أحمد عمرصفحات الناس

عند حاجز اتحاد الكتّاب العرب/ أحمد عمر

 

 

كنت قد حصلت على نعمة موافقة اتحاد الكتّاب العرب على طباعة كتاب عنوانه “أخطاء مطبعية”، ثم غيّرت رأيي بعد ثلاث سنوات وكتبت كتاباً آخر سميته “قلب الدراق”، وقدمته للاتحاد لفحص سلامته الصحية واستهلاكه الآدمي، وحصلت على نعمة موافقته الثانية على الطباعة الميمونة. وعنَّ لي أن أضم قصة من الكتاب القديم اسمها “أخطاء مطبعية” (فلا حدود سايكس بيكو بين قصص الكاتب) إلى الكتاب الجديد “قلب الدراق”، وطبعته، ثم قدمته للاتحاد للحصول على نعمة الموافقة بالتوزيع، فإجازة الطباعة غير إجازة التوزيع، ومكثت شهراً أنتظر الموافقة حتى تختمر تحت شمس القراءة والفحص والتفتيش وتثمر ويؤتى أكلها. ومضيتُ إلى الاتحاد أسأل عنها في الديوان، فقيل لي إني مطلوب لرئيس الاتحاد نفسه، حياً غير ميت، وكانت تلك المرة الأولى التي يحصل لي فيها شرف لقاء رئيس الاتحاد.

قصدت رئيس الاتحاد، وهو رجل معروف بالمقاومة والممانعة، بل هو موكول من قبل النظام بالتشهير بالمطبّعين وتكفير التطبيع. مقاومة التطبيع غير مؤمّمة في سوريا، فهو “آيزو” لرئيس الاتحاد. ووقفتُ على باب إمام عدو التطبيع مع العدو الخارجي، أما التطبيع مع العدو الداخلي فهو إمامه أيضاً. وقفت وأنا أتنفس تحت الماء، ودخلت بعدما نلت فيزا الدخول، وصدر صوت من الغرفة. فدلفتُ ووقفتُ أمام طاولته المرسيدس وعرّفته بنفسي، فأخرَج من فوره عند سماع اسمي، المخطوطتين من دُرجه، كما لو أنه مسدس بعينين، وقال لي: أنت متهم بتزوير ختم الاتحاد. سلّم نفسك أحسن. كان الرجل ينتظرني بالمرصاد.

شهقت: تزوير ختم الاتحاد؟!

ذكّرني إمام “الانتي تطبيع” بقصة التاجر والعفريت، حكايتي المفضلة في “ألف ليلة وليلة”، وفيها يُتّهم التاجر بقتل ابن العفريت بنواة تمرة لفظها من فمه! لا بد أني لفظتُ نواة من فمي وقتلت نسلاً من أنسال هذا الإمام الذي وجدته مرة يخطب في الجنوب اللبناني، وفي كل فاصلة عرمرمية، وبعد كل جملة  نارية، كان المستمعون يهتفون في الأمسية جملة ملحنة، من تلك التي نسمعها في كل الفواصل الخطابية الجنوبية.

ليس لي دار نشر.. حتى أزوّر الختم، ولست كاتباً غزير الثمر مثل عزيز نسين، فأنا أكتب كل حول قصة بحول الله..

قال: انظر إلى هذا الختم، وهو من تزويرك، وإلى هذا الختم، وهو ختمنا. نريد الختم وإلا اتصلت بالجنائية.

دخل أحد أعضاء المكتب التنفيذي وسمع بعضاً من الحوار حول طاولة المرسيدس. أنكرت التهمة الغريبة، فكرر لي: سنحولك إلى الجنائية إن لم تحضر لنا أداة الجريمة!

وقفتُ أتأمل التهمة الغريبة وقلت مدافعاً عن نفسي: هذه إجازة قديمة بالطبع، حصلت عليها قبل ثلاث سنوات، أما هذه فإجازة حديثة بالطبع..

اندفع عضو المكتب التنفيذي، وقال مفتياً: أظن أن هذا الختم هو ختمنا القديم، هكذا كان شكله،  وهذا ختمنا الجديد بعدما تعرض الختم القديم للتآكل والتلف. وقال: نحن نبدل، كل بضع سنوات، ختم الاتحاد الذي تتلف أسنانه اللبنية من قسوة الأوراق القاسية.

قارن رئيس الاتحاد مدققا ًبين موافقات قديمة في درجه وبين الختم القديم، فظهر الحق… الحمد لله رب العالمين. وقال: تفضل.. وطلب لي شاياً، وقال: أنت بريء من تهمة تزوير الختم، لكن لا يحق لك الجمع بين موافقتين، فالموافقة القديمة انتهت صلاحيتها ولكل أجَل كتاب.

أظن أنه كان خائفاً من أن أثير فضيحة في الصحافة العربية، لكن ليس كخوفي من المخابرات والجنائية السورية.. كنت أظن أن الموافقة بلا أمد، ولم أكن أعرف أنها مثل المخلل أو السردين. وقلت له إني معجب بدفاعه عن سوريا ضد التطبيع، وبنضاله في حلقة “الاتجاه المعاكس” ضد ضيف مصري تطبيعي، لكن ذلك لم يجدِ معه.

– المطلوب منك أن تعيد طباعة كتابك، وتتخلص من قصة “أخطاء مطبعية” التي نسخت بالختم الجديد.

– لكن هذا مكلف، لقد كلفتني 25 ألف ليرة…

– أنت المسؤول عن خطئك، وستغرم بكلفته.

– وإذا لم أفعل…

– ستصير عرضة “للجهات المختصة”. ثم نصحني: إذا كنت قد وزعت نسخاً من الكتاب فاستعدها..

قلت: أهديت بضع نسخ للأصدقاء.

– اسحبها.. وعُدْ والعودُ أحمد..

خرجتُ وقصدت دار النشر، وهي دار “الطليعة الجديدة”، ورويت للصديق جمال، المشرف على النشر، ما وقع لي، وهو قاصّ قضى تسع سنوات في السجون، فتلبد وجهه، وقال: سنزيل القصة من المجموعة، وهذا يستلزم تكاليف جديدة، أما الأمور الأخرى فلا علاقة لي بها. استبدلت قصة “أخطاء مطبعية” بقصة أخرى، سداً للثغرة التي أحدثها نزيف إتلاف قصة “أخطاء مطبعية” من جسم الكتاب، وهي لوحة قصصية بعنوان “مكابدات رجل فقد ريشه” يروي الكاتب فيها آماله وأحلامه وحسده للطيور وأمنيته أن يكون من جنس الطير. نصحني جمال باستحصال موافقة النشر من الاتحاد، فقلت له إن القصة منشورة في مجلة الإذاعة والتلفزيون “هنا دمشق”، فنبهني إلى إن الموافقات غير متطابقة بين الاتحاد والإعلام، فلكل منها مذهب، فما يحل هنا يحرم هناك، مع أن المجلة تطبع بضعة آلاف نسخة، والمفترض أن تكون موافقة الاعلام أشمل وأقوى من موافقة الاتحاد، بينما لن أطبع من مجموعتي سوى 500 نسخة لن يقرأها سوى الأصدقاء المقربين.

حملت الصفحتين اللتين نشرت فيهما القصة، وصعدت بها الأدراج إلى عضو المكتب التنفيذي، وكان مطلعاً على مشكلتي مع الاتحاد، فقرأ القصة وشطب ثلاث عبارات أتذكر منها جُملة: كأني في الإقامة الجبرية، وجُملة: أطير نحو سماء الحرية.. وجملة ثالثة لا أتذكرها.. أما قصة “الأخطاء المطبعية” فكانت تبدأ بهذه الجملة: إلى النقيق العام للجرن: أرجو قبول استقالتي من فرنكم..

كان لي صديق شاعر من حمص، أقالته المخابرات من عمله لا لذنب اقترفه، بل لأنه من أسرة حمصية إسلامية فيها شهيدان قتلا في تدمر، وكان ممتناً لرئيس الاتحاد الذي حفظ له عمله وأعاده إليه، ثم وجدت نفسي شاكراً لرئيس الاتحاد الذي لم يحولني إلى الجنائية بتهمة تزوير الختم، الذي كنت سأعترف بتزويره على بساط الريح…

تذكرت هذه الحادثة بمناسبة دعوة رابطة الكتّاب السوريين لطرد اتحاد كتّاب النظام من المؤسسات الثقافية العربية. ولو كنت الناطق باسم الرابطة، وأنا عضو فيها، لطلبت من الاتحاد السوري الانضمام إلى فروع الأمن السورية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى