صفحات الرأي

عندما تنتقم المجتمعات من حجز تطورها/ خالد غزال *

لم تكن الانفجارات المجتمعية العربية المتوالية فصولاً سوى النتيجة الحتمية لمسار سلكته هذه المجتمعات تحت قيادة أنظمة استبدادية على امتداد أكثر من خمسة عقود. يأتي هذا العنف والإرهاب المتصاعدين بمثابة انتقام متأخر من هذه المجتمعات، لتزيح من الطريق قوى ونخب تربعت على عرش السلطة، وإحلال قوى اجتماعية وسـياسية بطبيعتها مضادة لمنطق التاريخ والتقدم، أسيرة ماض تستحيل استعادته، قوى لا تعترف بثقافة تنويرية، ولا تولي الحرية شأناً، باختصار، هي قوى مناهضة للمستقبل. تقع المسؤولية الرئيسية عن هذا الواقع على الأنظمة السياسية التي حجزت التطور الطبيعي لهذه المجتمعات في جميع الميادين، فتسببت في انسداد مجرى تقدمها، ورفعت من وتيرة الاحتقان داخلها، وهو ما جعل الإنفجار نتيجة طبيعية لهذا المسار.

أول مظاهر حجز التطور تجلى في مسألة الاندماج الاجتماعي. لا تقع المجتمعات العربية في باب الفرادة لجهة مكوناتها الاجتماعية القائمة على غلبة البنى الطائفية والعشائرية والقبلية والإثنية. معظم بلدان العالم تحوي في جوفها هذا التعدد في الموروثات والتكوينات. لم تنج أيضاً بلدان كثيرة من احتراب أهلي بين مجموعاتها قبل ان تتوصل الى توحيد بلدانها على المـسـتوى الجـغرافي او الاندماج الاجتماعي. ما حصل في مجـتمعاتـنا العربية ان عملية التوحيد الجغرافي والاجتماعي سلكت طريقاً استند الى القسر والقهر في عملية الدمج والتوحيد. لم يؤخذ في الاعتبار مصالح وحقوق المجموعات الموجودة، ولم تقم تسويات تتيح حرية ممارسة هذه المجموعات لدورها ضمن المركز، بل شهدت المجتمعات العربية سلطات، كان على رأسها أقليات هنا وأكثريات هناك تتصف بالإقصاء والإلغاء للآخر، التقت جميعها على قهر سائر المجموعات، عسكرياً وثقافياً واقتصادياً… بما جعل المكونات البنوية أشبه بألغام جاهزة للانفجار عندما تسنح الظروف للتفلت والتمرد.

ثاني مظاهر حجز التطور، والمرتبط عضوياً بالعنصر السابق، هو حجز التطور السياسي لهذه المجتمعات، من طريق تسليط أجهزة الأمن والمخابرات على الشعب، ومنع قيام معارضات سلمية، وتصفية القوى المناهضة للحكم القائم عبر السجن والنفي والترحيل الى القبور، ومصادرة الحريات السياسية والفكرية والإعلامية. وهو ما أعاق حرية العمل السياسي، ومنع نشوء قوى بديلة لهذه الفئات الحاكمة، نجد أبرز تجلياته اليوم في أنماط من قوى التي لا تعرف سوى العنف والارهاب لغة للتعامل مع الناس.

ثالث عنصر من حجز التطور يتجلى في الميدان الاقتصادي. وضعت الأنظمة مشاريع تنموية لتطوير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لكنها ظلت محدودة الفاعلية ولم تحقق سوى الحد الأدنى مما كان متوقعاً لها. بديلاً عن استثمار الثروات لمصلحة الشعوب، استأثرت النخب الحاكمة بالموارد الاقتصادية، وأقامت رأسماليات متوحشة، وحتى من ادعى منها انه يعتمد سياسة اشتراكية لم يكن خارج مسار هذه الرأسمالية. هكذا وجدت المجتمعات العربية نفسها أمام أعلى معدلات في الفقر والبطالة والمجاعة، وهجرة اليد العاملة ومعها الأدمغة الى البلدان الغربية. تبددت الثروات العربية بعد ان احتكرتها أقليات، لم تستفد مشاريع التنمية الا من النذر اليسير منها. فهل من الغريب ان لا يولّد هذا المسار احتقاناً اجتماعياً مفتوحاً مباشرة على العنف والإرهاب.

واكتملت عناصر حجز التطور العربي بالهزائم التي منيت الجيوش العربية فيها بهزائم أمام العدو الصهيوني، فتبددت أحلام الشعوب بالتحرير واستعادة الأرض، مما أورث مهانة ومذلة. لم تعترف الأنظمة بهزائمها، بل سعت الى إسباغ النصر على الحروب التي خاضتها، وأجبرت الشعوب على جرع كأس هذه الانتصارات المزعومة.

هذه عينة من العناصر التي حجزت فيها الأنظمة الحاكمة تطور مجتمعاتها، وهذه السياسة هي الأم الشرعية لكل الانهيار الشامل التي تشهده مجتمعاتنا. منذ ثلاث سنوات تشهد هذه المجتمعات تحولات جذرية في مسارها، ما ظهر منها حتى الآن ليس سوى بدايات. تطرح هذه التطورات تحديات أساسية على النخب العربية تبدأ من محاولة فهم ما يجري وصولاً الى تعيين متطلبات المستقبل الديموقراطي، خصوصاً ان الأنظمة التي بدأت تتشكل في أعقاب الانتفاضات ستكون عاجزة عن تحقيق الديموقراطية.

يلهث الجميع اليوم في قراءة طبيعة المستجدات، لا تزال المفاهيم القديمة والمفاتيح الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية هي السائدة في تفسير ما يجري، فيما يكمن التحدي الحقيقي في انتاج مفاهيم جديدة تساعد على فهم الحدث. لعل التحدي الأكبر يكمن هنا. فالمنطقة العربية امام تحولات ضخمة لا علاقة لها بالمسار الذي سلكته منذ تحقق الاستقلالات. من السذاجة بمكان إطلاق احكام مطلقة حول الراهن ومجرياته والمستقبل وآفاقه. تحتاج الأحداث الى حسن طرح الأسئلة الصائبة قبل المغامرة بإطلاق أجوبة حتمية، فالسؤال الصحيح يكمن فيه نصف الجواب الصحيح.

تقف المنطقة امام مخاض عسير في مسارها، تحتاج الى ولادة قوى جديدة ترسم معالم المستقبل، وتحتاج ايضاً الى ثقافة سياسية ترشد ممارستها. واذا كان الإرهاب والعنف الذي تقوده قوى تقيم خارج التاريخ، يتصدران اليوم الحراك الجاري، فلا يعني ذلك انه مسار أبدي. فتاريخ الشعوب العالمية بما شهدته من أحداث وحروب يظل يشكل دروساً لا بد للمجتمعات العربية من الإفادة منها في الطريق لحل معضلاتها البنيوية التي تبدو مستعصية اليوم من دون شك.

* كاتب لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى