صفحات العالم

عندما ينمو الاعتدال على الأشجار/ حسام عيتاني

 

تطلب الهيئات الدولية من العرب وخصوصاً من المسلمين السنّة إبداء قدر أكبر من الاعتدال والعمل على تعزيزه ونشره والدفاع عنه في مواجهة الجماعات المتطرفة الآخذ نفوذها في التنامي وقوتها في التمدد. تصور الدعوات الأوروبية والأمريكية الاعتدال وكأنه ثمار تنمو على الاشجار وما على العرب والمسلمين غير قطفها والحفاظ عليها حتى تستقيم الأمور ويرعى الذئب إلى جانب الشاة.

لا شيء أبعد عن الواقع من هذا. ومقابل تزايد الضغوط الغربية والدولية عموماً التي تمارسها هيئات سياسية ودينية مدعية رفعة أخلاقية وحقاً في توبيخ الأكثرية العربية على الفظائع التي تستهدف الأقليات خصوصاً في المشرق، لم يقدم الغرب أي تصورات معقولة لحلول سياسية طويلة الأمد في المنطقة، اللهم باستثناء فتح بعض الدول أبواب الهجرة أمام المسيحيين على نحو يساهم في تعميق الخلل الديموغرافي في بلدان المشرق العربي على وجه الخصوص.

وجلي أن اختزال تشخيص الأحداث والحروب الاهلية الممتدة بين اليمن وسوريا، إلى إبادة تشنها الأكثرية على الأقليات بغية إفنائها والقضاء الجسدي عليها تتنافى مع الفهم البسيط للتطورات التي بدأت مع الثورات العربية أو بالأحرى مع الغزو الأمريكي للعراق في 2003 والذي كسر الأمر الواقع السائد وما لبث بعده “النظام العربي” الرسمي أن ظهر بمظهر العاجز عن علاج أمراضه فتداعى وانهار وانهارت معه الدول والمجتمعات.

لكن الفهم التبسيطي لهذه الظواهر المعقدة يتلاءم مع ضرورات الترويج الإعلامي لخطاب عنصري في جوهره عن شعوب متوحشة لا معنى لحياتها غير التهام لحوم بعضها وجزّ رؤوس أبنائها، تبريراً لتخلي العالم عن مسؤولياته حيال هذه الشعوب وحصرها بمحاولات انقاذ على طريقة جيمس بوند للأقليات، بحسب ما تبين من كلام الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي تحدث عن إنقاذ أكثرية العالقين في جبل سنجار في الوقت الذي كان فيه مسلحو “داعش” يقتلون كل من يجرؤ على النزول من الجبل.

هذا الكلام ليس دعوة إلى التخلي عن مسؤولية شعوب ودول المنطقة العربية عما تقوم به وما تشهده أو استعادة دور الضحية المثالية التي وقعت أرضاً وتكالبت عليها الأمم وسكاكين الجزارين الأجانب. على العكس تماماً. فالمسؤولية الأولى في علاج الأزمات التي تفقأ العين تقع على عاتق هذه الشعوب. في المقابل، يتعين على المجتمع الدولي الكف عن قول أمر وفعل نقيضه والإيغال في الكذب وإطلاق الذرائع الواهية لتبرير ازدواج معاييره على نحو يفاقم الأوضاع سوء ويقفل أبواب الحلول الجدية.

في هذا السياق يمكن مقارنة السرعة المدهشة في اتخاذ أوباما قرار قصف مواقع “داعش” في العراق إرسال الأسلحة إلى قوات البشمركة الكردية وهو ما سانده الاتحاد الأوروبي بعد ساعات قليلة، بالبطء الشديد في التعامل مع قصف جيش بشار الأسد للغوطة بالأسلحة الكيماوية (وهي الجريمة التي تحل ذكراها السنوية هذه الأيام) والقول إن قرار معاقبة من انتهك “الخط الأحمر” السيئ الصيت الذي رسمه أوباما قبل أشهر محذراً من مغبة قصف المدنيين السوريين بالأسلحة الكيماوية، وليتبين بعدها أن القيام برد عسكري دولي يتطلب قرارات من مجلس الأمن وتصويتاً في برلمانات الدول المعنية. بكلمات ثانية، جرى اعتماد الكذب الصريح للتهرب من المسؤوليات الدولية في ساحة لم تكن تريد الدول الكبرى التورط فيه نظراً لانعدام المصلحة الواضحة.

لقائل أن يقول إن مستوى العلاقات بين إقليم كردستان وبين الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة والتنسيق المستمر منذ عقدين تقريباً يفوق كثيراً نظيره في المعارضة السورية، على سبيل المثال، التي ظلت لأشهر مترددة في حسم موقفها من تنظيمات داعش والنصرة وأحرار الشام وغيرها ممن لم يخفوا يوماً العداء التام للعلاقة مع الغرب. ويعيد ذلك النقاش إلى نقطة اتفاق القوى الكردية على أولويات أساسية كالدفاع عن الإقليم والتصدي لتقدم “داعش”، مقابل تشرذم مزمن وغير قابل للعلاج في صفوف المعارضة السورية وعدم اتفاقها على أي شيء تقريباً يتجاوز المطالبة بإسقاط نظام الأسد.

على هذه الخلفية، تبدو المطالبة بالتزام الاعتدال مجرد كلمات زائدة في ساحة تغطيها الدماء ويصم الآذان حولها صوت الغرائز ودوي المدافع. فالمسألة لم تكن يوماً هجوماً من الأكثرية على الأقلية، بل كانت وستظل مسألة بناء إنسان عربي وانهاضه من كبوات الظلامية والاستبداد والتخلف. ومن أسف أن ما من أيد تمتد لتساعد الإنسان هذا. بل على العكس.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى