صفحات الرأي

عن أربعة لبنانيّين رحلوا/ حازم صاغية

 

 

في الأسابيع القليلة الفائتة رحل أربعة لبنانيّين بارزين كلٌّ في مجاله وبطريقته:

-نديم البيطار، الذي توفّي في مدينة ديترويت بالولايات المتّحدة الأمريكيّة، وكان أحد منظّري القوميّة والوحدة العربيّتين.

-وهاني فحص، رجل الدين الشيعيّ المؤثّر والكاتب والناشط وصاحب الاهتمامات الثقافيّة المتنوّعة، فضلاً عن انخراطه في نضالات لبنانيّة وفلسطينيّة عدّة.

-ومنح الصلح (الذي نعاه موقّع هذه السطور قبل أسبوع على هذه الصفحة)، وكان سياسيّاً وكاتباً ومعلّقاً نبيهاً على ما يجري حوله من أحداث ومستجدّات.

-وحكمت العيد، القياديّ السابق في منظّمة العمل الشيوعيّ، ثمّ القياديّ في حركة اليسار الديمقراطيّ قبل أن يقعده المرض طويلاً ويُلزمه البيت.

البيطار والصلح رحلا عن دنيانا وهما في ثمانيناتهما، وكانا قد عاشا مرحلة الصعود القوميّ للناصريّة والبعث في الخمسينات والستينات. أمّا فحص والعيد فرحلا وهما في أواخر ستيناتهما، وقد عاشا حقبة صعود الثورة الفلسطينيّة في الأردن ولبنان والتي امتدّت حتّى اجتياح 1982 الإسرائيليّ لبيروت. والراحلون الأربعة في اختلافاتهم إنّما يرمزون إلى تعدّد المجتمع الذي صدروا عنه: فالبيطار مسيحيّ أرثوذكسيّ من منطقة عكّار في شمال لبنان، وهو من أبناء الطبقة الوسطى، هاجر مبكراً وانشدّ إلى الاهتمام بالشأن العربيّ مبتعداً عن الشؤون المحلّيّة اللبنانيّة بحيث لم يُعرف كثيراً في بلده. والصلح مسلم سنّيّ من بكوات آل الصلح ذوي الأصل الصيداويّ والإقامة المديدة في بيروت، وإن توزّعت مناصبهم الإداريّة على مدى عثمانيّ عريض. وفحص من عائلة سيّاد شيعة، من منطقة النبطيّة في جنوب لبنان، فيما حكمت العيد من عائلة مشايخ دروز من قرية عين زحلتا في منطقة الشوف.

قبل رحيلهم المؤسف، وكانت الدنيا قد دارت بهم وبنا دورات عدّة، استقرّت بهم الحال على النحو هذا:

-نديم البيطار أصابه إحباط عميق بالعروبة والقوميّة العربيّة اللتين كتب معظم ما كتبه في تبيان نجاحهما الحتميّ. وحتّى من قبل أن تصعد “داعش” وأخواتها، لم يعد يُسمع شيء عن البيطار.

-هاني فحص صار همّه الأكبر في سنواته الأخيرة العمل على التقريب بين الطوائف والمذاهب، في لبنان وفي الجوار العربيّ، بعيداً عن الطروحات الراديكاليّة التي استهوته في شبابه.

-منح الصلح، وقبل أن يُلزمه المرض بيته، بات انشغاله الأكبر منصبّاً على صيانة ما تبقّى من وحدة وطنيّة لبنانيّة، وعلى تثبيت ما أمكن من قيم التعايش والاعتدال. ذاك أنّ نجاح النموذج اللبنانيّ صار شرطاً شارطاً لنجاح سائر القيم والمعاني في المنطقة العربيّة.

-حكمت العيد اختار أن يناضل في صفّ اليساريّين القلّة الذين أكّدوا على سيادة لبنان، ضدّاً على خيارات يساريّين سواه (في عدادهم الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ) أعطوا أولويّتهم للتحالف مع النظامين السوريّ والإيرانيّ ضدّ “الإمبرياليّة”.

هذه السيَر الموجزة تقول إنّ شيئاً عميقاً قد تغيّر في الواقع كما في الأفكار. وهذا التغيّر بذاته إنّما ينطوي على مراجعات – عمليّة وإن لم تُكتب أو تُنظّر – لتجارب الماضي بشطريه القوميّ، الناصريّ والبعثيّ على السواء، أو ذاك المتمحور حول الثورة الفلسطينيّة.

إلاّ أنّ تلك السِيَر الموجزة، وبما فيها من مرارة عاناها أصحابها من دون شكّ، تقول أيضاً إنّ التغيّر هذا تأخّر كثيراً، بحيث لم يحظ القيّمون عليه بالوقت اللازم لتفعيله ونقله إلى واقع أعرض. وفي هذه الغضون كانت “داعش” وأخواتها تتهيّأ وحدها لوراثة أنظمة الاستبداد العسكريّ. وقد حلّ ما حلّ ممّا لا نحتاج معه إلى التكرار

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى