صفحات الرأي

عندما صارت الحرية أساساً للاجتماع والسياسة/ إبراهيم غرايبة

 

 

تبدو المدينة بما هي تعبير عن العقل والحرية البديل الواقعي والممكن من السياسات والسلطات العربية وما أدت أليه من كراهية وتطرف وفشل في تحقيق الاستقرار والتنمية، وعلى مدى التاريخ أنشأت الممالك المدنية في اليونان وشرق المتوسط مفهوماً للاجتماع والسياسة يتعارض مع مفهوم الإمبراطوريات الكبرى التي نشأت في وادي النيل وحوض دجلة والفرات، ففي تلك الممالك المحدودة تقريباً بمسافة المسير نصف يوم أو في دائرة نصف قطرها لا يتجاوز خمسة وعشرين كيلومتراً، تجمع الناس واختاروا قادتهم على أساس من الحرية والمساواة، بل اندمج مفهومهما مع المدينة، فصار يطلق عليهما مصطلح السياسة المدنية أو الحكم المدني ، بما هما فلسفة للحكم ينشأ عنها سياسات وتطبيقات تتعارض جوهرياً مع مقولات الحق الإلهي والحق الطبقي التي قامت عليها الممالك والامبراطوريات الكبرى، وتحول ذلك إلى صراع بين المؤسسات السياسية والدينية من جهة وبين المجتمعات من جهة أخرى أو إلى صراع بين القلعة والمدينة، وفي هذا الانقسام الواضح بين القلعة والمدينة تبلور مفهوم السياسة المدنية أو الحكم المدني.

لم يكن ذلك مساراً مستقيماً وواضحاً، لكنه كان مساراً طويلاً ومعقداً وممتداً ومليئاً بالعثرات. ويلاحظ لويس ممفورد كيف استطاع الإنسان الحضري بالعمل والمشاركة وكذلك بالعزلة والتأمل أن يوفر لجانب أكبر من الحياة فرصة الإفادة من ممارسة الفكر والروح الجماعيين ونشاطهما باستمرار، فما بدا على هيئة صراع خارجي مع قوى الطبيعة العادية انتهى إلى دراما داخلية لم تكن خاتمتها أي انتصار مادي، بل إلى ازدياد فهم الفرد لذاته وتطور داخلي أوسع نطاقاً. وبنشوء مجالس المدن والتحادث والدراما تشكل تنوع مهني وفكري واجتماعي، ولم تعد المدينة مجتمعاً يسوده التماثل التام، وكما جاء على لسان هايمون في مسرحية أنتيغون لسوفوكليس «مدينة لا رأي فيها إلا لرجل واحد ليست مدينة».

وتمخض تطور المدينة الإغريقية عن اتجاهات عدة في النظم تبعث على الأمل وتتحرر مما كانت الديانة تزكيه من أوهام فاضحة عن السلطة المطلقة التي لا تحدّ، فقد أقيمت مدنهم على نطاق أقرب إلى طاقة البشر، وتخلصت من ربقة المطالب الجنونية لملوك شبه آلهة، ومن كل ما كانت تستتبعه من وسائل القهر والإرغام وألوان التنظيم العسكري والإداري. ومن اللافت أن الشاعر هسيود القادم إلى أثينا من القرية كره الحرب وحمل عليها، لكن أفلاطون الفيلسوف الحضري امتدح الحرب بوصفها وسيلة أساسية لتنمية الفضائل الإنسانية!

لقد كانت الحرية أو المواطن الحرّ أسوأ كابوس وإلى الأبد للطبقات المهيمنة والسلطة المطلقة والنفوذ المستتر، لكن لم يعد ممكناً إعادة الأمور إلى الوراء، بل اتسع مفهوم الحرية ومطلبها حتى صار محركاً وملهماً للأفراد والمجتمعات، يقول سقراط كما في كتاب جورجياس لأفلاطون: «إنك تطنب في مدح الرجال الذين احتفلوا بالمواطن وأشبعوا رغباتهم ويقول الناس إنهم جعلوا المدينة عظيمة. لكنهم لم يروا أن حالة المدينة وما بها من أورام وقروح يجب أن يعزى إلى هؤلاء السياسيين والشيوخ. وذلك لأنهم ملأوا جنبات المدينة بالثغور والأحواض والأسوار وموارد الدخل وما إلى ذلك. ولم يتركوا مكاناً للعدالة والاعتدال».

وينسب ممفورد تراجع المدن في ظل الامبراطوريات إلى أنها لم تعد يقوم فيها كل فرد بدور وينطق بكلمات ذلك الدور، بل أصبحت مكاناً فخماً لعرض مظاهرة القوة، وتمشياً مع ذلك لم يكن لواجهات شوارعها إلا بعدان، فقد كانت بمثابة ستار يخفي نظاماً شاملاً من التنظيم والاستغلال.

لكن المدن صعدت مرة أخرى بعد انهيار روما في القرن الخامس الميلادي، وهي وإن ظلت فترة طويلة تتعافى من الخراب الذي أصابها بسبب الفوضى وهيمنة الإقطاعيين والعصابات لكنها نجحت مرة أخرى في التأسيس للنهضة المعاصرة بما هي تجمع الناس أحراراً ومتساوين لأجل تحسين حياتهم وكما يرونها ويدركونها بعقولهم.

* كاتب أردني

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى