صفحات العالم

عن أكاذيبنا الجَماعيّة عام 2013/ جهاد الزين

لا زال “سايكس بيكو” يقاوم وبقوة عام 2013 بعدما جعلته 80 سنة من القرن العشرين لا كياناتٍ صغيرةً (لبنان الأردن فلسطين) وكبيرةً (العراق وسوريا) فحسب… بل أيضا جعلتهُ وطنيّاتٍ وجيوشاً وثقافاتٍ سياسيّة.

الوطنية اللبنانية في ذروة غموضها حيال نفسها وحيال الآخرين لأنها في ذروة تبعيّتها، وبالتالي عدم ثقتها بنفسها.

الوطنية الفلسطينية في ذروة هزالها على أرضها بعد سنوات الازدهار خارج أرضها المسمّى الشتات. مشهد مدهش كيف تخسر “الوطنية الفلسطينية” بعدما عادت إلى أرضها في الضفة والقطاع دون أن تستعيد أرضها!

الوطنية الأردنية في ذروة كوابيسها رغم تماسكها السلطوي و رغم أن الكيان الأردني يدخل اليوم مرحلة جديدة من كونه “دولة – حاجز” (Buffer Zone). مرحلة جديدة ينتقل معها “الحاجز” من مرحلة الصراع العربي الإسرائيلي إلى مرحلة إعادة التشكيل الداخلي والإقليمي والدولي لـ”سايكس بيكو”. فهل ستبقى “حاجزاً”؟

الوطنية العراقية خسرت نهائيا الوطنية الكردية وإن كانت لم تخسر تماما بعد أكرادها في الشمال.

الوطنية السورية تتراجع إلى الصف الخلفي مع انهيار الكيان السوري.

كلتا الوطنيّتين السورية والعراقية اللتين وُلدتا من رحم سايكس بيكو ونضجتا وتكرّستا فيه وضده كما ينضج الفرد “ضد” والده، تختبران دمويّاً الانتقال ليس فقط إلى ضرب التنوّع الداخلي في سوريا والعراق بل إلى التحام الكيانين في ساحة واحدة مع لبنان في حرب أهلية أصبحت حرب “قوميّتين سنّية وشيعية” مع دخول إيران وتركيا “الجديد” إلى المنطقة ومع اندلاع الغضب السعودي من التوسّع الإيراني المترافق مع نشوء سلطة شيعية في بغداد للمرة الأولى منذ القرن السادس عشر!

ها نحن نبكي “سايكس بيكو” الذي ظهرت إيجابياته بسبب الانحطاط السياسي العربي أو تحوّلت سلبياته إلى إيجابيات وقد ترك لنا دولا نكتشف الآن كم كانت “واسعة” وغنية. حتى صنيعته إسرائيل لا تزال إلى اليوم رغم انتصاراتها وثباتها تقاتل لكي تحصل على الاعتراف الدولي بتوحيد القدس التي احتلّتها عام1967.

عام 2013 كان السنة الأخيرة من عقد بدأ في العراق ويستمر في سوريا جعل المساحة الممتدة من البصرة إلى طرابلس في لبنان ساحة حرب أهلية دموية واحدة بين الطائفيّتين (لا الطائفتين وهما عشرات المذاهب) السنّية والشيعيّة، الطائفيّتين المتحوّلتين بمزيج من سخرية التاريخ وقسوته إلى قوميّتين سنية وشيعية كديناميكيّتين للصراع الإيراني السعودي وكمسرح للامتدادات الدولية.

لهذا تبدو الآن “اللغات” السياسية القديمة في هذه المنطقة أقرب إلى “رموز” ضمنية لمواقع واصطفافات فعلية أكثر منها معاني فعلية للكلمات.

فـ”اللبنانية” كذبة بل كذبتان كاملتا المواصفات تمارسهما المدرستان المسيطرتان على السنّية والشيعية السياسيّتين في النظام اللبناني، بينما تضيع الطبقة السياسية المسيحية بين فكرتين، واحدة تقليدية جدا موروثة اللغة عن الثقافة السياسية التي أسّست “لبنان الكبير” وعنوانها “السيادة” وأخرى هي حصيلة عقود خطابات الصراع العربي الإسرائيلي وعنوانها “الوطنية”… والكلمتان “السيادة” و”الوطنية” هما بلا أي معنى فعلي. أو باتتا بلا أي معنى فعلي. لكن هذه الطبقة السياسية المسيحية لا تزال حائرة أمام التحوّل العميق الذي أحدثه الانفجار السوري والذي أنهى للمرة الأولى منذ عام 1920 الأولوية المسيحية اللبنانية كمسيحية لبنانية وجعلها مسيحية مشرقية مع كل ما يعنيه ذلك من مسؤوليات جديدة أضعفت “اللبنانية” عند المسيحيين ولكنها في الوقت نفسه قوّت قيادة المسيحية اللبنانية لمسيحية المنطقة. ويمكن أن نتفهّم الارتباك الحالي الشخصي والمصلحي والثقافي للنخب المسيحية اللبنانية لأن تحوّلاً من هذا النوع لا يُهضَم بسهولة (سبق ذلك الارباك الذي أحدثه اتفاق الطائف كصيغة مثالثة طائفية في نظام مناصفة دستوريا).

في سوريا “العنوان الديموقراطي” بات تعبيرا عن موقف أكثري سني لدى معظم النخب الذي تحمله ضد حكم “قومي” هو عنوان لحالة علوية اقلاوية حاكمة حتى لو مثّل هذا الحكم تحالفا لنخب أقلاوية حزبية واقتصادية من كافة الطوائف السورية. وإذا كانت صيغة سوريا الداخلية المقبلة لم تعد تستقيم بدون معالجة وضعية الطائفة العلوية، الموضوع المؤجّل في العمق منذ تأسيس الكيان السوري الواحد، فإن مستقبل بشار الأسد وآل الأسد يتقرّر بعد هذه المعالجة وليس قبلها. وأي كلام آخر ليس واقعيا وليس علاجيا لأن بشار الأسد هو نظامٌ سياسي وليس فرداً حاكماً.

البعض يعتقد أن المشكلة الكردية هي المشكلة الداخلية الأهم لسوريا المستقبل. قال لي ذلك مسؤول عربي معروف ولكنني خالفته الرأي، لأنه مهما بلغت أهمية المسألة الكردية في المنطقة فإن تاريخ سوريا بين 1920 و1946 يُظهِر أن “سوريا السياسية” الفعلية تتقرّر بين مثلث حلب – الساحل – دمشق. وإذا حُسم أمر هذا المثلث فإن المناطق الأخرى الصحراوية والشرقية تلتحق بشكل طبيعي بهذا المثلث أيا تكن صيغة التحاق المنطقة الكردية مركزيا أو فدراليا. بهذا المعنى المسألة الكردية مشكلة للمنطقة وخصوصاً تركيا أما لسوريا فهي في الدرجة الثانية. إنما هناك وجهة نظر أخرى تعتبر أن شمول الانفجار السوري مناطق مثل دير الزور والرقة والحسكة ودرعا ستجعل هذه المناطق أكثر مساهمة في تقرير مستقبل سوريا، ولن تكون هامشية كالسابق حيال ثنائية خط حلب دمشق سابقا وبعدها مثلث حلب الساحل دمشق.

سايكس بيكو يقاوم… لكن “أرضه” وديموغرافيته تتغيّران؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى