صفحات مميزةنجيب جورج عوض

عن آخر إرهاصات المأساة السورية: الحرية ستصل رغم الحرب والصفقات/ نجيب جورج عوض

 

دخلت المأساة السورية عامها الرابع، من دون أفق حقيقي أو ملموس لأي حل ممكن، يخرج سوريا من دوامة الموت والقتل والدمار النهلستية، التي أدخلها فيها أطراف الصراع، كل وفق الدور الذي لعبه، أو الدور الذي رفض أن يلعبه، أو الدور الذي رفض السماح له بأن يُلعَب. ويمكن للمراقب للمشهد السوري، في الشهور المنصرمة أن يخلص إلى ثلاثة معطيات بنيوية تشكل اليوم المكونات الجوهرية لطبيعة المشهد ومآلاته في سوريا. وستلعب الدور الأساس في رسم ملامح احتمالات المخارج والحلول.

1 – يلفت نظر المراقب للمشهد السوري تنامي وضوح ملامح دور يبدو أن الأطراف الأقليمية والدولية مجتمعة قد قررت أن توكل به النظام الأسدي، سامحة بذلك بإطالة عمر هذا النظام، لا بل ومصرّة على هذه الإطالة، لأسباب استراتيجية حساسة، باتت تتجاوز في أهميتها مستوى التنازع والتوازن البراغماتي الوقتي والظرفي السابقين. يبدو أن كل الأطراف المعنية والمنخرطة في المأساة السورية في المنطقة، وفي العالم، قد قررت أن تفوض لنظام الأسد ولكافة الأطراف المقاتلة إلى جانبه، من حزب الله وقوات إيرانية وكتائب قتال شيعية عراقية، مهمة إما القضاء على التيار الإسلاموي الجهادي القاعدي الطبيعة والهوية، والذي بات وجوده وتجمعه النوعي والعددي في سوريا أمراً محسوماً وواقعياً وحقيقياً، لدرجة تهدد المنطقة برمتها، وتقوض دعائم أي صفقة جيو – استراتيجية عليها، أو، في أسوأ الأحوال، مهمة إضعاف هذا الإسلام الجهادي القاعدي، وإنهاكه وتكبيده أكبر قدر من الخسائر كي لا يعود يشكل وجوده (حتى لو استمر هذا الوجود في سوريا) في المستقبل أي خطر لا على التركيبة السورية المقبلة، ولا على أي من حلفاء أميركا (أوروبا والسعودية ودول الخليج ونصف لبنان)، أو حلفاء إيران، شريك أميركا العتيد – الجديد (روسيا والعراق ونصف لبنان والأخوان المسلمين) أو إسرائيل وأصدقائها (تركيا وقطر والأردن). في السنوات الماضية قامت تلك الأطراف المذكورة من الحلفاء والأصدقاء، ومعها النظام وبعض أطياف المعارضات الإسلاموية والصدامية، باستجلاب كل أنواع الجهاديين الإسلامويين من كافة أصقاع ساحات المعارك الجهادية، التي يمكن أن نتخيلها، وحشدها في سوريا وإلهائها في الحرب فيها، مضحية في سبيل ذلك بالثورة السورية ومحولة إياها من حراك شعبي سلمي مدني، أو تمرد عسكري انشقاقي، إلى حالة حرب شعواء انتقامية وثأرية. والآن، بات من الواضح أن القوى الدولية تريد أن تستغل فرصة هذا الوجود النادر للجهاد القاعدي والتكفيري والإسلاموي، في بقعة واحدة، هي «القفص» السوري، كي تتخلص من تلك القوى أو تفرغها من طاقتها وقدراتها دفعة واحدة، وعلى حساب سوريا. ومن في المشهد السوري أقدر من نظام الأسد والقوات المساندة له على مواجهة تلك الجهاديات وتحقيق الهدف المطلوب حيالها؟ أثبت النظام في السنوات الماضية باعه الطويل وتفوقه على كافة أطراف الصراع السوري في العنف والقتل، جاعلاً العالم أجمع يدرك، راضياً أو مرغماً، أنه مستعد للمضي في أي حرب وقتل وتدمير لمداها الأقصى مقابل الإطالة بعمره وإيجاد مخرج ما لرؤوسه. بات عنف النظام وعناده القتالي اليوم هو فيزا تمديد فترة بقائه وإطالتها قدر الإمكان، وبغطاء لا يقل شمولية عن العالمي والجامع.

2- يلفت أيضاً النظر في المشهد السوري درجة الفشل والفضائحية والعجز الفادحة والفجة جداً، التي هوت إليها كل أطياف المعارضة الرسمية السورية، الداخلية والخارجية منها، على حد سواء. مضت قرابة الأربع سنوات على اندلاع الثورة السورية، ولم تنجح المعارضات السورية خلالها، وللأسف وخيبة الأمل الشديدين، بإقناع السوريين بأنها البديل المرجو الذي يمكنهم الوثوق به والتعويل عليه. لا تتمتع أي من المعارضات السورية اليوم بأي شعبية تذكر بين السوريين، لأنها لم تنجح إلا بأن تثبت للسوريين قبل سواهم، وللشعب الثائر والبطل والحر في سوريا قبل سواه، أنَّ النظام السوري، وخلال أربعين عاماً من الهيمنة المطلقة على سوريا، ومن حكمها بالحديد والنار والقمع والاستبداد والفساد، قد نجح نجاحاً باهراً في إفراز، أو الدفع لخلق، معارضات ليست سوى نسخ مشوهة عنه، تضاهيه وتنافسه في فقرها القيمي، وفشلها السياسي، وعقمها المؤسسي، وفسادها على مستوى الفكر والممارسة. مع مرور الوقت يزداد عمق الهوة التي تنحدر إليها تلك المعارضات، إذ تتمادى بشكل مضطرد في تلهيها عن الثورة السورية ومبادئها، بحروب ثانوية فردية وجماعية على أولوية التمثيل وأحقيته، أو على مغانم ومناصب وأضواء وميزات ظرفية ووقتية وعينية، أو على مستقبل تخيلي مازال أضغاث أحلام، عن تقاسم السلطة ومكاسبها في سوريا. وفي الوقت الذي يبدو أن النظام يعمل كماكينة واحدة هدفها واضح ومحدد: الصراع من أجل النجاة، وتمديد فترة البقاء، والتمسك بالسلطة، حتى الموت، تبدو المعارضات أكثر تصميماً على تأكيد براعتها في التشرذم والتضاد والتناحر، بأن تواظب على التصرف بطرق غوغائية، لاعقلانية، لا تدل سوى على أنها ليست بالفريق الواحد، وأن عندها أكثر من هدف، وأن لكل منها سورياها الخاصة ومعركتها في الأرض السورية. وما فشل كافة محاولات توحيد المعارضة وتنظيمها وجمعها على هدف واحد، العديدة جداً في السنوات المنصرمة إلا مجرد مرآة واحدة من مرايا عديدة تظهر للمراقب حقيقة التشابه، لدرجة التطابق، بين المعارضات في ذهنيتها الأحادية والقمعية، وفي منطقها الإقصائي والتخويني، وفي ممارسات العديد من أفرادها النفعية والشخصانية والجاهلية الطبيعة، وبين النظام ومنهجية حكمه لسوريا خلال أربعة عقود مضت.

3 – العامل الثالث، الذي لا يجب على أي مراقب موضوعي متمحص أن يتجاهله، أو يقلل من جدية وعمق تداعياته على المشهد السوري هو مسيرة التوافق والاتفاق الأميركي – الإيراني الجيواستراتيجي الشامل الذي بدأ الطرفان بتطوير بنوده وهندسته منذ أكثر من سنتين. يبدو أن الصوت الثالث في فريق مستشاري الرئيس الأميركي باراك أوباما، والذي يدعو إلى جعل وكيل رعاية المصالح الأميركية (التي قررت إدارة مصالحها في المنطقة عن بعد) الطرف الأقوى في المشهد الشرق أوسطي حالياً، إيران، مع المحافظة على العلاقات التاريخية بين أميركا وحلفائها السنة التقليديين، السعودية ودول الخليج. يبدو أيضاً أن الرئيس أوباما قد وجد في هذا الصوت ما يعبر عن رؤيته الشخصية وقراءته الخاصة لدور الدبلوماسية الأميركية في عهده: سياسة الانكفاء الحضوري والإدارة عن بعد. من هنا باتت الصفقة الأميركية – الإيرانية، مع ما سيترتب عنها من تنازلات وتقاسمات، وتدوير زوايا، وتوازنات، وإعادة تشكيل وتكوين، يتحمل مسؤوليتها ويستفيد منها الطرفين معاً، هي قاعدة الحل الوحيد والأكثر واقعية لجميع ملفات المنطقة بما فيها، وعلى رأسها الملف السوري. وطبعاً من أول القلقين من تلك الصفقة والمشككين بتبعاتها هو الجانب السعودي، الذي لا يمانع بأن يجري تقارب أميركي-إيراني بالمبدأ شرط أن لا يدفع ثمن هذا التقارب من جيب مصالحه وحضوره شخصياً في المنطقة. من هنا شهدنا في الفترة الأخيرة نزاعاً سعودياً مع أذرع أميركية وإسرائيلية مباشرة، وأصدقاء لإيران، في المنطقة مثل تركيا وقطر كانت ساحته سوريا، تمثل في قيام الجيش الحر والكتائب القتالية الإسلاموية المحسوبة على قطر وتركيا بعمليات متضاربة، غير منسقة، ومعرقلة أحيانأً لبعضها البعض على أرض المعركة، ناهيك عن نزاعات على السلطة والقيادة سواء في الكيان القيادي العسكري، أو داخل الكيان السياسي المتمثل بالإئتلاف الوطني، وناهيك عن فتح جبهات كانت مغلقة حتى فترة قصيرة جداً (مثل جبهة الساحل مثلاً). كما بدأنا نلمس محاولة أميركية – إيرانية لإعادة تعويم الدور القطري في المشهد السوري، وإعادة تهيئة الأجواء لقبول كافة الأطراف المتورطة في سوريا بقبول الأخوان المسلمين كشريك محتمل لتقاسم السلطة مع النظام، على اعتبار أن الأخوان المسلمين مدعومون من قطر وتركيا، ومقبولون من كل من أميركا وإسرائيل، ولا اعتراض جدياً ضدهم من قبل إيران (التي ساندتهم ودعمتهم في مصر وتونس).

مؤخراً قام الرئيس الأميركي أوباما بزيارة السعودية ليحاول تسويق ذلك الاحتمال للدولة السنية الأقوى في المنطقة حالياً. المعطيات التي رشحت عن هذا اللقاء تفيد بأن الرئيس الأميركي نصح الملك السعودي بتقبل حقيقة أن أميركا ماضية في تقاربها مع إيران، وأن هذا التقارب الاستراتيجي سيعم بالفائدة على المنطقة برمتها، بما فيها السعودية، وأن أميركا لن تقوم بالتخلي عن علاقتها الوثيقة والتاريخية بالسعودية لمصلحة إيران. إلا أنها تعتقد أن إيران هي مفتاح العقد المقبل من مصير المنطقة ومصالح أميركا العليا فيها. المعطيات تقول أيضاً أن أوباما شجع الملك على رأب الصدع بين دول الخليج وقطر انطلاقاً من ضرورة الحفاظ على تماسك ووحدة المعسكر السني، الذي يقوده الخليج في المنطقة، لخلق توازن جيواستراتيجي مع إيران وهلالها الحيوي يمكن التعويل عليه حين تخرج إيران عن بنود الصفقة مع الأميركي (مؤخراً زار جون كيري أمير قطر محاولاً تشجيعه على التصالح مع السعودية). كما يبدو أن أوباما سأل الملك أن يعيد فتح صفحة ود واحتضان للخيار السلطوي السني المفضل لأميركا ولإيران ولقطر ولتركيا، أي الأخوان المسلمين، مع تقديم أوباما وعداً شخصياً بأن الأخوان لن يتدخلوا في الشأن المصري أو الليبي أو الأردني، وأنهم سيتوقفون عن حلمهم بالامتداد إلى الخليج وتهديد دوله وأنظمتها الحالية، وأن قطر وتركيا ستقومان بلجم الأخوان وإجبارهم على الالتزام بكل بنود أي اتفاق أقليمي يحصل. والمعطيات تفيد أيضاً أن الرئيس الأميركي حاول أخيراً أن يقنع الملك السعودي بالقبول بفكرة تمديد فترة بقاء بشار الأسد (أو النظام الذي يمثله على الأقل) في السلطة في سوريا لمدة سنتين قادمتين بحجة استحالة الوصول إلى بديل واضح له (خصوصاً في غياب العمق الشعبي اللازم للأخوان المسلمين السوريين كي يستولوا على السلطة حالياً، وحاجتهم للدخول إلى بلد هادئ لا حرب فيه كي يعيدوا بناء قاعدة لهم) وإصرار الأسد على خوض انتخابات، فوزه فيها مؤكد، في الظروف الحالية وأن الأسد وما يمثله من قوى عسكرية ومسلحة على الأرض السورية ضروري لتنفيذ مهمة القضاء على عدو أميركا والسعودية المشترك، التيار الجهادي التكفيري، أو إضعافه وإنهاكه في أسوأ الأحوال. حاول أوباما كما يبدو تسويق فكرة روسية وإيرانية مفادها بقاء الأسد في موقعه لسنتين مقبلتين، بصفته مشرفاً معنوياً وشرفياً على هيئة حكم انتقالية مؤلفة من وجوه مرضي عنها من طرفي النزاع وعلى رأسهم السعودية (وإن رضيت السعودية بعودة الود بينها وبين الأخوان سيكون الأخوان شريكاً معارضاً في السلطة مع الأسد يرضى عنه رعاة الحرب في سوريا لأنهم عملاء لهم وعصاة في أيديهم ينفذون ما تريده أميركا وإسرائيل. أي أنهم شريك يطيع طاعة عمياء ما تأمره به قطر وتركيا، والذي لن يكون سوى ما ترضى عنه إيران وتريده.

إن قبل الملك بما سبق، سيدعوه أوباما لتبني رعاية إقامة جنيف3 ودفع المعارضة السورية للجلوس على طاولة توقيع كامل على الخطة المذكورة، والقبول بها وإعلان وقف الحرب والصراع المسلح على الأرض في سوريا، وتقاسم السلطة مع النظام. وإن نجح أوباما في هذا، سيكون قد أدخل السعودية كطرف معه في الصفقة المزمع إقامتها مع إيران على المنطقة برمتها، وسيكون قد مهد لفتح خط توافق إيراني-سعودي على تقسيم النفوذ في المنطقة، وتقاسم الرعاية العليا عليها. وستكون سوريا جائزة ترضية حصرية واستثنائية ولمرة واحدة لكل من قطر وتركيا وروسيا، برضى ورعاية أميركا وإيران، اللتان ستتعهدان للسعودية بعدم تحويل البديل في سوريا إلى مصدر تهديد لحضورها ومصالحها في كل من لبنان والأردن ومصر. إن حدث كل التخلص من أو تحجيم الكتائب الجهادية القاعدية والإهاب الإسلاموي المتجمع في سوريا حالياً.

في قلب هذا المشهد السوري الحالي، وتعقيدات وتضاعيف إرهاصاته المذكورة في الأعلى، تستمر المأساة في سوريا وتزداد ضراوة وعدمية، مع وصول عدد النازحين والمهجرين والمنكوبين والمشردين من الشعب السوري إلى أكثر من عشرة ملايين إنسان، وتعرض خمسين بالمائة من الكتلة الساحقة من البنية العمرانية في أنحاء سوريا للتدمير والحاجة للترميم وإعادة الأعمار بالكامل، ووصول عدد شهداء سوريا إلى أكثر من مائة وخمسين ألف شهيد والمعتقلين والمغيبين فيها إلى أكثر من ربع مليون إنسان، ناهيك عن تدمير البنية الإقتصادية والتحتية للبلد، لدرجة تفوق الوصف، وتصل إلى مدارك كارثية، لم يشهد لها القرن العشرين مثيلاً ولا حتى في الحرب العالمية الثانية. ولكن، هل يعني كل هذا أن الثورة السورية انتهت؟ كلا طبعاً، فالثورة السورية هي الشيء الوحيد الذي صنعه السوريون بأيديهم، ودفعوا ثمنه دماً وموتاً وأرواحاً وشهداء. الثورة هي صنيعة الشعب السوري وليست الكتائب المقاتلة ولا المعارضات ولا الأطراف الأقليمية والدولية المتورطة في المأساة السورية. الثورة هي صنيعة المواطنين السوريين وأحلامهم بالحرية والديموقراطية والعدالة والدولة المدنية، وليست صنيعة المسلحين والمقاتلين على جبهات الحرب. لهذا، لن تموت الثورة السورية وستنتصر على كل الأطراف الذين باعوها لمصلحة الحرب، وهمشوها باسم الحرب، بل وناهضوها وقمعوها بمنطق وإيديولوجيا الحرب، من الطرفين المتقاتلين. ستنتصر الثورة لأن أحلامها هي أحلام جميع السوريين ومن كل الأطياف والأطراف والطوائف والأديان والأثنيات والثقافات، وهم وحدهم من دفع ثمنها. لا عودة للوراء في سوريا، والحرية ستصل رغماً عن أنف الصفقات والحرب والمعادلات الجديدة. طالما هناك شعب سوري حي، هناك ثورة حية. وسوريا الإنسان والوطن تريد حرية من الاستبداد والقمع والظلم والحرب والقتال والموت. لا إنسان في سوريا من أي طرف يقول خلاف ذلك.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى