صفحات مميزةلن ننساكم -بمثابة تحية الى شهداء سورية -

عن أحمد الذي لا يشبه يسارنا! – حسام القطلبي

حسام القطلبي

ليس من الهيّن أن تكتب عن صديق شهيد. لن يفهم الآخرون ما الذي تفعله في سرد تفاصيل ما عنه. هو الرثاء؟ ولكن ما دخل القارئ بكل ذلك! أربكني طلب موقع (صفحات سورية) أن أكتب هذا النص. قلت أنني في مزاج عكر وجنائزي وغير منتج. لكن ربما تكون الكتابة عن الشهيد هي تعريف لحزنك أمام الآخرين. حسناً، ولكن النص في هذه الحالة لن يكون وفياً ما لم يكن مفجعاً على قدر الحدث!
ما الذي يجعل من النص مادة فجيعة؟ “دعك من ذلك. تحدث عنه كما تفكر به. أنت مضطرب ولم تستطع فهم الأمر بعد على نحو واقعي.” قلت ذلك لنفسي، وكتبت هذه المحاولة:

العام 2001، بدايات ربيع دمشق.
المكان ساحة الطب في جامعة حلب.
الحدث: أول مظاهرة غير مرخصة في جامعة حلب منذ ما يقارب 20 عاماً. مجموعة من طلاب الجامعة رفقة بعض المدرسين اجتمعوا في ساحة الجامعة لدعم الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي.
كانت المرة الأولى التي أقابل فيها أحمد الشيخ. طالب الفلسفة في جامعة حلب. شاب طويل أنيق لا يشبهنا كثيراً نحن مجموعة اليساريين أصحاب الثياب الفوضوية والمظهر الرافض للأناقة. الهردبشت!

ذهبنا لنحتفل بإنجازنا، إنتصارنا الصغير المؤقت، في مقصف الوحدة السكنية الثانية. نحن من استطاع أن يُخرج مظاهرة بعد عقود من الصمت المطبق في جامعة حلب. وبدون أوامر من فرع الحزب أو (القيادة السياسية). كنت مسحوراً بالحدث وطفقت أتحدث بحماقة متسرعة وبصوت مرتفع في المقصف الجامعي عن ضرورة رفع السقف السياسي في الجامعة و إعادة الحياة السياسية إليها. والاحتجاج على توريث السلطة!

مأخوذاً باستعراض الجرأة، لم أرتح كثيراً لنظرات القلق التي كان يرمقني بها أحمد الشيخ. ذلك الشاب الأنيق والمتحدث الهادئ. الذي لا يوحي شكله بأي انتماء إلى يسارنا الهردبشت! لكنني كنت مكتفياً باهتمام المجموعة بطروحاتي الجريئة!

لم تمر فترة طويلة حتى أقمنا ما يشبه منتدى ثقافي وسياسي في منزلي بحلب. كانت جلسات أسبوعية ندعو فيها عدد من طلاب الجامعة والأصدقاء لنقاشات في الشأن العام. واقترح أحمد أن أقوم بتقديم أول مادة في المنتدى. لم لا؟ اخترت تقديم كتاب مفهوم الحرية لعبد الله العروي و النقاش حوله. كان ذلك الاختيار أساساً نكاية بأحمد وزملائه المتحذلقين في قسم الفلسفة. سار النقاش طويلاً بين ميلي والمجموعة لطرح سياسي مباشر لمفهوم الحرية. وأحمد ومجموعة قسم الفلسفة لنقاشات أكثر نظرية في المفهوم. ما زاد حنقي على هذا الشاب الأنيق الذي لا يشبه اليسار الهردبشت.
قادنا تطور الأحداث في المنطقة واحتلال العراق عام 2003 إلى إنجاز جديد في الجامعة. اعتصام مفتوح ضد الغزو الأميركي. وكان الأمرغير مسبوق لناحية أنه غير مرخص و ليس تحت جناح بعثية أو أمنيّة. نشاطات اعتباطية ومعرض مرافق وأمسيات موسيقية و شعرية ونقاشات سياسية. كل ذلك طوال أيام  في ساحة كلية الطب في جامعة حلب. اجتذب الاعتصام عدداً كبيراً من الطلاب الجدد ممن لم يسبق لهم المشاركة في نشاطاتنا السابقة. وفي إحدى جلسات النقاش بدأ أحمد بسرد وجهة نظر متماسكة حول علاقة المرأة بقضايا العمل السياسي في سوريا. وسرعان ما استسلم لانتمائه لقسم الفلسفة وطفق يتحدث عن القطيعة الأبستمولوجية! كان كل شيء يسير على ما يرام إلى أن وصلنا إلى الأبستمولوجيا. وبدأ الشباب يتململون واختار بعضهم زاوية معتمة بصحبة صديقته بعيداً عن أبستملوجيا أبو حميد.
في ظل عودة القحط السياسي بقوة بعد فصل عدد من زملائنا من الجامعة و اعتقال آخرين و تهديد الباقين. صارت لقاءات المجموعة أشبه بطقوس صداقية لتفقد أحوال كل منّا. تعدى الأمر بين أفراد المجموعة مشتركات الشأن السوري العام إلى نطاق العائلة وعلاقات أكثر أنسنةً. تحول الشاب الأنيق الذي لا يشبه يسارنا الهردبشت إلى صديق شخصي لي ولعائلتي. لم تستطع الأبستمولوجيا أو مفهوم الحرية لدى عبدالله العروي أن يقفا في وجه ذلك. سقطت الصورة الشخصية السريعة التي كونتها عن أحمد لصالح أحمد آخر دافئ الروح، خفيف الظل، كثير النكات والسخرية اللطيفة. مرت سنوات كثيفة قبل أن تندلع الثورة السورية العظمى. صار جميعنا يتنفس الحرية و الأمل القريب. وانخرط الجميع في نشاطات الثورة اليومية. كانت الثورة هي البيان العملي لأحلامنا الطويلة. وهواء تتنفسه يومياً و تخاف أن ينقطع.
في آخر حديث لي مع أحمد قبل وقت قصير، أخبرني عن زميله المدرّس الذي قال عني أنني لست مطلوباً للأمن السوري لأي سبب سياسي بل لأنني لم أؤدي خدمتي في الجيش السوري. كان أحمد يضحك: إنه وحيد ومعفي من الخدمة يا أحمق! هات غيرها!

سرعان ما حان وقت المشهد التالي.
العام: 2012- اليوم الأخير من العام.
المكان: الدوار الأول في حي الاشرفية بحلب.
الحدث: كان أحمد، الشاب الأنيق الذي لا يشبه يسارنا الهردبشت، جثة ملقاة في الحديقة. اعتقلته دورية مخابرات من مكان عمله قبل يوم واحد وأطلقت رصاصة في وجهه.
مات أحمد الشيخ. وترك زوجة و إبناً بعمر ابني تقريباً. وترك أصدقاء وأبستمولوجيا للوجع و بيانات عملية وفعلية في مفهوم الحرية.
لم يكذب علي الحب، لكن كلما جاء المساء\ امتصني جرس بعيد\ والتجأت إلى نزيفي كي أحدد صورتي\ يا أحمد الأنيق الذي لا يشبه يسارنا الهردبشت.
خاص – صفحات سورية –

اللوحة للفنان السوري بشار العيسى

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. ساحة الجامعة اللقاء الأول وجملة أحمد شيل صورتي طلعت أنا من الأعتقال لسة عم راجع بس الجملة الأخيرة

  2. شكرا يا أخ حسام
    الله يرحمك يا أحمد يا ابن خالتي
    صحيح صار لي زمان ماشفتك ( سنين ) بس وفاتك أثرت فينا كتير الله يرحمك ويجعلك من الشهداء يارب ويصبر قلب خالتي

اترك رداً على mayada alkhalil إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى