صفحات العالم

عندما تمخض جبل الجامعة


د. نقولا زيدان

عندما آثرت الجامعة العربية إغماض جفونها، وهي تعلم ذلك كل العلم، عن حقيقة الأزمة السورية التي تتلخص بانتفاضة شعبية عارمة حيال نظام تديره طغمة حاكمة دموية تسلط آلة عسكرية عمياء برقاب شعبها، كان ذلك خطأً جسيماً منذ بداية محاولاتها امساكها دون سواها بمعالجة الأزمة.

فالنظام السوري الذي قرّر منذ بداية انطلاق التظاهرات قمعها بالرصاص وقذائف الدبابات والمدفعية، وهو الذي يبرع لحدّ مذهل في فنون المراوغة والتضليل راح يقود الجامعة من مأزق الى آخر. فقد كشفت الجامعة عن نقاط ضعفها بل عن عجزها في ايجاد حل ناجع للأزمة، وهي التي طالما اشتهرت بالعجز واتخاذ القرارات الرضائية والتسووية وعدم لجوئها الى التصويت إلا في حالة واحدة كانت نتيجتها دورها “التاريخي” في سقوط النظام العراقي والتخلص من طاغيته الدموي صدام. فباكورة العجز كانت في توقف مندوب سوريا عن حضور اجتماعاتها دون اقصاء سوريا عن الجامعة ولا وقف عضويتها. أما العقوبات الاقتصادية التي قررتها بحق النظام في دمشق فالجميع يعلم أنها كانت بحاجة لكفاية من الوقت لتحقق فعاليتها وتنجز أهدافها، ناهيك عن معرفة الجامعة المسبقة بالدور المريب الذي يلعبه النظام العراقي وحكومة الصناعة السورية في لبنان في اختراق هذه العقوبات.

أما أحد دلائل العجز في قرارات الجامعة فكان المبادرة العربية نفسها التي تلخصت بإرسال مندوبين مراقبين الى سوريا المشتعلة بالثورة، لا بل في اختبار المراقبين غير الكفوئين وفي قلة عددهم. بل أسوأ من ذلك بكثير عندما تكفل نظام دمشق مذ أن وطئوا أرض سوريا بتضليلهم ومراوغتهم بل في مضايقتهم وتهديدهم وتحديد أماكن زياراتهم، هذا ما عدا تبديل لوحات الارشاد للطرق واسماء القرى وتزوير حتى التظاهرات والمتظاهرين، وإكراه المستقيمين من هؤلاء المراقبين على الانسحاب. وكانت آخر بدعة للتعبير عن عجز الجامعة وتخاذلها هي ما تردد عن دعوة الأمم المتحدة لتدريب هؤلاء لترقية مستواهم البائس. بدعة لم ترَ النور كنظيرتها الداعية لإرسال قوات ردع عربية كتلك السيئة الذكر التي جاءت الى لبنان عام 1976 والتي ما لبثت أن انسحبت الواحدة منها تلو الأخرى عندما أدرك قادة الدولة التي أرسلتها انها لا تعدو كونها غطاء لاحتلال سوري للبنان. لربما في جعبة الأسد مكيدة من نوع آخر يستقبل بها قوات ردع كهذه وهي في أية حالة لن تأتي قطعياً لأنها لن تركب مركباً خطراً كهذا كما تشير المعطيات.

لقد كانت تجربة المراقبين العرب في سوريا تجربة أقل ما يقال فيها إنها فاشلة. فقد ولد قرار ارسال بعثة المراقبين شعوراً عاماً لدى الشعب السوري والشعوب العربية أيضاً ان الهدف منه اعطاء مهلة أو فترة سماح للنظام الأسدي للاجهاز على الانتفاضة أو أقله إراقة المزيد من الدماء، وبالفعل فقد سقط خلال فترة مكوث هؤلاء المراقبين أكثر من ألف شهيد.. ليس هذا فحسب بل تم تسجيل انسحاب 22 مراقباً منهم بل رأينا بعض هؤلاء على شاشات التلفزة يشيرون بأصابعهم الى القناصة المتمترسين على سطوح درعا المدينة وقراها، بل قدم بعضهم شهادات مذهلة عن كاميرات المراقبة التابعة لأجهزة أمن النظام في غرف نومهم وحماماتهم. فإن كانت الحال كذلك فما بالك بخطط سيرهم وتجولهم في الشوارع والأحياء. أما الفضيحة الكبرى التي لا يجوز السكوت عنها ألا وهي شخصية محمد الدابي وهو فريق أول في الجيش السوداني وصاحب سجل أسود عندما كان حاكماً عسكرياً لمنطقة دارفور في السودان التي هزت مآسيها الضمير العالمي. فكيف تم اختياره ولماذا؟ إنها أسئلة يطرحها الشعب السوري والرأي العام العربي والدولي، على الجامعة العربية وأمينها العام.

لقد كان يوم 22 كانون الثاني يوماً عاصفاً داخل أروقة الجامعة وقد تمخض الجبل فولد ما نرى بأم العين. الأول قرار عبثي مستحيل ألا وهو إقناع الرئيس الأسد بتسليم كامل صلاحياته لنائبه الذي عليه أن يهيء لانتخابات عامة رئاسية وتشريعية في غضون شهرين وذلك بإشراف عربي ودولي، الى غير ذلك من التفصيلات وأهمها تشكيل حكومة وحدة وطنية تشترك فيها المعارضة. لكن سرعان ما عمدت التلفزة الرسمية السورية وصحفها بإطلاق النار على هذا المقترح الذي يطاول رأس النظام. وقد كان لافتاً موقف سعود الفيصل الذي أعلن أثناء فترة الاستراحة بين اجتماعي الجامعة سحب المراقبين السعوديين من البعثة. ولم يفاجئ أحداً موقف مندوب الجزائر الذي رفض بقوة هذا المقترح، ولا مندوب لبنان وهو الأمين على تعليمات دمشق وحزب السلاح الممسكين بخناق لبنان حكومة وشعباً فقد أعلن أن لبنان ينأى بنفسه عن قرار يطاول النظام السوري.

أما الشق الثاني فهو التمديد لبعثة المراقبين الى سوريا مع زياد ملحوظة في تجهيزاتها وميزانيتها. هذا وسط ضجيج إعلامي لا مثيل له، حيث حاول رئيس وزراء قطر حمد بن جاسم بصبر عجيب مناشدة الرئيس السوري أن يحذو حذو الرئيس عبدالله صالح. أما محمد الدابي، بعد أن تمترس وراء قرار الجامعة العربية بالتمديد للمراقبين، راح يتلو على وسائل الاعلام تقريراً مليء بالمغالطات والتزوير الفاضح للحقيقة والواقع. فلا الانتفاضة هدأت لمجرد وصول المراقبين، ولا مجموعات من المسلحين هي التي تتصدى لعمليات الجيش السوري فكيتفي هذا الجيش بالرد عليها الخ… من التحريف للوقائع.

لقد كان موقف المجلس الوطني السوري مشرفاً في رفضه المبادرة العربية والتمديد للمراقبين، ذلك أن هذا القرار لن يؤدي سوى لإطالة النزف والبطش ومحاولة سحق الانتفاضة. وبصرف النظر عن عدم وجود أية رهانات جدية ملموسة الآن على مجلس الأمن للتدخل الفعلي في وقف حمامات الدم في سوريا، فإن حمل الملف السوري الى أروقته لن يكون سوى موقف مبدئي ليس إلا.

إن سخط المعارضة وغضبها من تخاذل الجامعة العربية، وحالة الغليان التي لا توصف في صفوف الانتفاضة الميدانية قد بلغ حده الأقصى. ومن السذاجة بمكان التعويل والرهان على أي موقف مقبول من نظام الأسد، فهو سكران بنشوة الدماء، وهو ماضٍ في منطقه الفاشي حتى القبر. هكذا علّمنا التاريخ.

لذا فالمعركة مستمرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى