رشا عمرانصفحات الناس

عن أوهامنا الجميلة/ رشا عمران

 

 

في منتصف عام 2011، بعد انطلاقة الثورة السورية، كنت في حديث هاتفي مع صديقة تقيم مثلي في دمشق، عن التغييرات التي بدأنا نشعر بها بأنفسنا بعد الثورة، مراجعات للذات وتقييم لها، مراجعات للعلاقات اليومية وللصداقات، مراجعات للتاريخ الشخصي لنا، ولهوياتنا، ولما وجدنا أنفسنا عليه، مراجعات للعلاقة مع أبنائنا، نحن الأمهات المفردات المنفصلات (لصديقتي ابن شاب ولي إبنة شابة، واعتقل الاثنان في بداية الثورة). أذكر أن الحديث ذهب بنا أيضاً إلى ما نحلم به عن سورية، سورية المتغيرة كتغيراتنا نحن. لم يكن العنف يومها قد اشتد كثيراً، لم يكن هناك وقتها طيران يقصف الناس في بيوتها، أو صواريخ تطلق لتدمر أحياء كاملة. لم تكن التنظيمات الراديكالية المسلحة قد انتشرت مثل الفطر في سورية. كانت الاقتحامات والحصار والاعتقالات والقنص والقتل تحت التعذيب قد بدأت كلها، لكننا، لسببٍ ما، كنا نظن أن هذا آخر ما يمكن أن يفعله النظام، وأن لعنفٍ كهذا العنف نهاية قريبة، لن يسمح العالم أن يوغل النظام في إجرامه ضد شعبه، ولن يقبل باقي السوريين أن يصل الأمر إلى ما هو أبعد.

هل كنا سذّجاً؟ أم أننا، كغيرنا، أخطأنا في حساباتنا، وفي تقديرنا حجم الإجرام الذي يمكن أن يصل إليه نظام أمني، له سوابق فاضحة في العنف وإجرام الدولة الممنهج؟ مثلما أخطأنا في تقدير ارتباطه بالسياسات الدولية القذرة، بحيث استمرت المحرقة السورية والتوسع من دون أن يرفّ جفنٌ لأحد في العالم. أعترف أنه كانت لنا أوهامنا يومها، أوهامنا عن الشعوب وعن التاريخ وعن المستقبل وعن الوطن وعن الانتماء. أوهامنا عن التغيير النظيف، التغيير الذي يبدأ من أنفسنا، أولاً، ثم يعمم على كل شيء، أوهامنا عن الحاضر، وعن قدرتنا، نحن السوريين، على تقديم وجه حضاري للثورات العربية.

أذكر تلك المكالمة، وأشعر بقبضة تمسك عنقي، وتمنعني من التنفس، قبضة القهر والعجز، قبضة الندم على الاستسلام للخوف، ومغادرة سورية قبل أربع سنوات، قبضة الندم أيضاً على الانجراف وراء الأوهام، من دون الانتباه إلى واقع الحال. ولأكون أكثر دقةً، سأسميها تسمية أخرى غير قبضة الندم، ربما أسميها قبضة الخيبة، إذ لا يمكن الندم على الأوهام الجميلة، ولا على الأحلام، ولا على بناء الآمال، حتى لو كانت الآمال غباراً محضاً. لا يمكن الندم على شيء كهذا، وإلا لما تطور العالم، ولما حدث به أي تغيير، لم تنجح الثوراتُ في التاريخ البشري، بعد أشهر من حصولها، استمرت سنين وعقوداً، ومرّت بإخفاقاتٍ وافتراقاتٍ عديدة. مورس فيها العنف البشري على أنواعه، وسالت دماء كثيرة، وظهرت ثوراتٌ مضادةٌ لإجهاض الثورات الأصلية، مئات من السنين مرت، قبل أن يحصل التغيير الكامل في البلاد التي قامت فيها ثوراتٌ عبر التاريخ البشري، تلك الثورات التي قامت نتيجة أحلام التغيير، وأوهام التغيير السريع، لكننا بشر، نشعر بالحزن أننا لن نرى هذا التغيير في حياتنا. أقول نحن، ولا أقصد نفسي، بل هي ضمير عائد على من قاموا بالثورة، الذين ماتوا، والذين اختفوا، والذين هجروا ولوحقوا حتى في منافيهم. لم أكن منهم، كنت من السعداء بهذه الانتفاضة الاستثنائية للسوريين، وكنت من الحالمين بالتغيير السريع. لهذا، سميتها قبضة الخيبة، فالحلم لم يكن مبنياً على معطىً حقيقي. كان مبنياً على وهم جميل، وهم ما زلت أعيش عليه وسأبقى، طالما بقيت على قيد الحياة.

اليوم في الذكرى الخامسة لبداية الثورة السورية، أقول: لو عاد الزمن إلى الخلف، وقامت ثورة في سورية، سأقف معها، وسأحلم بالتغيير الذي سيأتي منها، حتى لو كنت أعرف النتائج المسبقة، وحتى لو كنت أعرف أن ثمارها لن تقطف، إلا بعد عقود، كنت سأقف معها، مهما كانت، وسأبقى في سورية، مهما كان الوضع. أمس، أردت الاتصال بصديقتي، لأخبرها أن حديثنا الهاتفي ذاك ما زال حاضراً في ذهني، وأنا أراقب خيبتي، وأراقب معها تحولاتي النفسية، لم أجرؤ. صديقتي بقيت في دمشق، لم تغادرها مثلي، بقيت هناك كواحدة من حارسات الحلم بالتغيير الكبير.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى