سعاد جروسصفحات سورية

عندما يتغير كل شيء ما عدا النظام


سعاد جروس

ظلال رمادية تلوح على شاشة تلفزيون «سيرونيكس» – صناعة محلية – تلمع بومضات فضية، فتضيء وجوها تتابع واجمة اعترافات أحد «أفراد العصابة المجرمة التي تروع الناس وتغتال شخصيات قيادية في الحزب والدولة».

طفلة صغيرة تراقب التلفزيون بعيون مذعورة، ويخفق قلبها مع كل تعليق يهمس به أحد الحاضرين وهو يلتفت نحو الشباك المطل على الشارع، بحركة تنم عن توجس من آذان تتنصت خلسة على الجدران. ترتجف طفلة العشر سنوات وتلتصق بجسد والدتها، وكلما زاد الهمس حاولت الاختباء بدفن وجهها في ظهر أمها، وبين لحظة وأخرى تسترق نظرة إلى الشاشة، قبل أن يباغتها خوف ينفر من عيون الساهرين الذين يتابعون أمرا خطيرا، فتحس بقلبها الصغير يخفق كعصفور يحتضر.

بعد انصراف الساهرين حاولت الطفلة أن تستفسر من والدها عما كان يعرضه التلفزيون، فنهرها: إياكِ أن تتحدثي في هذا. سارعت الأم لتطييب خاطرها موحية لها أن ما رأته ليس حقيقيا: إنه تمثيل. انزوى الأب في أحد أركان البيت بعيدا عن فضول الأبناء ليستمع للأخبار في راديو «ترانزستور»، وضعه على أذنه مباشرة كي لا يسمع أحد غيره صوت إذاعة تبث من بغداد، بعد أن أسدل الستائر وطلب من الأم أن تأخذ الأولاد إلى النوم. الأضواء مطفأة عدا مصباح صغير، يلقي بظلال خافتة، يزيد من أجواء الخوف. في هذا الجو القاتم، انفرد الأب بنفسه متابعا ما تقوله تلك الإذاعة عن الأوضاع في سوريا، وكأنما يقوم بعمل سري مستنكر. كان ذلك في الثمانينات، حين كانت حماه محاصرة، وحالة من الغموض العام ترخي بثقلها على الأحداث فترفع وتيرة التوتر المكتوم في ظل منع التداول بغير المعلومات الرسمية التي تأتي من إذاعة دمشق والتلفزيون السوري حصرا.

الطفلة التي حاولت التجسس على والدها، سرقت ذات يوم الراديو وأشرت بالقلم إلى موضع الإبرة، لتتمكن في غيابه من الاستماع للإذاعة الممنوع سماعها، لتكتشف أن هذه الإذاعة ضد النظام السوري، وتقول كلاما يعاقب المرء على سماعه لا على قوله فقط. حين سمعت بعضا منه، تملكتها رغبة شديدة لسماع المزيد. كان مختلفا عما يقال في الإذاعة والتلفزيون السوريين، على الرغم من عدم إدراكها لمعناه عموما؛ الاختلاف شكل إغراء عظيما لها، ولربما اكتسب مصداقيته لأنه مخالف للسائد. فالعصابة المجرمة التي يبث التلفزيون اعترافات بعض أفرادها ويشاهدها الأهل والجيران بذعر وتكتم شديدين؛ لا يدققون فيما تحمله الاعترافات من معلومات صحيحة أو غير صحيحة، ولا يناقشون مصداقيتها، بقدر ما يتداولون ما يدور في خيالاتهم عن حجم التعذيب الذي يلاقيه هؤلاء، وحكم الإعدام الذي ينتظرهم، وغالبا كانوا يؤكدون أنهم ماتوا وشبعوا موتا قبل أن تبث اعترافاتهم، معبرين عما يجول في أذهانهم بنصف جملة أو بتلميح موارب، فالتعاطف معهم ممنوع، حتى لو كانوا يعرفون الشخص وأهله، ثمة قصة رسمية واحدة على الشعب قبولها بفم ساكت وعقل مغلق.

أتذكر طفلة العشر سنوات التي كنت هي في الثمانينات، فيما أشاهد اليوم شيئا مماثلا إلى حد ما، القصة الرسمية الواحدة لا تزال موجودة، وكذلك التلفزيون السوري والإذاعة وكل وسائل الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، النظام نفسه لم يتغير، لكن الذي تغير الواقع والشعب وكذلك وسائل الاتصال، التي نقلت عملية الحصول على المعلومة من حيز التلقي السلبي إلى الحيز التفاعلي. فتلفزيون الـ«سيرونيكس» الأبيض والأسود انقرض، حتى الملون منه لم يبق له أثر بعد هبوب عواصف العالم الرقمي. أمور كثيرة استجدت على الواقع، وهي كافية لجعل طفل لم يبلغ من العمر عشر سنوات يتابع اعترافات أفراد العصابات المجرمة وهو يأكل الشيبس، قبل أن ينقل الريموت كنترول إلى قناة أفلام الأكشن بحثا عن متعة أكبر، بينما والده منصرف إلى الإنترنت بحثا عن معلومات من ناشطين على الأرض، حتى متابعة التلفزيون لم تعد كما كانت سابقا، إذ بالكاد يصمد المرء أمام نشرة الأخبار لأكثر من ربع ساعة من دون محاولة التنقل بين قنوات لا حصر لها لمتابعة روايات أخرى للقصة ذاتها، إلى أن يصل إلى صياغة رؤيته الخاصة المنسجمة مع قناعاته وأفكاره.

كل شيء تغير عدا عقلية النظام وأسلوب إعلامه المنسجم مع تلك العقلية الأحادية، التي ربما تكون نافعة في مرحلة اللونين الأبيض والأسود، ولكن في عصر الألوان والرقميات والإنترنت الرابط بين القارات فقدت القصة الرسمية حصانتها، وباتت عرضة ليس فقط للتشكيك بل أيضا للاستخفاف والاستهزاء، وبإمكان طفل العشر سنوات اليوم أن يجادل بقلب صلد ثغراتها، ويعيد روايتها من قبيل النكتة، ولن يملك والده عليه سلطانا ليمنعه من التعاطي في الشأن السياسي، بل ربما سيدهش ويجلس ليتعلم من ابنه ما لا يعلمه. وهذا يحصل أمامي في منازل أقاربي وأصدقائي، أرى الآباء حائرين في إيجاد إجابات مقنعة عن أسئلة الأولاد الذين لا يحتاجون لمن يفسر لهم ما يجري، لأنهم يعرفون ما لا نعرفه، ولكنهم يسألون ليكتشفوا هل أهلهم مثلهم يعرفون!! مثال ذلك النكتة الشائعة عن طفل سأل جدته كيف أتى إلى الحياة، فأخبرته بقصة الطائر الذي حمله بمنقاره ووضعه عند باب البيت، فما كان من الطفل إلا أن التفت إلى شقيقته الأصغر وسألها: سوسو هل نخبر تيتا كيف جئنا إلى الحياة أم نتركها على عماها؟

العجيب، أن ثلاثين عاما تغير فيها وجه العالم بفضل ثورة المعلومات، لم تؤثر على عقلية الأنظمة البوليسية التي لم تغير في تعاطيها مع الشعب ولا في وسائل قمعها. ولا تزال تستمر في نسج القصص الرسمية ذاتها وعلى عماها، وبالإصرار ذاته، من دون تغيير أو تبديل أو تطوير طفيف، حتى إن التقنيات البصرية المستحدثة سُخّرت للمزيد من التعمية، ولترويج الرواية الرسمية التي لا تحول ولا تزول، مهما جافت المنطق، كأن تتجرأ قناة محلية على اتهام قناة عربية ببناء استوديو يتم فيه بناء ماكيتات ضخمة لساحات سورية، بهدف فبركة مظاهرات زائفة من خلال خدع بصرية وممثلين محترفين، لا بل والقول إن العاصمة الليبية لم تسقط، ومشهد وصول الثوار إلى الساحة الخضراء كان غير حقيقي وتمثيلا في تمثيل!!

والسؤال: ترى هل الذي فكر بهذا السيناريو، خطر له أنه إذا اقتنع الشعب بأن كل ما جرى في ليبيا عبارة عن فبركة وخدع سينمائية، كيف سيقنعه بأن معمر القذافي الهارب في الصحارى والقفار ليس معمر القذافي، وإنما دوبلير استقدم من هوليوود، وأن القذافي الحقيقي ما زال يحكم ليبيا من خيمته، وزعماء العالم يتقاطرون إليه زرافات ووحدانا، أما أعضاء المجلس الانتقالي الذين وصلوا إلى ليبيا، فمحض كومبارس تافه!!

هذه القصة السورية شبه الرسمية لما حصل في ليبيا، تعكس على نحو ما أن قناعة تشكلت لدى القائمين على الإعلام السوري بأن شيئا مماثلا قد يحصل في سوريا، ولولا القناعة لما قام باستباق الحدث قبل حصوله، في تأكيد هو من نوع الكذب على الذات، بإلغاء ما يجري في أنحاء سوريا كلها، بأن ما نراه إنما هو بديل بصري يجري في استوديو مغلق؛ وعلى الشعب أن يصدق!!

إذا كان ما يروج له الإعلام الرسمي وشبه الرسمي جادا أو مازحا فيه، فلا غرابة إذا فقد الآباء ومعهم الأنظمة السيطرة على أبناء فتحوا النوافذ وطلقوا الخوف إلى غير رجعة.. وخرجوا إلى الشوارع يعبرون عما يفكرون به نهارا جهارا.

* مراسلة «الشرق الأوسط» في دمشق

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى