صفحات الرأي

عندما نطق الملك السعودي


أسعد أبو خليل

ونطق الملك السعودي، بعد طول لأي. لا تنطلق الكلمات بسهولة من فم خادم الحرميْن وقائد الأمّة العربيّة والإسلاميّة (وإن وكّل أمره حيناً لحمد بن جاسم). المشكلة في نطقه مزدوجة: مزيج من التأتأة (وقد عانيت منها أنا طفلاً)، مع أميّة لم تنقذها بضع سنوات في «مدرسة الأمراء» التي كانت تضمن إنتاج أمراء أميّين في المملكة. الملك السعودي لم يكن حاضراً على امتداد السنة الماضية وما شهدت من أحداث جسام. كل ما مرّ من أحداث في العالم العربي ومن انتفاضات لم تتطلّب منه ردوداً، باستثناء رصد الأموال لتخفيف النقمة الشعبيّة وإطالة أمد الحكم السعودي، ولإعانة طغاة حلفاء في المنطقة، مثل البحرين والأردن والمغرب. لكن الملك السعودي نشط وتحرّك وقفز فقط أثناء الأسابيع الطويلة التي استغرقتها الانتفاضة على حسني مبارك قبل أن تقصيه عن الحكم، هو وعمر سليمان (خليفة أميركا المُنتظر). عندها، نشط الملك السعودي وكان (هو ونتنياهو وفق رواية «نيويورك تايمز») يتصل يوميّاً بأوباما ويحثّه على زيادة دعمه لمبارك حتى يُتاح لهذا الأخير استعمال كل ما لدى الجيش المصري من قوّة لقمع الانتفاضة الشعبيّة. كان ذلك عندما حرّك مبارك سلاح الطيران لإخافة منتفضي ميدان التحرير ومنتفضاته. خاب أمل الملك السعودي، وقرّر أن يحمي طاغية البحرين، لعلمه أنّ أميركا ستُسرّ بتدخّل نظامه في البحرين لإنقاذ سلالة ذات تاريخ عريق في القمع والدمويّة.

لكن ماذا قال الملك السعودي في ما نطق أخيراً عن الوضع في السعوديّة أثناء مهرجان «الجنادريّة» (الملك الحنون ألغى أوبريت الجنادريّة فيما حافظ على باقي البرنامج تحسّساً بألم الشعب السوري الجريح)؟ قال إنّ الفيتو الروسي «هزّ» ثقة العالم بالأمم المتحدة. ومن المعلوم أنّ روسيا والصين لم تفرّطا إطلاقاً في استعمال حق النقض في مجلس الأمن: هذا كان اختصاص أميركا منذ إنشاء دولة الكيان الغاصب في فلسطين. لكن 60 فيتو من أميركا لحماية إسرائيل لم تهزّ ثقة الملك السعودي (الذي سمح لنفسه بأن يتحدّث بالنيابة عن العالم، ربما لأنّ الدول الغربيّة ترتمي تحت أقدام أمراء آل سعود، وربّما لأنّه تعوّد أن يشتري الولاء والطاعة في العالم العربي، وبعض الإسلامي) بالأمم المتحدة. كانت بضع كلمات فقط من الملك السعودي، وقد جهد في نطقها، لكن الإعلام السعودي والقطري هزج لكلماته وجعل منها عقيدة جديدة في العلاقات الدوليّة. الإعلام السعودي والقطري رأى بلاغة الجاحظ في كلام الملك السعودي، وما لبثت المحطات التلفزيونيّة أن ردّدت بتكرار الطاعة الرتيب كلمات الملك السعودي. أما ملقّنو صحف أمراء النفط، فقد اقترحوا طبع مجلّدات تتضمّن روائع حكم الملك.

لا شك في أنّ المتابع (والمتابعة) للسياسة السعوديّة يتبيّن بعض السمات في تعاطيها مع الشأن السوري: هناك من ناحية إصرار على إسقاط النظام بأيّ ثمن، ربما تعويضاً عن سقوط نظام مبارك (الذيلي ـــ يفيد كتاب محمد حسنين هيكل كثيراً في إبراز جوانب مهمة من شخصيّة مبارك السطحيّة والماديّة). قل إنّ السياسة السعوديّة هنا تدخل في باب توازن القوى الإقليمي: خسارة نظام مبارك ودخول مرحلة عدم التبلور (الثوري الاحتمال والأفق من دون ضمانات) ضرب النظام العربي ـــــ الإسرائيلي الإقليمي الذي عملت أميركا على إنشائه منذ حكم السادات. وليس صدفة أنّ الدول الغربيّة ووكلاءها زادوا من الضغط على إيران (من دون سبب مقنع) بعد سقوط نظام مبارك وفي غمرة الإعداد للانسحاب الأميركي المُذلّ من العراق. كلّ ذلك مثّل ضرورة أساسيّة للنظام السعودي كي يبادر، أو ليبدو أنّه يبادر.

لكن النظام السوري تأخر فقط في إدراك حجم المخطّط السعودي ـــــ القطري ـــــ الغربي ضد النظام (وضد سوريا أيضاً)، بل أقنع نفسه بأنّه غير مكروه جماهيريّاً وأنّ كل من يتظاهر هو جزء من هذا المخطّط. أي إنّ النظام واجه المخطط السعودي لأشهر في غير موقعه: عبر إطلاق النار على متظاهرين، وهادن النظام السعودي منذ البداية، وكان وليد المعلّم يؤكّد حسن العلاقات مع السعوديّة، فيما كان الإعلام السعودي يشنّ حملات حادّة على النظام. سياسة النظام تتسم بإنكار واقع التأزّم في العلاقات ظنّاً أنّ في التذاكي فائدة جمّة. استحقّ النظام السوري أن يعظه ملك البحرين في «دير شبيغل» هذا الأسبوع، لأنّ النظام السوري أيّد قمع الشعب البحريني، وأيّد التدخّل العسكري السعودي في البحرين لفرض القمع. ظن النظام السوري أنّه اشترى مهادنة وليونة من السلالة البحرينيّة، وظنّ أنّ السلالة الكويتيّة لن تنسى له أن أرسل قوّات لدعم النظام الكويتي ولإسباغ شرعيّة عربيّة وإسلاميّة على قوّات الاحتلال الأميركي في 1990. خذلت أنظمة الخليج النظام السوري الذي عوّل على بوادر حسن النيّة من قبله، وعدم الردّ عبر السنوات على حملات إعلاميّة سعوديّة غير مسبوقة في العلاقات بين البلدين.

أراد النظام السوري إقناع نفسه بأنّ أزمة عابرة في العلاقات تمرّ وأنّ الأمور ستعود إلى حال الصفاء. كذلك إنّ فظاظة الحملات المذهبيّة للمعسكر السعودي بعد اغتيال الحريري قد أربكت حزب الله وسوريا وإيران. فعلت الفتنة فعلها، رغم إنكار حزب الله. وتعاونت سوريا مع المصالح السعوديّة في لبنان، وقبلت بتنصيب سعد الحريري في رئاسة الحكومة، بعدما قاد حملة قويّة على النظام السوري الذي اتهم باغتيال رفيق الحريري (كان هذا قبل اتهام حزب الله، لكن وثائق «ويكيليكس» تنبئنا بأنّ الحكومة الأميركيّة سترتّب مرّة أخرى أمر اتهام النظام السوري من جديد، وقد تُضاف حماس وإيران إلى القائمة منعاً لالتباس الأغراض). انتظر النظام السوري وأساء تفسير غياب الحيويّة في الحراك الدبلوماسي السعودي. قرأ في ذلك مهادنة من آل سعود، وظنّ أن قطر تقود عليها حملة قويّة بالنيابة عن نفسها، فقط. لكن النظام السوري لم يحسن قراءة تفسير الوضع القيادي السعودي: فالملك في حالة صحيّة حرجة، والصراع على السلطة لم يحسم بعد. على العكس، إنّ تعيين الأمير نايف (قد يكون أكثر أمير مكروه في كل السعوديّة) قد أجّج أزمة السلطة، ولم يحلّها. توقّع النظام السوري أن يكون اتفاق الدوحة قد فكّ عنه عزلته وأعاد المياه إلى مجاريها مع النظام السعودي. والنظام السعودي لا يغفر إساءة، حقيقيّة كانت أو وهميّة. إنّ الخلاف بين القذّافي والملك السعودي كان نتيجة سوء فهم من الأخير (الذي يصعب عليه النطق والفهم). فالقذافي في القمّة المذكورة كان في الواقع يمدح النظام السعودي ويختلق له الأعذار، لكن الملك السعودي ظنّ أنّ هناك إساءة، فردّ بالشتيمة الصبيانيّة فيما استنجد الطاغية الليبي بالطاغية المصري. والنظام السعودي لم يغفر للنظام السوري ذلك الخطاب بعد حرب تمّوز الذي أشار فيه بشّار إلى «أشباه الرجال». في العقليّة القبليّة القروسطيّة التي تتحكّم في آل سعود، التعيير في الذكورية من أقبح القبائح. عوّل النظام السوري على تعاون (شرّير بمنظار مصلحة المقاومة في لبنان ومصلحة العدل الاجتماعي أيضاً) في لبنان.

ورغم مسارعة النظام السعودي إلى تبنّي الحملة على النظام السوري في كل وسائل إعلامه، أصرّ الإعلام السوري على تحييد سوريا: حاول في البداية تحييد كل أعدائه وخصومه، وأمل أن تعود تركيا وقطر إليه. لكن النظام السوري أصرّ في إعلامه على التمييز بين دور قطر ودور السعوديّة. وشارك في هذا التكتيك غير الذكي كل مؤيّدي النظام السوري في لبنان الذين لم يتوقّفوا عن الثناء على عروبة الملك السعودي (لم يستفض أحد بعد في شرح معنى عروبة الملك السعودي إلا سمير جعجع الذي لم يتصالح مع العروبة إلا بعدما قرأ نظريّات الملك السعودي فيها). لم يدر في خلد أهل النظام أنّ قطر لا تتحرّك من عندها، وأنّها حتى في سنوات صراعها الطويل مع الحكم السعودي، لم تلحق ضرراً بتحالفها مع الولايات المتحدة، ومع تطبيعها المتدرّج (والخفي أحياناً ، فقد استأنفت شركة الخطوط الجويّة القطريّة، ذات الخمس نجوم، الرحلات المباشرة بين الدوحة وتل أبيب) مع العدوّ الإسرائيلي. النظام السوري بدأ بالسماح لضيوف إعلامه بانتقاد السعوديّة، لكن المسؤولين السوريّين لا يزالون يحيّدون السعوديّة في انتقاداتهم.

صعد الدور القطري في مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربيّة بعد المصالحة (الثانية القويّة) بين قطر والسعوديّة، ما يعني أنّ دورها يدخل في إطار ترتيب المنظومة الإقليميّة الذي شغل إسرائيل وأميركا بعد سقوط مبارك المدوّي. لا ينفصل الدور القطري عن مجمل المخطط الأميركي ـــــ الإسرائيلي المرسوم لقيادة الثورة المضادة وإدارتها. قطر والسعوديّة والإمارات لا تستطيع بالضوابط الأميركيّة أن تتحرّك من تلقائها إلا في حدود ضيّقة جداً. والتنافس بين وكلاء أميركا في المنطقة مسموح، على أن تكون نتيجة التنافس في مصلحة إسرائيل قبل أميركا. لهذا، إنّ تلك الدول الخليجيّة تتنافس في التطبيع مع إسرائيل وفي تسهيل العمليّات السريّة للموساد على أراضيها (كما قام أولاد زايد بتسهيل مهمة الموساد في دبيّ ولم تنطق حركة «حماس» بكلمة نقد واحدة ضد دولة الإمارات، لكن «حماس» على مسلك فتح في كل شيء، بما فيه التملّق لبراميل النفط ـــــ إسماعيل هنيّة لم ينطق برفض الصلح مع إسرائيل إلا في إيران).

لكن ماذا يدور في خَلَد الحكم السعودي الذي نام لأشهر فيما كان الشعب السوري يُقتل، باستثناء بيان غامض ويتيم صدر عن الملك وسُمي في وسائل الإعلام السعوديّة «البيان الهام» (إنّ تثاؤب أمراء آل سعود وعطساتهم تمثّل أحداثاً جساماً في الصحافة السعوديّة التي لا يضاهيها في الرداءة إلا صحيفة «تشرين» السوريّة الرسميّة)؟ فجأة عاد الدور السعودي إلى الصدارة بعد شهور من ترك حمد بن جاسم يقود شؤون الثورة المضادة. لا شك في أنّ حمد بن جاسم استطاب الدور. كيف لا وهذا الرمز التطبيعي العربي الذي يمثّل واحداً من المسؤولين العرب الذين كانوا يصابون بضعف في الركب بمجرّد رؤية تزيفي ليفني التي لا تنفي أنّها كانت تدور في أوروبا لتقتل عرباً. حمد بن جاسم ـــــ وهذا رمز لتقدّم الثورة المضادة في بلادنا ـــــ ظنّ أنّه عبد الناصر زمانه. هل يظنّ حمد بن جاسم أنّ هناك في أوساط الرأي العام العربي من يلتفت إلى مواقفه ويقدّرها خارج إطار تلك المنظمات والدول التي تتلقّى العطايا القطريّة؟ قد يكون المجلس الوطني السوري يكيل له المدائح عندما يحظى بلقاء دقائق لتلقّي التعليمات والإرشادات منه. لكن حمد بن جاسم ظاهرة تتناقض مع تلك الحريّات التي تريدها قطر والسعوديّة في سوريا، وتعارضانها بقوّة في بلديهما. إنّها حكمة الراعي الأميركي الذي لا يرعى التحوّل الديموقراطي إلا إذا كان موجّهاً ضد نظام لا يتماشى مع السياسة الأميركيّة (طبعاً، عندما قدّم النظام السوري خدمات سريّة وعلنيّة لأميركا عبر السنوات، لم ترد مسألة الديموقراطيّة في سوريا في أجندة الحكومة الأميركيّة. على العكس. كذلك وطّدت الولايات المتحدة دعائم الديكتاتوريّة في مصر بمجرّد أن سلّم السادات البلد للمحتلّ الإسرائيلي).

لم يرق التصدّر القطري، الحكم السعودي. أدرك السعوديون أنّهم باتوا في الواجهة الخلفيّة وأنّ حمد بن جاسم أصبح ناطقاً باسم نادي الطغاة الخليجيّين. والحزازات والخلافات القطريّة ـــــ السعوديّة (مثل غيرها من الخلافات بين مختلف دول مجلس التعاون الخليجي) تبقى تحت السطح وقد تعود لتنفجر أحياناً مع أنّ الراعي الأميركي يحبّذ طيّ الخلافات بين وكلائه في المنطقة. السعوديّة تريد أن تعود إلى الواجهة قبل أن يسدل الستار. تريد أن تقطف ثمار التغيير في سوريا قبل أن تسبقها قطر، كما فعلت في تونس ومصر. تركة حسني مبارك ثقيلة؛ لأنّ الشعب المصري لن يغفر هذا التمسّك العنيد والدموي من آل سعود بمبارك والضغط على المجلس العسكري لمنع إجراء محاكمة حقيقيّة له ولأعوانه، كذلك إنّ الشعب التونسي لن يغفر للسعوديّة استضافة الطاغية بن علي ورفض تسليمه للمحاكمة. لهذا، تمثّل سوريا فرصة كي تقطف السعوديّة ثمار معارضتها للنظام (الذي رعته لسنوات ـــــ من نسي مثلّث الطغيان السوري ـــــ السعودي ـــــ المصري الذي مثّل عنصر القرار في السياسة العربيّة على مرّ السنوات، وخصوصاً بعد حرب الخليج الأولى؟).

والإخوان المسلمون في فروعهم المختلفة، مطيّة جاهزة دوماً. الدنانير تجعلهم ينسون فلسطين وتجعل من محمود عباس (رئيس سلطة النيابة عن الاحتلال الإسرائيلي الذي نكّل بالمناضلين الفلسطينيّين، وخصوصاً الذين ينتمون إلى حماس) رئيساً مقبولاً من حماس. والعلاقة بين حركة الإخوان المسلمين في سوريا (وقد يكون ذلك الفرع من أبشع فروع الإخوان البشعة في العالم العربي ومن أكثرها دمويّة وطائفيّة ومذهبيّة) وبين السعوديّة قديمة، كذلك إنّ الحليف الذيلي لآل سعود، سعد الحريري، وطّد العلاقة بين الإخوان والسعوديّة (وتطوّع لتقريب الإخوان إلى أميركا كما قرأنا في «ويكيليكس»). تستطيع الإخوان، أو بعض فروعها، المفاضلة بين المال السعودي والمال القطري. الفرع اللبناني للإخوان فضّل المال الحريري السعودي على المال القطري، مثلاً.

ليس للسعوديّة خطة واضحة. ستنفّذ ما تطلبه منها أميركا وإسرائيل. إنّها تفعل فعلها في إقناع العالم العربي بأنّ إسرائيل وأسلحة دمارها تمثّل مصدر عزّة للعرب، وأنّ إيران مع سلاح نووي ومن دونه هي الخطر الوحيد على العالم العرب. والسعوديّة تتخبّط في الموضوع السوري. لقد تبنّت قراراً يرفض التدخّل الأجنبي ويطالب بقوّات «حفظ سلام» عربيّة دوليّة (هذا على طريقة الإعلان السعودي في 1990 أنّ المملكة استقدمت قوّات عربيّة وإسلاميّة و«أخرى صديقة» للدفاع عن السعودية في وجه صدّام حسين. كان هذا بعدما رأى خبير صور الأقمار الاصطناعيّة، الملك فهد، صوراً من الفضاء الخارجي جلبها له ديك تشيني). وتسرّبت معلومات عن أنّ السعوديّة توزّع قراراً في الجمعيّة العمومية للأمم المتحدة لكسب تأييد عالمي لمشروع الجامعة العربيّة (الذي انبثق، مثل كل ما ينبثق من الجامعة هذه الأيام، من مجلس التعاون الخليجي ـــــ ونبيل العربي، للأمانة، مطيع لآل ثاني كما كان عمرو موسى مطيعاً لحسني مبارك ولآل سعود معاً). لكن قد تتحرك السعوديّة وقطر تكتيكيّاً من دون تنسيق مسبق مع واشنطن. قد تتسرّع الدولتان في إرضاء واشنطن، وقد تكونان في حيرة من أمرهما. فكرة إرسال قوت حفظ سلام لا تتطابق مع الوقائع على الأرض وبينها وبين التطبيع عوائق وعقبات ضخمة. حتى هيلاري كلينتون التي أثنت على جهود حلفاء واشنطن، تحدّثت عن «تحديّات» تحول دون تطبيق فكرة سلالات الخليج.

كيف تستمرّ دول الخليج في تبنّي فكرة تغيير النظام بالقوّة من ناحية، وتتوقّع أن يسمح لها النظام بدخول قوّات عربيّة وأخرى دوليّة لحفظ نظام لا تريد له الاستمرار؟ لكن فكرة إرسال قوّات سعوديّة إلى سوريا فكرة جذّابة من حيث متعة المشاهدة التلفزيونيّة، وخصوصاً إذا قرّر الأمير المغوار، خالد بن سلطان، قيادة قوّات حفظ السلام العربيّة المُطعّمة بالقوّات الدوليّة. صحيح أنّ بضعة مقاتلين من الحوثيّين أذاقوا المرّ للجيش السعودي الذي يستفيد من استيراد أحدث الأسلحة الأميركيّة، لكن الفكرة تأتي في وقت تتنطّح خلاله المملكة لأداء دور بارز. الفكرة تعبير عن إرادة مضيّ إلى النهاية في مشروع تغيير النظام السوري. لكن النظامين السعودي والقطري لا يعلمان أنّ ما انتظر بوش في العراق سينتظرهما في سوريا ـــــ لو سقط النظام ـــــ وخصوصاً أنّ لبنان جار لسوريا.

ويمكن النظر إلى كلام الملك السعودي كعودة للنافسة أو حتى الصراع (الدائم وإن استتر لأسباب تتعلّق بتكافل دول الخليج حول صلابة الطغيان ومنع تغيير أي من الأنظمة هناك) بين قطر والسعوديّة. وهذا الخلاف سيتكرّر في الفصل التالي من الانتفاضات العربيّة؛ لأنّ قطر بدت أكثر مهارة في الاستغلال السياسي من السعوديّة المشغولة بأمورها الداخليّة. لكن أميركا ستحاول أن توفّق بين قطر والسعوديّة، كما يحاول النظام السوري أن يوفّق بين وئام وهّاب وطلال أرسلان. لكن المنافسة بين قطر والسعوديّة مفيدة لأنّها تسمح للتخريب، تخريب الثورة المضادة المستعرة بأن يقوّض دعائم النظام العربي القمعي الجديد الذي يحاول أن يرث النظام العربي القمعي القديم. تحوّلت السعوديّة وقطر إلى داعيتيْن للديموقراطيّة في تلك الدول التي تخالف مشيئتهما (نجح نجيب ميقاتي في تسجيل رقم قياسي جديد في مديح آل سعود عندما نظّر في محطة صهر الملك فهد، «العربيّة»، بأنّ مبادرة الملك عبد الله للاستسلام أمام إسرائيل هي التي أطلقت «الربيع العربي».

يجد الشعب السوري نفسه كما يجد الشعب الليبي نفسه. شهد البلدان انتفاضتين شعبيّتين حقيقيّتين تعبّران عن مكنونات الإحباط والغضب المتراكمين منذ عقود من الطغيان والقمع والقهر باسم شعارات لا تمتّ بصلة إلى سجلّ النظاميْن. وعندما يتحوّل المجلس الوطني السوري إلى حليف لفريق 14 آذار، تتكرّس معالم الصراع: الصراع الإقليمي تدور رحاه اليوم حول سوريا، من دون اعتبار للشعب السوري ومطالبه المُحقّة. السعوديّة ترعى ثورة؟ عندما ينطق الملك السعودي باسم «ثورة سوريا» تعلم أنّ الثورة ماتت، أو قُتلت بنيران النظام السوري ونيران المؤامرة الأميركيّة ـــــ الإسرائيليّة ـــــ السعوديّة ـــــ القطريّة التي تصول وتجول في مختلف أرجاء الوطن العربي لتوطيد دعائم نظام إقليمي لا يقلّ ولاءً للمصالح الأميركيّة عن النظام السابق. تتيقّن من ذلك عندما يصبح سمير جعجع ناطقاً باسم «ثوّار» حمص وحلب.

هذه ليست دعوة للاستكانة في سوريا: هذه دعوة لثورة جديدة: ضد النظام وضدّ من خطفوا الثورة برعاية سعوديّة ـــــ قطريّة.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى