صفحات الناس

عنصريون في مؤتمرٍ يدين العنصرية!/ بتول خليل

 

 

إشكالية التنوّع وماهيته ودور وسائل الإعلام في إدارته وكيفية التعاطي معه، شكّلت أبرز محاور النقاش التي خصصها مؤتمر “نسيج: الإعلام والتنوّع في دول المشرق”، الذي نظمته مؤسسة سمير قصير، بالتعاون مع مؤسسة “أديان” و”الوكالة الفرنسية للتعاون الإعلامي”، وانطلقت جلساته، الأربعاء، بحضور متخصصين وصحافيين من لبنان وعدد من الدول  العربية.

وفي إحدى المداخلات الافتتاحية التي تعاقب عليها داعمو المؤامر ومنظموه، ألقى الأب فادي ضو، رئيس مؤسسة “أديان”، كلمة قال فيها “أعتقد أن مستقبل المجتمعات العربية يُصنع من هذه القاعة وفي قاعات مشابهة لها”، مشدداً على “النضال من أجل ذلك ومواجهة مختلف التحديات في سبيله”، حيث إنّ “تحدّي التنوّع هو التحدي الابرز في مجتمعاتنا”، ما ترك انطباعاً بأن هذا المؤتمر سيكون محطة فاصلة في مسار معالجة قضايا التنوع بكافة أشكالها ومختلف إشكاليتها، ما قد يُفضي إلى صيغة تقريرية وتنفيذية تحمل المجتمعات العربية من ضفة إلى أخرى، بعدما كانت التعددية بكافة أشكالها تشكّل مصدراً للصراعات والأزمات.

إلا أن كلام ضوّ والقائمين على المؤتمر، على أهميته، بدا مغايراً للصورة المتوقعة التي انطبعت في أذهاننا بداية، إذ أنها افتقرت إلى آليات واضحة لمواجهة “تحدي التنوع”. فأتت غالبية النقاشات تكرراً لكلام كثير قيل سابقاً في مؤتمرات وورش عمل، حملت عنوان المؤتمر نفسه وخصصت لها ساعات وأيام لاستعراض ونقد التعاطي الإعلامي مع مختلف قضايا التنوّع، وصولاً إلى التماهي مع تجارب دولية حققت إنجازات في هذا المجال.

هذا النقد لا يعدّ انتقاصاً من فكرة ومضمون جلسات المؤتمر، التي بدت غاية في الأهمية. لكن المآخذ هي على التنظيم والأسلوب في طرح الأسئلة، ونوعيتها الموجّهة للمشاركين، وانعكاسها على مداخلاتهم التي بدت ميالة إلى الارتجال والتشعّب، ما جعل النقاش يضلّ طريقه في أكثر من محطة، خصوصاً لناحية اختلاف التجارب التي عبّر عنها صحافيون عايشوها في دول مختلفة. إذ كان من الأجدى لو أن القائمين على إدارة الجلسات تلمّسوا الإشكاليات الموحّدة بين تلك التجارب، لاستخلاص العبر وترجمتها إلى خلاصات، بالشكل الذي يجعل الحوار أكثر سلاسة وانسجاماً وإنتاجية.

مداخلات المشاركين تضمنت روايات من الواقع، غاية في الأهمية، تستحق الإضاءة عليها والتعمّق في معانيها، سواء لناحية الحديث عن خطاب الكراهية والتمييز الذي تتعرض له الأقليات والمعارضين واللاجئين، وما يستجلبها من مخاطر وتهديدات وقهر ونبذ واجراءات تعسفية. وعن دور الصحافة الإنساني المتجرد، الذي يستوجب مكافحة كل ما سبق وإبراز التنوع كقضية حق، تستوجب التعاطي بشكل أكثر انفتاحاً وتفهماً وإيجابية. لكن التعرجات في الحوار جنحت إلى العشوائية في طرح الآراء والأفكار، ما جعلها تفقد تأثيرها وفعاليتها من حيث تصويبها نحو هدفها.

لكن، رغم كل هذا الجدل، يبقى السؤال الأهم عن مدى فعالية هذا النوع من المؤتمرات ومدى تأثيرها. صحيح أنه قدّم في بدايته نتائج دراسة عن رصد التغطية الإعلامية لقضايا التنوع في الاعلام اللبناني والسوري والعراقي، تضمنت أمثلة كثيرة صارخة نابعة من الواقع، وصوّبت على كيفية تكريس خطاب الكراهية ضد الآخر المختلف أو الغريب، بعيداً من المهنية وبشكل لا يمت للأخلاق بأي صلة. لكن، رغم التواجد المكثف لصحافيين من دول مختلفة رصد إعلامها التقرير وفضح تجاوزاته، عاب المؤتمر غياب المسؤولين وأصحاب القرار في وسائل الإعلام. فبدا غياب هؤلاء وكأنهم في عالم آخر منفصل عن القضية المركزية التي عقد من أجلها المؤتمر، ما يوحي بأنّ لهؤلاء المسؤولين معايير وحسابات مختلفة تشغل اهتمامهم وتفكيرهم. وهذا ما حوّل المؤتمر إلى صرخة في الهواء، عاجزة عن اجتراح حلول فاعلة، وجعل المشاركين أشبه بمن يدور في حلقة مفرغة.

السؤال عن الفعالية والتأثير يفرض نفسه، خصوصاً لمن رصد الجلسات الجانبية وبعض النقاشات التي تخللت استراحة الغداء، حيث دارت بين المجتمعين على أكثر من طاولة، نقاشات تكشف ذهنية التبرير لخطاب الكراهية وتعبّر عن عنصرية مقنّعة، ولو حاول قائلوها إلباسها مسميات وأوصافاً أخرى. فهنا صحافية لبنانية في مؤسسة إعلامية رسمية، وجدت في صحافي سوري جالس قربها، ضالتها المنشودة، كي تُفضي إليه بمخاوفها من كثرة السوريين “المتخلفين” الآتين من كل حدب وصوب، من المدن والأرياف السورية، والمنتشرين في معظم المناطق اللبنانية.  ولم تتوان “الصحافية” عن التعميم بأن “هؤلاء السوريين” مرتكبو شتّى أنواع الجرائم من قتل واغتصاب وسرقات، وأنها “وكثيرات مثلها من اللبنانيات صاحبات الذهنية واللباس المتحرر يخفن من الخروج أو السير في الطرقات ليلاً”، وأن حظ لبنان العاثر جعله “وجهة للسوريين من الفلاحين والطبقة الجاهلة”.

مثل هذه التعميمات والكلام الصادر عن أشخاص يُفترض بهم حمل لواء التوعية ونبذ العنصرية ويشاركون في المؤتمر لهذا الهدف، يصيب روحية المؤتمر في الصميم، ويدفع للقول بأن التركيز على العناوين العريضة والفضفاضة مُغرقٌ في المثالية، بينما الأهمية يجب أن تنطلق من مكامن ومفاصل ومحاور تفاصيل مهما بدت صغيرة، إلا أن لبّ المشكلة والعلّة تبقى فيها، وأن لا يبقى المنبر محصوراً في ذوي الأفكار البرّاقة والمثالية البعيدة من الواقع. بل يجب الإفساح المجال لنقاش الهواجس والمخاوف بغية توضيح التباساتها، نفياً للتعميم ورفعاً للظلم عن أكثرية مسالمة ومقهورة، اضطرت إلى اللجوء بسبب ويلات الحرب وطلبت الأمان في بلدان أكثر استقراراً، وعن مدى أحقية اللاجئين باكتساب التعاطف وعدم أخذهم بجريرة قلّة يشكو كل مجتمع من تجاوزاتها وإجرامها.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى