صفحات سوريةمصطفى كركوتي

عندما يصبح القتل سلعة عند تجّار الأفكار/ مصطفى كركوتي

 

يا لبؤس السياسة والسياسيين عندما يصغي المرء، أو يقرأ، رأي توني بلير في «الربيع العربي» وطبيعة الثورة المستمرة في المنطقة وما ستؤول إليه عندما تصل إلى نهاياتها. فقد أصبح للسياسة، كما للتجارة، رجال أعمالها. فها هو رئيس وزراء بريطانيا السابق يقول لـ «بي بي سي راديو 4» أخيراً: «بما أن الربيع العربي وصل إلى تونس وليبيا ومصر واليمن وسورية»، فإنه كان سيصل إلى العراق، على افتراض أن صدام حسين كان لا يزال في مكانه، وكنا سنواجه وضعاً مماثلاً لما يجري في سورية الآن».

وللمزيد من التوضيح يستفيض: «كان العراق سيغرق في الحرب الأهلية مثلما يحدث في سورية، لو لم تقم بريطانيا (كشريك أصغر للولايات المتحدة) بغزوه» عام 2003، وكأنه يريد بذلك تبرير قراره الانضمام إلى الحملة الأميركية وإكسابها شرعية دولية والسعي الى إعفائه من مسؤولية «الإتجار بالقتل». وها هو بلير يحض، قبل يومين، على التدخل المباشر، إن لم يمكن ذلك، ففرض حظر جوي في مناطق سورية معينة.

فكأن بلير وغيره من أصحاب هذا الرأي يقتربون من «حدود الهلوسة»، وكأن المسألة باتت محصورة في مناقشة «أسباب» الموت وليس الموت. إنها قراءة مبسطة لحرب مدمرة من سياسي قاد بلاده ما يزيد عن عقد. وخلال تلك الفترة، سار جنباً إلى جنب مهووس الحرب الأكبر، الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، في حربين داميتين في أفغانستان والعراق، ألحقتا دماراً كبيراً بالاقتصاد الأميركي والعالمي في آن واحد، عدا تدمير البلدين معاً.

وبعد عقدين على مأساة رواندا، لا يزال العالم يتذكر حرب الإبادة التي أودت بحياة ما لا ًيقل عن 800 ألف إنسان، معظمهم من قبيلة التوتسي، فيما نهلع إزاء الارقام المتعاظمة للذين يقتلون يومياً في العراق وأفغانستان، والآن في سورية. ففي العراق فاق عددهم المليون، ويتزايد يومياً في سورية ليتجاوز الـ150 ألفاً. وفيما بلغ قتلى قوات التحالف الدولي في أفغانستان 3400 قتيل، يبدو أن لا أحد مهتمٌ بتعداد قتلى الأفغان، بمن في ذلك عشرات آلاف الأبرياء، الذين لقوا حتفهم منذ بداية الحرب عام 2001 «انتقاماً» لعملية بن لادن الإرهابية.

يوميات الحرب في أفغانستان الصادرة عن «ويكيليكس» المؤلفة من 91 ألف تقرير سري توضح بجلاء هذا الأمر المحزن. وتكشف كم ان الفارق كبير بين معلومات «ويكيليكس» والمعلومات الرسمية حول ضحايا هجمات قوات التحالف. ويبدو أن بوش وبلير يكرران أخطاء الغزاة السابقين لأفغانستان ولا يتعلمان من دروس التاريخ. فأفغانستان معروفة بأنها عصية على أي قوة غازية، والسوفيات عرفوا ذلك جيداً عندما حاولوا، وفشلوا في تطويع الأفغان على مدى فاق العقد. ببساطة: لا يمكن غزو القبائل.

في 2003 كان الرئيس الأميركي السابق بحاجة ماسة إلى حليف ليخوض معه حربه في العراق ووجد ضالته في بلير. وكانت فِرْيَةِ بلير الكبرى عندما أبلغ مجلس عموم بلاده المضطرب في ذلك العام أن صدام حسين «يقف على بعد 45 دقيقة من حيازة (وبالتالي احتمال استخدام) اسلحة الدمار الشامل، أكبر خدعة في التاريخ الحديث. وكان إعلان بلير ذاك عاملاً حاسماً في صنع حرب دامية، صحيحٌ أنها أنهت نظام صدام ولكن دمرت العراق.

وكي نقرأ بلير جيداً، فغزو العراق، وافتراضاً قبله أفغانستان، «أنقذه» من الحرب الأهلية. ولكن هل أنقذ العراق وأفغانستان من القتل اليومي المستمر والمتعاظم؟ طبعاً لا. فعندما تكشف مراكز بحثية غربية مستقلة عن تقديرات الموتى في العراق وحده، نتيجة عمليات مرتبطة بأسباب تتعلق بالحرب بين عام الغزو 2003 ومنتصف عام 2011، بأنها تتراوح بين نصف مليون و620 ألف ضحية، فهذا يدعو إلى الهلع فعلاً.

وفقاً لمعلومات أخرى وحديثة نشرتها المجلة البريطانية الموثوقة «ذا لانسيت»، يفوق الرقم الـ 600 ألف ضحية بين 2003 وتموز (يوليو) 2006. ومعروف أن آلة القتل في العراق لم تتوقف مذّاك. ووفق معلومات أخرى، أكدتها وكالة الإحصاء البريطانية «أوبينيون ريسيرش»، فاق عدد القتلى المليون حتى كانون الثاني (يناير) 2008.

كثيرون هم المحللون عبر الأطلسي الذين ينتقدون بلير وبوش نتيجة قرارهما الطائش إقحام بلديهما في رحى حربين بالغتي التكاليف «كان يمكن تلافيهما». فبعد مرور 13 سنة، لا تزال أفغانستان منقمسة على أسس قبلية وتواجه خطر الحرب الأهلية بين سكان الجبال الباشتون وسكان المدن.

والآن يتطلع العالم من دون تحرك ذي معنى الى القتل اليومي والمجاني والمستمر في سورية. فمع تسارع عملية تفتت البلد نتيجة طبيعة الحرب الأهلية، يتلاشى الاقتصاد الوطني بالكامل. أضف إلى ذلك أن نصف سكان سورية يعيشون الآن تحت خط الفقر، وهذه حالة غير مسبوقة في العالم وفقاً لتقارير دولية. الأصول والبنى التحتية دمرت بما يفوق القدرة على إعادة إعمارها. مؤشر التنمية البشرية وفقاً لدراسة حديثة صادرة عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، تراجع إلى مستوى ما كان عليه قبل 37 سنة. ويقدر أن تستغرق عملية التنمية 30 سنة، بمعدل نمو سنوي يعادل 5 في المئة، كي تصل قيمة إجمالي الناتج المحلي إلى ما كانت عليه في 2010.

وتسرد روايات لاجئين وشهادات حية لمسافرين يتسنى لهم الخروج من المناطق المنكوبة في سورية، كيف أن مراكز قوى وإدارات محلية عشوائية «بدأت تبرز كالفِطْر»، وتحل محل الأسواق المدينية التقليدية في أطراف المدن، وتضع أسساً لتشكيلات اقتصادية جديدة وغريبة عما هو مألوف. ويبدو أن هذه التشكيلات تظهر لدى كل أطراف النزاع، إذ أضحت، من سوء حظ السوريين، الأسواق المركزية أو مراكز وسط المدينة، من الماضي. وبما أن الآن لا يوجد بديل في الأفق لحياة كثيرين من الناس، أصبح هؤلاء تحت رحمة كل من له مصلحة في إطالة أمد الحرب على مدى الأرض السورية، لا سيما في المناطق التابعة أو الخاضعة لحماية ميليشيات النظام.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى