حسين عبد العزيزصفحات سورية

عن اختلاف التجربة الثورية بين تونس وسورية/ حسين عبدالعزيز

 

 

إذا كانت جميع الثورات العالمية تشترك في هدف واحد هو القضاء على أنظمة الحكم القائمة واستبدالها بأنظمة أفضل، فإن مسار الثورات يختلف اختلافاً كبيراً بسبب اختلاف طبائع العمران (ابن خلدون) أو اختلاف نظام الحكم وظروفه التاريخية (مونتسكيو).

الاختلاف في صيرورة الثورات أدى إلى انقسام حاد ليس في صفوف المفكرين فحسب، بل في صفوف الشعوب أيضاً، بين مؤيد لهذه الثورات ورافض لها بسبب زعزعتها المنظومة الاجتماعية – الاقتصادية.

حدث هذا في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ويحدث اليوم بشدة في العالم العربي، بحيث أصبحت الثورة التونسية ونجاحاتها تفصيلاً صغيراً مقابل تطورات الأحداث في سورية، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى نزع صفة الثورة عن الحراك الاحتجاجي في هذا البلد، وهذه عملية قلب أيديولوجي للمعرفة رغم ما تتضمنه من حقيقة، فالهدف من نزع صفة الثورة ليس لتصحيح مسارها والابتعاد عن أخطائها، وإنما من أجل اتهامها بالإرهاب والعمالة تمهيداً للقضاء عليها لمصلحة الثورة المضادة بقيادة الأنظمة.

إن العودة إلى أهم ثورتين في العالم (الإنكليزية والفرنسية) ربما يسعف في فهم ما تشهده بلدان الربيع العربي، حيث اتخذت هاتان الثورتان المتجاورتان مسارب متناقضة: الأولى كانت أكثر سلمية وتسامحاً، في حين كانت الثانية أكثر عنفاً وانتقاماً، لكنّ الثورتين حققتا النتائج ذاتها مع احتفاظ كل منهما بسمات خاصة.

وصفت الثورة الإنكليزية بالمجيدة لأنها كانت ثورة سلمية سريعة اقتصرت على النخبة، حيث كان طرفاها البرلمان من جهة وويليام الثالث الحاكم الأعلى لهولندا من جهة ثانية. بدأت الثورة عام 1688 بعزل الملك جيمس الثاني وتنصيب ابنته ماري وزوجها وليام أورانج وانتهت في العام الذي يليه بإعلان الحقوق.

لا يمكن بطبيعة الحال اختزال أول وأهم ثورة كبيرة في العالم الحديث بمجرد عزل ملك والإتيان بآخر، لكن هذه السرعة والتكلفة البسيطة لهذه الثورة مرتبطة بكونها نتاج مسار ثوري طويل ومتقطع يعود إلى ما قبل «الماغنا كارتا» عام 1215، ثم الحروب وحركات الإصلاح الدينية ثم الحروب الأهلية (1642 – 1651)، وهذا المسار الثوري الطويل وما رافقه من تطور فكري هو الذي حال دون اتخاذ الثورة الإنكليزية مساراً عنيفاً على غرار الجارة فرنسا.

وكان التنوير الإنكليزي متسامحاً مع أنواع كثيرة من الإيمان والكفر، ولم يكن هناك نزاع بين السلطات المدنية والدينية، ولم تكن هناك حاجة للإطاحة بالدين لأنه لم يكن هناك بابا ولا محاكم تفتيش ولا كهنوت محتكر ولا كنيسة مضطهدة. لقد مال الإنكليز إلى الحلول الوسط، وهو الميل الذي يعني في الشؤون الاجتماعية إيثار الإصلاح على الثورة، كما يقول برتراند راسل.

لم يكن في فرنسا بسبب قوة الملكية المطلقة مؤسسات قابلة للحياة ولا طبقة نبلاء وبرلمان تستطيع مواجهة الملك الذي أخذ في تقوية البورجوازية الصاعدة لمواجهة الإقطاع، لكن الذي جرى مع الوقت أن هذه البورجوازية بدأت تتسم بسمات الإقطاع وهذه ممارسة ميزت فرنسا.

بالمقابل، فشلت الطبقة الأرستقراطية في الاندماج بالرأسمالية الوليدة والتحول إلى التجارة الزراعية، واستعاضت عن هذا العجز بخلق ترتيبات إقطاعية لاستخراج الفائض الاقتصادي من الفلاحين والقضاء على ما تبقى من امتيازاتهم، الأمر الذي حال دون التوصل إلى حل يرضي الفلاحين ويجنب البلاد العنف كما حدث في إنكلترا.

لقد خاضت الديموقراطية الفرنسية صراعاً عنيفاً مع دولة ذات صلة وثيقة بقوى تحاول الحفاظ على النسق الاجتماعي وإعادة إنتاجه وعلى رأسها الكنيسة التي لم تشهد أي حركة إصلاح، وهذا ما يفسر سبب الحركة العنيفة المناهضة للدين والكهنوت وتفوق المعارك السياسية والأيديولوجية على الإصلاحات المجتمعية، وهي السمة التي طبعت الديموقراطية الفرنسية إلى الآن.

هذا الوضع الراديكالي انعكس على مستوى البنية الفوقية، فالفلاسفة الفرنسيون الذين كانوا غير فاعلين في الحياة السياسية بسبب الاستبداد الملكي، طوروا أيديولوجيات مثالية مفارقة للواقع باسم العقل والحقوق والطبيعة والحرية والمساواة … إلخ، وهذه الأيديولوجيات طبعت التنوير الفرنسي بطابعها: فولتير يدعو إلى إعلان الحرب على الكنيسة، وديدرو يدعو إلى قتل الملك، وباسم هذه الأيديولوجيات وغيرها ستكشف الثورة عن أنيابها وتنجب عهد الرعب الفرنسي أثناء الثورة مع روبسبيير واليعاقبة.

ومثلما كان الخلاف في مسار التجربتين الإنكليزية والفرنسية يعود إلى الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي سبق الثورة وخلاله، كذلك الأمر في تونس وسورية، المثالين المتناقضين عربياً.

بدأت تونس في مرحلة ما بعد الاستقلال بتشكيل أسس الدولة الحديثة تحت نظام حكم شمولي مع الحبيب بورقيبة، لكنه استطاع تأسيس دولة ومؤسسات قوية أدت إلى تشكل طبقة وسطى ذات أهداف تنويرية، وطبقة علمية عالية لها مصلحة في التغيير الديموقراطي، ومجتمع مدني فاعل مقارنة بالمحيط العربي.

هذا التحديث أدى إلى فصل مؤسّسات المجتمع الأهلي عن مؤسسات الدولة، الأمر الذي سمح بالفصل بين الدولة ونظام الحكم، وكان من نتيجته أثناء الثورة وقوف الجيش مع الدولة وليس مع النظام. وكما ساهم هذا التحديث في منح المجتمع المدني دوراً فاعلاً أثناء الثورة وفي لعب دور رئيس في توحيد النشاط الاحتجاجي وتوجيهه في ظل مجتمع متجانس، وهذه أيضاً خصوصية تونسية ومصرية في العالم العربي. كذلك كان لتونس تاريخ من النضال الاجتماعي لم تعرفه معظم البلدان العربية.

أما في سورية فلم تتشكل دولة مركزية حديثة في مرحلة ما بعد الاستقلال، على رغم بدء تشكل إرهاصات هوية وطنية جامعة أطلت بنفسها فوق الانتماءات الصغيرة أثناء محاربة المستعمر الفرنسي، بيد أن هذه الهوية الجامعة سرعان ما تم القضاء عليها نتيجة فشل الأيديولوجية القومية في القضاء على الهويات الفرعية أولاً، وإبطائها البناء الوطني ثانياً، وبسبب طبيعة نظام البعث الذي استخدم الانتماءات الطائفية والجهوية لمصلحته، وأسس لنظام شمولي قضى على أي حراك سياسي من شأنه أن يبلور هوية وطنية على أسس حديثة ثالثاً.

ترافق بناء الدولة السورية في مرحلة البعث مع بناء النظام لنفسه، وما أن انتهت أحداث الثمانينات حتى بدأت مؤسسات الدولة تتراجع لمصلحة النظام ومؤسساته، وكانت فورة المؤسسات الأمنية على حساب المؤسسات الأخرى أوضح تعبير عن ذلك. وبفعل وجود أيديولوجية قومية اخترقت المجتمع، اكتسبت القومية طابعاً مؤسساتياً ضمن البنية الشمولية لدولة شبه لينينيّة أعطت الرئيس حرية كبيرة في تعديل الاجتهادات بما يناسب مصلحته.

استطاع نظام البعث توحيد نفسه بالدولة، فأصبح هو الدولة والدولة هي البعث. لقد تماهى الحزب بالسلطة، والسلطة بالدولة التي اخترقت المجتمع وأذابته كلياً، وحالت دون نشوء مجتمع مدني وأحزاب سياسية لها مصلحة في بناء نظام ديموقراطي، وهو السبب الذي أدى إلى خروج قيادة الشارع أثناء الثورة من الذين تغلبت عليهم صفة الحداثة.

ثم كان لغياب التجانس الهوياتي في المجتمع السوري دور رئيسي في عدم تحول الحركة الاحتجاجية إلى مطلب وطني لدى كل الطوائف، وهذه خصوصية تفردت بها سورية بين بلدان الربيع العربي.

* إعلامي وكاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى