودية.

الناشط منتوج صعب الفهم للثورة السورية، وجزء أصيل ومحزن من مأساتها. في حين شارك معظم النشطاء  بشجاعة منقطعة النظير في الثورة، وخصوصاً في أيامها الأولى السلمية، تحولوا مع مرور الوقت إلى عبء على الثورة. خُطفت من أعمارهم الغضة أربع سنوات تركوا فيها دراستهم وأعمالهم وبيوتهم. يقفون اليوم مع الثورة على مفترق طرق. إما أن يستعيدوا حياتهم من الثورة ويعيدوا بناء مستقبلهم المهني كما يريدون وبما يحلمون به، بغض النظر عن النشاط الثوري، أو أن يبقوا معلّقين في فضاء مدن المنفى.

النشاط الثوري، اليوم، يجب أن يُضاف إلى حياة تتأسس بشكل ما خارج الثورة. أن يكون النشاط الثوري هو الحياة ذاتها، في ثورة فقدت بريقها الأول وأساليبها الخلاّقة، يجعل حياة النشطاء بأكملها تجري في هامش يتضاءل يومياً.

شحّاطة فاطمة

كانت فاطمة تجلس على الأرض. وجهها تغطيه بثور مختلفة الأحجام والألوان، ومعطفها الخفيف المهترئ بلونه الأحمر يجعلها أشبه بفتاة من الرسوم المتحركة منها بمتسولة من لحم ودم. تبتسم لنا ونحن نعبر إلى المجمع التجاري «سانكو بارك». حين تبادلها خطيبتي الابتسام، تخفي وجهها بخجل. بعد ساعتين نعود لنرى فاطمة في نفس المكان. أقترب منها فيما هي تبتسم مراقبةً الشقراء الغربيّة.

تتساءل فاطمة كيف يمكن لهذه الأجنبية أن تتكلم العربية. أشرح لها. لا ترفع فاطمة عينيها عن الشقراء الطويلة الواقفة أمامها. فاطمة من حلب، لا تتذكر متى غادروا المدينة بالضبط. أبوها متوفي، وأمها تعيش مع إخوتها في غرفة. تأخذ فاطمة الليرات الخمس وهي تضحك.

تلتفت إلي وتقول، «هي الأجنبية حلوة. الله يخليلك ياها عمو».

تبدو فاطمة من أسلوبها كبنت مهذبة حظيت بتربية جيدة.

«يعني عمو أنا حبيتها. هيك ناس ما بيطّلعو فيي بالعادة»

تنظر فاطمة مباشرةً في عينيّ؛ كأنها تسأل ما الذي حدث لنا ولماذا.

للسوريين سمعة المتسولين في دول الجوار: تمتلئ شوارع المدن بنا، أطفال ونساء وعجائز فرادى، عوائل بكاملها، فرق من الأطفال الهازلين القذرين؛ أمام المطاعم نتجمّع، على مداخل المحطات نتجمهر، في الأماكن السياحية نتكاثر كطفيليات غريبة؛ في الأردن الحوارنة، في لبنان الحماصنة، في تركيا الحلبية؛ يذلوننا ويطردوننا ويصدرون القوانين لتجميعنا وترحيلنا إلى أماكن لا مرئية، إلا أننا دائماً نعاود الظهور كمرض جلدي لا شفاء منه.

«فاطمة، أنا بدي أمشي. بدك شي؟».

«أيه عمو. بدي أشتري شحاطة جديدة ميشان العيد الجاية. شوف شحاطتي، خيطناها من هون لأقدر أمشي فيها».

قدم السندريلا الصغيرة أقذر من الرصيف الذي نقف عليه.

يتنازع السوريون من الطبقات الوسطى والغنية، وغيرهم من الأشقاء و الجيران، نازعان مختلفان في العلاقة مع المتسولين السوريين. يميل فريق إلى أن كل المتسولين يعملون ضمن شبكات لصوص تضمن لهم حياة معقولة، وأننا يجب ألا نشجعهم. إن امتلكت المال، تبرّع به لمنظمة واضحة المعالم. أما الفريق الآخر فيشكك بحجم الشبكات، ويميل بالمجمل إلى تقديم الأموال للمتسولين، خصوصاً الأطفال والنساء والعجائز. حتى لو كانوا يعملون ضمن شبكات، هذه الأموال تصلهم بشكل ما، ولو لم يكونوا حقيقةً في فقر مدقع لما انتهوا إلى هذه الشبكات.

أنا أميل إلى الفريق الثاني.

هناك فريق ثالث يقع بين الفريقين السابقين. يرى هؤلاء أن علينا أن نشتري حاجيات مادية بدلاً من إعطاء النقود للمتسولين، هكذا نضمن أننا لا نشجع الشبكات. عملياً، بعض الأصدقاء تأكدوا من هذا، وذهبوا إلى بيوت المتسولين محملين بحوائج مختلفة: النتائج كانت ممتازة. ولكن، أليس في هذا نقض لقصة الشبكات؟

على أية حال، لا نعلم ما هو رأي المتسولين، أو فقراء السوريين، في هذا الموضوع.

أتبادل حديثاً سريعاً مع خطيبتي حول شحاطة فاطمة. نجد أنفسنا في موقف غريب. لا نعرف إن كان هناك مكان قريب لشراء شحاطة، من جهة. من جهة أخرى، فاطمة لم تبد أي استعداد لمغادرة المكان معنا. ربما لا يجوز أن تغادر.

اقترحت خطيبتي أن نذهب إلى المول. فكرت سريعاً أنهم سيطردوننا. في كل المولات التركية تفتيش أمني: لن يسمحوا لنا بالدخول مع فاطمة. لم أخبر خطيبتي بأفكاري، خشيت أن تصر على الذهاب إلى المول مع فاطمة. هؤلاء الأجانب لا يقدّرون حجم الذل الواقع علينا، ربما ستخبرني أن من حق كل فرد دخول المول، سواء كانت فاطمة أم سلمى الحايك.

ترهات المساواة لا تنطبق علينا يا صديقتي.

تقاطعنا فاطمة،

«عمو، عشرين ليرة بيكفّوا. عطيني ياها وأنا بخلي ماما بكرا تشتريلي شحاطة جديدة».

ترتبك فاطمة بورقة العشرين ليرة، لا تعلم أين تخفي مثل هذا المبلغ الضخم.

أترك فاطمة ورائي وأمشي سريعاً إلى مكان لا تطالني فيه نظراتها.

جدران المجمع التجاري تتمدد لتسيّج كل مكان أصله في عنتاب.

خارجها، فاطمة تلهو وحدها حافية القدمين.

عنتاب، خيمتنا الأخيرة

تقول مضيفتنا: «والله لو بإيدي لروح أجيبو وأحطو جنبي. أيش هاد يا الله؟ ابني عميحارب مع الجيش الحر صرلو تلات سنين. أنا يا أخي بحب إبني أكتر من الثورة وأكتر من سوريا وأكتر من الحرية. بس والله مو طالع بإيدي شي. بدو يحارب…».

تسكت منتظرةً تعقيباً. نصمت جميعاً.

للجيش الحر والكتائب الإسلامية تواجد غير معلن هنا. بعض المقاتلين يأتون إلى عنتاب والمناطق الحدودية للاستراحة، أو لزيارة الأهل والأقارب، أو لعقد اجتماعات. عنتاب بشكل خاص، والجنوب التركي بشكل عام، هي حديقة الثورة السورية الخلفية. هنا تتنفس الثورة.

عنتاب خيمتنا الأخيرة. لا بيروت ولا عمان ولا طرابلس ولا غيرها. من هنا يتدفق المال والسلاح والمساعدات إلى الداخل السوري. ولكن عنتاب ليست بيروت الفلسطينية؛ لا قيادات كاريزمية في الثورة، لا قيادة تجمع أبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد؛ لا يسار قوي تمثله الجبهات الشعبية والديمقراطية؛ لا مثقفين يتماهون مع الحرب والقيادة والضحايا؛ خيامنا لا تجهّز مقاتلين ولا شعراء؛ أعدادنا الصغيرة نسبياً وضعفنا لا يسمح لنا بأن نكون قوة في السياسة الداخلية، على العكس، نحن ألعوبة في يد الساسة الأتراك.

لأسباب تتعلق بالوقت، وبعدم الرغبة، لم ألتق بأي ممثل عن الحكومة المؤقتة. رواتب الحكومة توقفت منذ أربعة أشهر، مما يعني أن مئات العوائل التي كانت تعيش على هذا الدخل المتواضع أحياناً، والكبير أحيان أخرى، بالإضافة إلى من يعتمدون عليهم في معيتشتهم، تعيش دون مصدر رزق اليوم. يضاف إلى ذلك توقف جزء من المساعدات التي تؤمنها الحكومة على الصعيدين التعليمي والإغاثي في عنتاب وفي الداخل. المطلوب توسيع هذا العمل وليس تضييقه.

في عنتاب، كما في كل مكان، ينقسم السوريون إلى ميسورين ومعدمين. في حفلة كنان العظمة وديمة أورشو غاب المعدمون وحضر النشطاء و الميسورون. كذا الأمر في اسطنبول وبيروت أيضاً. لا جسور تصل بين الشعبين. كانت الثورة احتمالاً مفتوحاً، وانكسر.

قصص اللجوء وطلباته والتفكير به وباحتمالاته تطالعك في معظم الأحاديث. بالمجمل، يبدو أن الفقراء لا يفكرون حقاً بالهجرة الثانية، أما الطبقة الوسطى فتسعى جاهدة لذلك. إلى أين؟ البحر أم القنصليات؟ يميل الناس إلى الثانية، دون أن يلغوا الاحتمال الأول.

«يعني أول ما إيجينا لهون كنا مفكرين نقعد. بس وبعدين؟ الولاد عميكبروا، ونحنا عمنكبر. بدنا نأسس شي. ما فينا نضل هيك معلّقين».

كل ما في الأمر أن العمر يمضي، ولا أفق يفتح لنا.

بكر صدقي، الصحفي  والمترجم عن التركية إلى العربية، لا يفكر في السفر.

«لنشوف بعدين شو بيصير، هلق بكّير».

في مقهى «جنجق» يشرح لي أن القاف لا تُلفظ في اسطنبول، ولكنها تُلفظ في الشرق والجنوب. ينصحني بألا أحكم على عزيز نيسين ككاتب ساخر، هذا التعبير ملتبس. أعد قراءة ناظم حكمت، بالرغم من أن أشعاره السياسية فقدت بريقها. إقرأ «اسمي أحمر». لا، ليست كل أعمال باموك عالية الجودة. لا تعمل في الترجمة، «شي بيعلّ القلب والله» اكتب أكثر، وعمل في التدريس إن وجدت فرصة. يقول بكر أنهلا يطيق التدريس، صبره قليل.

الرجل شبه معتزل في المدينة، لا يريد الانخراط مع الناشطين والناشطات والأجانب والسياسيين.

انتقل إلى بيت جديد الشهر الماضي، أرخص وأكبر.

سرق منه حافظ الأسد ما يقارب الخمس عشرة سنة من عمره قضاها في سجونه؛ اليوم يبدأ حياةً جديدةً في عنتاب وقد تجاوز الخمسين، مع زوجته وولديه.

«أيه البيت الجديد معقول، في حديقة صغيرة، رح ازرعها فليفلة وشغلات تانية، لنشوف …».

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى