صفحات الثقافة

عن احتضار الأدب الكبير/ أنطوان الدّويهي

 

 

كان ماثلاً ظلّه في ذلك اللقاء المسائي، حاضراً بين الحاضرين. تحدّثت عنه في ذاته، وأيضاً لأطرح عبره مأساة الأدب في العالم المعاصر. كان الكلام على كتاب شعري له، صدر بالفرنسية. وهو أوّل كتاب يصدر له بلغة أجنبية (باستثناء بعض قصائد مختارة من أعماله، نشرت قبل سنوات بالفرنسية أيضاً)، طرحتُ التساؤل الآتي : “كيف أن شاعراً كبيراً مثله، رائد قصيدة النثر بالعربية، وهو رمز للتجديد والتمرّد والحريّة، كان له وقعه في الأدب العربي الحديث، ربما أكثر من أيّ كاتب آخر، على مدى ستين عاماً، وكان له تأثيره في أجيال من الشعراء، فضلاً عن تسلّمه أهم المهام الثقافية والإعلامية، كيف يكون هكذا غائباً عن سائر اللغات وسائرالثقافات، بينما نجد كتّاباً وشعراء كثراً، ممّن لا شأن كبير لأدبهم، قد انتقلت أعمالهم إلى اللغات الحيّة الأساسية؟ كيف نفسّر هذا اللغز؟”.

ثم أضفت : “في الحقيقة، الأمر واضح، جليّ : كان هذا الرجل أحد آخر رموز النبالة في الأدب، في زمن فقد فيه الأدب، منذ أمد طويل، أحرف نبالته، ليكتسب أرقام تجارته.

“لماذا لم يُترجم؟”، سألتُ. لسببين اثنين. الأوّل، إنه باتت تصعب ترجمة كاتب باللغة العربية والاعتراف به في الغرب، إذا لم يكن كاتب قضية (أو حدث، أو موضوع) من طبيعة سياسية، أو اجتماعية، أو دينية، أو تاريخية، أو تراثية، أو وطنية، أو غيرها. خصوصاً ما يُعرف بالقضايا الساخنة إعلامياً، أو خصوصاً، القضايا المثيرة. كما لو أن كاتباً بالعربية، لا يستحق أن يكون كاتب المسألة البشرية. وتلك هي حاله. وكما لو أن الأدب، خصوصاً العربي منه، لا يستمدّ قيمته من جماليته، ومن تعبيره الفريد عن عوالم الأعماق، ومن كونه شهادة إنسانية تطاول كل اللغات والثقافات والحضارات، بل فقط من جوانبه السوسيولوجية والتاريخية، أومن معالم الإثارة و”الجرأة” السطحيتين فيه، لا أكثر.

أمّا السبب الثاني، أضفت : “فلأن نبل هذا الأديب، في نظرته إلى نفسه، منعه من ممارسة اللعبة المعروفة. فكي يُنقل المرء إلى هذه اللغة أو تلك، لم يعد من الضروري أن يكون كاتباً كبيراً. يكفي أن يكون كاتباً عاديّاً، أو حتى كاتباً ضئيل الشأن، شرط أن يتمتع بقدرات تواصليّة كبيرة، وبموهبة فذة في نسج العلاقات، باذلاً كثيراً من الوقت والجهد، متقناً فنون التسويق، لبناء شبكته، وإلحاق نفسه بإحدى المجموعات الضاغطة، بما توفّره من وسائل إعلامية، وحضور في طرق التواصل الاجتماعي الجديدة، ونفوذ لدى العديد من النقاد، والوسطاء الأدبيين، والمروّجين، وأصحاب الدعوات، والاستقبالات، والمآدب، ومنظّمي اللقاءات، ومانحي الجوائز الأدبية. ويلعب الجانب المادّي دوراً بارزاً في ذلك كلّه. أمّا قيمة العمل الأدبية، فتأتي بعد ذلك بكثير، وربما لا تأتي أبداً”.

صمتُّ قليلاً وقد شخصت إليَّ أعين مدهوشة، ثم قلت : “كان هو، طوال حياته، بعيداً كل البعد، عن هذه الآلة الدعائية، التسويقية، وكان يرفضها بالكامل. كما كان يشعر بالازدراء تجاه الجوائز الأدبية، التي كان يعرف تمام المعرفة، ما تنطوي عليه، في غالبتيها العظمى، في العالم أجمع، من ملابسات وتدخلات وترتيبات، لا تمّت إلى قيمة العمل بصلة. في أي حال، ما كان يهمّه في البشر، هو جوهرهم، وليس موقعهم الثقافي- الاجتماعي، أو الدور الذي يؤدّونه في جهاز الإنتاج والاستهلاك الأدبيين”.

ثم استرسلتُ : “في أيّ حال، كيف يمكن لكاتبٍ كبير، مسكونٍ بأرواحه، غائصٍ في رؤاه وهواجسه، أن تكون له قدرات فذة في فنون الترويج والتسويق والتواصل، كيف يكون من” وجوه المجتمع”؟

ولا بدّ من التساؤل : “ما كانت حال مبدعين كبار، مثل تولستوي، ودوستويفسكي، وبودلير، وبلزاك، ونيتشه، وكافكا، والعديد سواهم، من المقيمين في عزلتهم الداخلية، لو كانوا عاشوا اليوم، ومن كان اكترث بهم؟. ولو كتب تولستوي، اليوم، “الحرب والسلم”، ثم انزوى في بيته، أي موقع كان له ولكتابه في المشهد الأدبي المعاصر؟”

ثم هذه الإشارة : “ماذا يمثّل الأدب الكبير حقاً في سيل الإنتاج الأدبي، وسيل الترجمة، المعاصرين، الجارفين؟ لم يعد مثل هذا السؤال مطروحاً حتى.

ويبقى القول : “إن احتضار الأدب الكبير هو مؤشّر عميق لانحطاط العالم. وهو مؤشّر لانحطاط الغرب، الجمالي، والقيمي، والروحي”.

هتف أحدهم : “ما لا يُسلّع لا قيمة له، لا في الأدب ولا في سواه !”. فأجبته : “إنه انتصار البرجوازية الأخير. لكن هذه المرّة، ليس على الأرستقراطية فحسب، بل على الأرستقراطية والشعب معاً”. فهل تنتصر على جمال العالم؟

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى