صفحات الرأي

… عن «الثورة» و«الثورة المضادّة»

 


حازم صاغيّة

في التجربة الأوروبيّة، وهي مصدر المصطلح، تشير «الثورة المضادّة» إلى قوى وأفكار ومصالح تتعارض مع التقدّم ومع الطبقات والفئات الاجتماعيّة التي تحمله.

هذا المعنى يصحّ، في التجارب العربيّة، على مصر وتونس، حيث هناك أمم متشكّلة أو قيد التشكّل. هكذا يمكن القول إنّ «الثورة المضادّة» هناك تضمّ الإسلاميّين والمؤسّسة العسكريّة وبقايا العهد القديم. أي أنّ تعريفها ينبثق من مواقع اجتماعيّة وإيديولوجيّة وليس من انتماءات موروثة. أمّا في البلدان الأخرى التي تستولي عليها البُنى ما قبل الحديثة، من ليبيا إلى اليمن ومن سوريّة إلى البحرين، فالمصطلح يحمل مدلولات أشدّ تعقيداً بكثير.

ذاك أنّ الطرف الأهمّ بين أطراف «الثورة المضادّة» هو الانشطار الطائفيّ والجهويّ والإثنيّ. وهذا ما يرخي بظلاله على التعريف الكلاسيكيّ باثّاً فيه بعض التغييرات الأساسيّة. فـ «الإسلاميّون»، في هذه البلدان، يمكن أن يكونوا، من حيث الاصطفاف والمبادرة على الأقلّ، قوى «ثورة» أكثر منهم قوى «ثورة مضادّة»، وقد يكونون «إسلاميّين شيعة» و «إسلاميّين سنّة». كما أنّ الجيش، وهو الخزّان المفترض للرجعيّة والمحافظة، يمكن أن ينقسم على خطوط طائفيّة أو إثنيّة أو جهويّة. هكذا تغدو الثورة شيئاً آخر يخون التعريف الكلاسيكيّ، ويحضّ على تعريفات جديدة ومبدعة لا تفيد معها الحماسة كثيراً.

لهذا السبب تحديداً شهدنا، في الآونة الأخيرة، تفاوتاً في المواقف من الثورات والانتفاضات والتحرّكات هو تعبير موارب عن أنّ الأفكار والمصالح، أي العوامل العقلانيّة، ليست صانعة الآراء ولا قائدتها. هكذا، مثلاً، أخرج البعضُ البحرين، وأخرج البعضُ الآخر سوريّة، من الحالة الثوريّة. وغالباً ما وقف البعض الأوّل في الموقف النقيض للبعض الثاني، تبعاً لصدور الموقفين عن مقدّمات أهليّة متضاربة ومتصارعة.

وهذا النقص في التشكّل مؤهّل لأن ينتج القوّة الثانية لـ «الثورة المضادّة»، أي التدخّل الخارجي. فالتدخّل، حتّى حين يأتي دعماً لتحرّك ثوريّ، كما الحال في ليبيا، يكون يعلن عدم اكتمال شروط الثورة، ومن ثمّ عجز المجتمع المعنيّ عن أن يحسم بذاته صراعاته. وما يعنيه هذا، على صعيد آخر، قابليّة الحدث الثوريّ، الداخليّ المنشأ، لأن يُعاد تدويره في صراع خارجيّ، إقليميّ أو دوليّ.

ما ينجرّ عن ذلك أنّ ثورات النمط المصريّ – التونسيّ تملك وجهة قابلة، إلى هذا الحدّ أو ذاك، للتوقّع. وحتّى حين تستولي «الثورة المضادّة» على «الثورة»، وهناك إشارات كثيرة تدلّ إلى احتمال كهذا، تبقى للسياسة فسحة يمكن التعويل عليها والتفاؤل بها. وغنيّ عن القول إنّ الثورات لا تسير سير الأوتوسترادات المستقيمة: فهي، قبل بلوغ محطّتها، عرضة لأن تلتفّ وترتدّ وتنتكس وتنزلق إلى الأزقّة والمتاهات.

أمّا النمط الثاني، الأشدّ رواجاً في المشرق والخليج، فالثورة فيه مهمّة مركّبة لم يطرحها على نفسه النموذج الغربيّ – الكلاسيكيّ للثورات. فهي تجمع بين تكوين الشعب والوطن وبين إحداث التغيير. صحيح أنّ الأنظمة قد تسقط على حين غرّة، وقد يكون سقوطها محتّماً، كما يبدو في معظم الحالات العربيّة، إلاّ أنّ ذلك يفتتح عمليّة طويلة ومعقّدة من تكوين الشعب والوطن ذاتهما. فإذا استحال ذلك تبعاً لرفض مكوّنات البلد المعنيّ أن تعيش معاً، أو لأيّ سبب آخر يتولّد عن العنف أو الحقد، بات تعديل الخرائط شرطاً لإحداث ذاك التغيير ومعانقة التقدّم. وهنا ربّما جاز القول إنّ الثورة التي سبقت الثورتين التونسيّة والمصريّة، ولو أنّها اتّخذت شكلاً مختلفاً عن شكلهما، هي التقسيم السودانيّ. وهي، بهذا، ربّما وفّرت مثالاً قد تقتدي به مضطرةً مجتمعات عربيّة كثيرة في آخر المطاف. ومن الأفضل دائماً تقليل المفاجأة بالاضطرار عبر إخراج المسائل إلى حيّز النقاش ووضعها على الطاولة.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى