صفحات الثقافة

عن ادواردو غاليانو –مقالان-

 

 

 

 

الذي رأى المرايا محتشدة بالناس/ إدواردو غاليانو

[لم يخطر ببالي مرةً وأنا أقرأُ، أو أعيد قراءة “إدواردو غاليانو”، أنه يمكن أن يموت، على الأقل في هذا العمر القليل وإن بدا شاسعاً. فمن يكتب، لا يموت، تماماً كما قيل عن أولئك الذين يستشهدون على أبواب بيوتهم ومدنهم وعلى طرقات طفولة أوطانهم، اولئك الذين ينطفئون فجأة كما تنطفئ شمعة في نافذة، أو مصباح في زاوية غرفة أليفة، ويظل شيء عالق منهم في الهواء والذاكرة والأعماق التي لا تطالها نهاراتنا المعتادة، ولا يمرّ بها الزمن.

فما بالك بمن روى وسرد سرداً دالاً قصص الحياة كما تبدو حين ننظر إليها من المهاد؛ نقية من كل ما علق بها من أوشاب، القراصنة والأباطرة وصغار الملوك ومن تاريخ تطفل عليه مزورون وكذبة من كل الأجناس؟

كم كان ممتعاً أن يسرد “غاليانو” حكاية قيلت مراتٍ ومرات، قرأناها أو سمعناها، ثم يكتبُ، كأنما على هامشها، أن أحداثها لم تكن كما قيل وتناقلته الألسن والأقلام. كم كان ممتعاً أن تحدث لحظة التنوير في نهاية الحكاية، أو تتوالى أمثال هذه اللحظة من سطر إلى آخر، وتتواصل حتى حين ينتهي النص. فيظل خيالك راحلاً وراء سرد يشبه خيط أغنية تتذكر أنها كانت في يوم من أيامك، أو في كتاب تركته على مقاعد الدراسة، أو أصغيت إليها وهي تتناهى إليك من شفتي امرأة، قد تكون أمك أو أم أحد أصدقائك.

هذه كتابة كاشفة تحمل تحدياً، نوع مركّبٌ من شعر ونثر ورواية وتحليل اجتماعي وسياسي، يقصُّ علينا حكاياتِ كل الجنس البشري تقريباً من دون تمييز، مترحلاً من عصور ما قبل التاريخ، مروراً بما هو “تاريخي”، وصولاً إلى الحاضر. متردداً بين ماهو انطباعي وما هو موثق، ببساطة متناهية، بين أكثر الناس نبلاً وأكثرهم انحطاطاً، متحيزاً للشعوب التي ضحت من أجل أن تتقدم شعوب المستقبل حتى من دون أن تعرف عنها شيئاً.

أفضل تقديم لهذا الذي رأى المرايا محتشدة بالناس، أن تقدمه كلماته، أن تترجم إلى لغتنا، أن يتعرف عليها أطفالنا وكبارنا، ليس لأن لنا، أفراداً وشعوباً، نصيب في هذه الحكايات، ولنا نصيب وافر فعلاً، بل لأنه حوّل بسردهِ الساحر كل حكاية لتصبح حكايتنا، وكل جغرافية لتصبح جغرافيتنا، وكل تنوير ليصبح تنويراً لنا. هو القريب منا إلى درجة لاتصدق. هل لأنه تحدث عنا وتساءل حين كتب: “يرانا غير المرئي، يتذكرنا المنسيّ، ونراهم حين نرى أنفسنا، وحين نبتعد عنهم، هل يبتعدون؟” (م. أ)]

 

 

أصل الكتابة

حين لم يصبح العراق عراقاً بعد، كان مكان مولد أول الكلمات المكتوبة. كلمات بدت أشبه بآثار خطوات الطير رسمتها الأيدي الماهرة على الطين بأعواد قصب مسننة.

النارُ تهلك وتنقذ، تقتل وتحي، كما تفعل الآلهة، وكما نفعل. النارُ جعلت الطين صلباً وحفظت الكلمات. بفضل النار ما تزال الألواحُ الطينية تروي ما روته قبل آلاف السنوات في أرض الرافدين تلك.

في أيامنا هذه، شن جورج دبليو بوش حرباً تمتع بها وأفلتت من العقاب لإنهاء العراق، ربما اعتقاداً منه بأن الكتابة أخترعت في تكساس. وكان هناك آلاف آلاف الضحايا. لم يكونوا كلهم من لحم ودم؛ لقد قتل قدرٌ عظيم من الذاكرة أيضاً. وسُرق تاريخ حيّ على شكل ألواح طينية عديدة، أو دمرته القنابل.

قال لوحٌ من الألواح:

نحن ترابٌ.. ولا شيء

كل ما نفعله ليس أكثر

مما تفعله الريح.

 

 

الحجر الذي يتكلم

حين غزا نابليون مصر، وجد أحد جنوده على ضفاف النيل حجراً أسود كبيراً تغطيه رموز منقوشة على سطحه.

سموه “حجر رشيد”

وقضى “جان فرانسوا شامبليون، أحد طلبة اللغات الميتة، شبابه يلف ويدور حول الحجر.

حجر رشيد ينطق بثلاث لغات. تم فك شيفرة اثنتين منها. ليس الهيروغليفية المصرية.

وظلت كتابة مبدعي الأهرامات لغزاً،

كتابة مقدسة تناولها الكثير من التعليقات: هيرودوتس وسترابو وديدوروس وهورابلو، تظاهروا جميعاً أنهم يترجمونها ويشرحونها وهم في طريقهم، كما فعل الراهب الجزويتي إثناسيوس كيرتشر الذي نشر كتاباً بأربعة أجزاء من الهراء.

كلهم اعتقدوا أن الهيروغليفية نظامٌ من الصور الرمزية، وأن معانيها تختلف باختلاف تخيلات كل مترجم.

هل هي رموز خرساء، أم أن آذان البشر صماء؟

طيلة سنواتٍ وسنواتٍ ظلّ شامبليون يمطر حجرَ رشيد بالأسئلة، ولم يتلق سوى الصمت العنيد رداً. وذات يوم، وقد أنهكه الجوع والإحباط، فكر بإمكانية لم يتبينها أحد من قبل: افترض أن الهيروغليفية كانت أصواتاً مثلما هي رموز أيضاً؟ افترض أنها كانت شيئاً يشبه حروفاً أبجدية؟

في ذلك اليوم فُتحت المدافن، وتكلمت المملكة الميتة.

 

 

صدى

في الأزمنة القديمة عرفت الحورية “صدى” كيف تتكلم. ونطقت نطقاً بلغ من السمو حدّ أن كلماتها بدت جديدة دائماً، لم يتفوه بها أحد من قبل أبداً.

ولكن الآلهة “هيرا” زوج “زوس” الشرعية، لعنتها إثناء نوبة من نوبات غيرتها، وعانت “صدى” من أسوء عقاب: حرمانها من صوتها.

ومنذ ذلك الزمن وهي غير قادرة على الكلام، لا تستطع سوى تكرار ماتسمع.

تلك اللعنة تبدو في هذه الأيام فضيلة من الفضائل.

 

 

البطل

كيف سيروي جنديٌّ مجهول قصة حرب طروادة؟ جندي مشاة يوناني أهملته الآلهة، ولم ترغب به سوى النسور التي حوّمتْ فوق ساحات المعارك؟ مزارع مقاتل لم يرتل أحد عنه نشيداً، ولم ينحت له أحد  تمثالا؟ هو واحد من عديدين أجبر على القتل، ومن دون أدنى مصلحة له بأن يُقتل، ليحظى بنظرة من عينيّ “هيلين”؟

هل كان ذلك الجندي يملك أن يتنبأ بما أكّده “يوريبيدس” لاحقاً؟ أن “هيلين” لم تكن في طروادة أبداً، بل كان ظلها هناك فحسب؟ وأن عشر سنوات من المذابح حدثت من أجل عباءة خالية؟

ماذا سيتذكر ذلك الجنديّ لو قيض له أن ينجو؟

من يدري؟

ربما الرائحة، رائحة الألم، لاغير.

بعد سقوط طروادة بثلاثة آلاف سنة يخبرنا المراسلان الحربيان، روبرت فيسك وفيران سيفلا، أن الحروب منتنة.

شهد المراسلان بعضاً منها، من الداخل، ويعرفان رائحة التعفن اللزجة الساخنة العذبة، تلك التي تدخل في مسامك وتقيم في جسدك

ولا يزول الغثيان أبداً.

 

 

فن رسمك

على فراشٍ بجوار خليج كورنثة، تتأمل امرأةٌ في ضوء لهب مدفأة الصفحة الجانبية لوجه حبيبها النائم.

على الجدار يترجرج ظلهُ

الحبيبُ المتمدد بجوارها سيرحل. سيرحل مع الفجر إلى الحرب، إلى الموت. وظلّه، رفيق رحلته، سيرحل معه، وسيموت معه.

لازال الظلام مخيماً. المرأة تتناول قطعة فحمٍ من بين الجمر

وترسم على الجدار خطوط محيط ظلّه

هذه الخطوط لن ترحل.

لن تعانقها، وتعرف هذا، إلا أنها لن ترحل.

 

 

هيباشا

للحطّ من قيمة حريتها قالوا عنها:” إنها تخرج مع أي شخص”.

لامتداح ذكائها قالوا عنها:” هي ليست كأي امرأة”.

ولكن من أجل سماع كلماتها، جاء عدد كبير من الأساتذة والقضاة والفلاسفة والسياسيين من أماكن بعيدة إلى مدرسة الإسكندرية.

درست “هيباشا” الألغاز التي تحدّت إقليدس وأرخميدس، وتكلمت علناً ضد الإيمان الأعمى الذي لايستحق حبّ السماء أو حبّ البشر.

وعلّمت الناس أن يشكّوا ويسألوا. ونصحت:

“دافعوا عن حقكم في التفكير. التفكير الخطأ أفضل من عدم التفكير بالمطلق”

ماذا كانت تلك المرأة المنشقّة تفعل بإعطائها دروساً في مدينة يدير شؤونها رجالٌ مسيحيون؟

أطلقوا عليها تسمية ساحرة ومشعوذة. وهددوها بالموت.

وذات ظهيرة يوم من أيام شهر مارس سنة 415، هاجمتها جمهرة من الغوغاء.

وسُحبت من عربتها، وجُرّدت من ملابسها، وجُرّت في الشوارع، وُضربت وطُعنت. وفي الساحة العامة أضرمت النار بكل ما تبقى منها.

وقال حاكم المدينة” سيكون هناك تحقيق”.

 

 

أم كل الروائيين

قتل ملكٌ من الملوك النساء جميعاً لينتقم من امرأة خانته.

تزوج عند الغسق وترمل عند الفجر.

وفقدت العذراواتُ، واحدة بعد أخرى، عذريتهن ورؤوسهن.

شهرزاد هي الوحيدة التي نجت من الليلة الأولى، ومن يومها واصلتْ مبادلة كلّ نهار حياة جديد بقصة.

وحمتها قصص سمعتها أو قرأتها أو تخيلتها من أن يُقطع رأسها. روت قصصها بصوت خافت في عتمة غرفة النوم، من دون ضوء سوى ضياء القمر. أمتعتْ وتمتّعت وهي تروي، ولكنها كانت تخطو بحذر.

شعرتْ أحياناً، في منتصف حكاية، بعينيّ الملك تتفحصان رقبتها.

لو شعر بالملل، لضاعت.

من خشية الموت تنبع موهبة القص.

 

 

القديس فرنسيس الأسيسي

طوّق الصليبيون مدينة “دمياط” المصرية في العام 1219. وفي غمرة الهجوم غادر “الأب فرنسيس” موقعه وبدأ يمشي وحيداً حافي القدمين نحو معقل العدو. كنست الريحُ الأرض، وعاكستْ عباءة هذا الملاك النحيل التي بلون التراب، الهابط من السماء، الذي أحبّ الترابَ كما لو أنه من التراب نبت.

ومن مسافة بعيدة شاهدوه يتقدم. قال أنه جاء ليتحدث مع السلطان “الكامل” عن السلام.

لم يمثل فرنسيس أحداً، إلا أن الجدران انفتحت أمامه.

القوات المسيحية انقسمت إلى فريقين. اعتقد فريقٌ أن الأب فرنسيس مجنون مثل أي ريفي أخرق، واعتقد الفريق الآخر أنه غبي مثل حمار.

كل امرئ كان يعرف أنه خاطبَ الطيرَ، وأنه أحبّ أن يدعى “مغنّي الربّ”، وأنه مارس الضحك ووعظ به، وأنه قال لإخوته الرهبان:

“حاولوا ألا تبدو محزونين أو متجهمين أو منافقين”

وقال الناس أن النباتات في حديقته في مدينة “آسيسي” نمت مقلوبة، فهي تمدّ جذورها إلى الأعلى. وعرف الناس أن الآراء التي نطق بها كانت مقلوبة أيضاّ. فقد اعتقد أن الحرب، مهوى أفئدة الملوك والبابوات وحرفتهم، كانت مفيدة للفوز بالثروات، ولكنها غير مفيدة للفوز بالأرواح. وأن الحملات الصليبية انطلقت، لالهداية المسلمين، بل لإخضاعهم.

واستقبله السلطان بدافع الفضول، أو من يدري بماذا؟

وتبارز المسلمون والمسيحيون بالكلمات لا بالسيوف. وخلال حوارهما الطويل، لم يصل المسلم والمسيحي إلى اتفاق، ولكن كل واحد منهما أصغى إلى الآخر.

 

 

ماركو بولو

كان سجيناً في “جنوة” حين أملى كتاب رحلاته. وصدق رفاقه في السجن كل كلمة. وحينما كانوا يصغون إلى مغامرات “ماركو بولو”، حين كان في سن السابعة والعشرين يتجول على طرقات الشرق، فرّ كل واحد منهم، كل سجين، وارتحل معه.

بعد ثلاث سنوات نشر السجين الفينيسي السابق كتابه. وكلمة “نشر” مجرد تعبير، لأن المطبعة لم تكن قد ظهرت في أوروبا بعد. وتم تداول بضع نسخ بخط اليد، ولم تصدق القلة من القراء التي وجدها ماركو بولو شيئاً مما قال.

لابد أنه كان يهلوس: فكيف تطفو كؤوس الخمر وترتفع نحو شفتي الخان الأكبر من دون أن يلمسها أحد؟ وكيف يمكن أن يساوي ثمن شراء بطيخة من أفغانستان ثمن شراء امرأة؟ وقال الأكثر تسامحاً منهم أن الكاتب التاجر لم يكن سليم العقل.

بجوار بحر قزوين، على الطريق القادم من جبل آرارات، شاهد هذا المتحمس المصاب بالهذيان زيتاً يشتعل، ثم شاهد في جبال الصين حجارة تلتهب. وأسخف ما جاء به في أحسن الحالات، زعمه أن لدى الصينيين عملة نقدية من ورق تحمل ختم الإمبراطور المغولي، وتلك السفائن التي تحمل آلاف الناس. وأثار ذكره للحيوان الخرافي الأحادي القرن في “سومطرة”، ورمال صحراء “غوبي” التي تغني، القهقهات. وكانت تلك المنسوجات التي تلقى في النار ولا تحترق، والتي وجدها ماركو بولو وراء “تاكلاماكان”، أمراً، بكل بساطة، غير قابل للتصديق.

وبعد قرون لاحقة تبين:

أن الزيت الذي يشتعل كان النفط

أن الحجر الذي يلتهب كان الفحم

أن الصينيين استخدموا العملة الورقية طيلة 500 عام

وأن في سفائنهم، التي يبلغ حجمها عشرة أضعاف حجم السفائن الأوروبية، حدائق توفر للبحارة الخضراوات الطازجة التي تقيهم من مرض الإسقربوط، وأن الحيوان الخرافي كان وحيد القرن. وأن الريح تجعل قمم الكثبان في الصحراء تنتحب،

وأن النسيج المقاوم للنار مصنوع من مادة الإسبستوس.

في زمن ماركو، لم تعرف أوروبا شيئاً عن النفط أو الفحم أو النقود الورقية أو السفائن الكبيرة أو وحيد القرن أو الكثبان الرملية العالية أوالإسبستوس.

 

 

* تقديم وترجم: محمد الأسعد

 

** من “مرايا: قصصُ كل امرئ تقريباً” عن دار نيشن بوكس، نيويورك، 2009

العربي الجديد

 

 

 

 

إدواردو غاليانو.. نبيٌّ اصطفاه الشيطان/ بدور حسن

الألم يُحكى بصمت.

ولكنني أتساءل: ماذا سيحل بمدينتنا في غيابه؟

ما الذي سيكون من مونتيفيديو بعد رحيله؟

وأتساءل أيضاً: ماذا سيحل بنا بدون طيبته التي تعجز الكلمات عن وصفها.

هكذا رثى إدواردو غاليانو مواطِنه وأستاذه ورفيقَه الشاعر الأوروغواياني ماريو بينيديتي 1 ، بعد وفاته في 17 أيار 2009. لا ينبغي أن يكون اقتضاب غاليانو وإيثاره الصمت على المغالاة بالكلام مفاجئاً، فهو التزم بمحاربة «تضخّم الكلمات»، مؤكّداً أن النصوص الوحيدة التي تستحقّ أن تبقى، هي تلك التي تكون أفضل من الصمت. والصمت هو أكثر اللغات فصاحةً، ما يجعل المنافسة معه صعبةً جدّاً.

ستة أعوام مرّت على رحيل بينيديتي، وهاهي عاصمة الأوروغواي مونتيفيديو، المدينة الصغيرة التي منحتنا من المثقفين والأدباء والموسيقيين والرياضيّين المتفوّقين، ما عجزت عنه مدن أكبر وأثرى منها بكثير، هاهي ذي تودّع أسطورة أخرى من أساطيرها، ابنها المتمرّد إدواردو غاليانو. توفي غاليانو في فجر الإثنين الماضي عن عمرٍ ناهز 74 عاماً، بعد معركة مضنية مع سرطان الرئة، تمكّن كاتبنا خلالها من هزيمته مرّة، ومن مراوغته مراراً حين عاوده، إلا أن جسده لم يصمد لأكثر من ثلاثة أيام بعد نقله إلى المشفى في العاشر من نيسان.

ومع أن خير وسيلة للتعبير عن الألم هي الصمت، نتساءل، كما تساءل غاليانو بعد رحيل بينيديتي: ماذا سيحل بهذه المدينة في غيابه؟ وماذا سيحل بنا بدون انتظار كتابه القادم؟

قراءة كتبِ غاليانو تشبه الإصغاء إلى راوٍ مخضرمٍ ومحبوب يقصّ حكاياه في مقهى شعبيّ، إلا أن مقهى غاليانو يختلف عن المقاهي الشعبية السائدة، بكونه متاحاً للجميع وغير خاضع للأعراف والتقاليد. وغاليانو ليس راوياً اعتياديّاً أيضاً، فأسلوبه بالسرد متحرّرٌ من الوصاية والإملاء وسلطويّة الكتّاب الذين يعتقدون أن الله انتقاهم كي يعلّموا الجماهير. «بعض الكتّاب يخالون أن الله اصطفاهم ولكنني لست كذلك، فمن اختارني هو الشيطان، هذا واضح!». هذا ما يقوله غاليانو، الذي لطالما رفض أن يعتبر معلّماً، فهو «لا يدرّس أحداً، بل يحكي القصص المنسيّة التي تستحقّ أن تُروى». وأبطال حكاياته هم أشخاصٌ مهمّشون وغير مرئيّين، ألقى بهم التاريخ الرسمي على قارعته، إلا أنهم ليسوا أشخاصاً بلا صوت. هنا، يختلف غاليانو مع معظم رواد حركة لاهوت التحرير. فهو لا يسعى لأن يكون «صوت من لا صوت لهم»، ليس فقط لأن كل إنسان له صوته الخاص والمتفرّد الذي لا يمكن أن يستعيره من أحد. بل كذلك، وبحسب غاليانو، لأن جميع الناس لديهم أصواتهم الخاصة، لكنها قد تكون محجوبة وغير مسموعة، بفعل القهر والاضطهاد الذي يتعرّضون له. «كل إنسان يملك قصّةً تستحقّ أن تُسمَع وأن يُحتفى بها، أو على الأقل أن يُصفح عنها».

الحرص على التفاصيل الصغيرة، والحقائق المغفلة، والأحداث الجافة، ونسجها لإعادة كتابة التاريخ على ألسنة صنّاعه الحقيقيين، المنسيّين، ميّز إنتاج غاليانو الغزير.

وهذا كان اليقين الذي دفع غاليانو لتأليف كتابيه الأخيرين، مرايا: قصص تكاد تكون عن الجميع، الصادر في نسخته الإسبانية في العام 2008، وكتابه أبناء الزمن: تقويم للتاريخ البشري الصادر في العام 2013. استوحى غاليانو عنوان كتابه الأخير من مقولة ردّدها أبناء شعب المايا في غواتيمالا: «نحن أبناء وبنات الزمن». كلّ يومٍ من أيام السنة له قصته بل قصصه، وانتقاء القصص لم يكن سهلاً، والقصص الوحيدة التي بقيت لتُنشر كانت تلك التي اعتبرها غاليانو أبلغ من الصمت، وتميزت بطرح سرديّة مختلفة عن تلك التي تهيمن على التاريخ الرسمي المكتوب، والتي يتم تلقيننا إياها كما لو كانت حقيقة مطلقة لا لبس فيها. أما «مرايا» فقد كان حين نشره أهم مشروعٍ يطلقه غاليانو منذ ثلاثيّته ذاكرة النار، الصادرة بين الأعوام 1982-1986، والتي كتب معظمها في منفاه في إسبانيا. وتعتبر الثلاثية، رغم مرورِ ثلاثة عقودٍ على نشر آخر أجزائها، من أهم المؤلّفات والوثائق الأدبية التي تميط اللثام عن جرائم الإبادة والتهجير والاستغلال والإفقار، التي ارتكبها الاستعمار الأوروبي، ومن ثم قادة الولايات المتّحدة، في الأميركيتين. وتغطّي الثلاثية الفترة الزمنية ما قبل الاستعمار الأوروبي في العام 1492، وحتى ثمانينيات القرن الماضي. «مرايا»، في المقابل، ليس بضخامة الثلاثية، ولكن حاله حال «أبناء الزمن»، فإنه لا يقتصر على الأميركيتين أو على حقبة زمنية معينة، بل يجمع فيه غاليانو صوراً وحكايا ومفارقاتٍ وقصاصاتٍ من جميع أنحاء العالم. والتزام غاليانو النسويّ جليٌّ في كليهما، فعدد كبير من «أبطال» قصصه هنّ نساء، إضافة إلى الرؤيا النسوية العامة التي توجّه كتابة غاليانو، وتشكّل مفهوماً قيمياً ملازماً لأفكاره الاشتراكية والمناهضة للعنصرية والرافضة للعسكرة والحروب.

يغوص غاليانو عميقاً في تاريخ الشعوب التي سحقها المستعمرون والاثرياء، وشيّدوا سلطتهم وسطوتهم على أنقاض حضاراتها وأشلاء أبنائها. ينقّب عن شظايا قصصهم الفردية والجمعية المتناثرة، ويجمعها ليشكّل منها صورة مختلفة عن التاريخ الذي نتعلّمه في المدارس. ويبدي خلال عملية البحث هذه، التي عايش فيها الفلاحين والسكان الأصليين، والجنود والفنانين والمتمرّدين، وحاور فيها القادة والرؤساء والمناضلين والخارجين عن القانون، يبدي عيناً ثاقبة وحرصاً شديداً وحساسية عالية تجاه أدق التفاصيل، التي قد يغفلها كتاب آخرون. هذا الحرص على التفاصيل الصغيرة، والحقائق المغفلة، والأحداث الجافة، ونسجها لإعادة كتابة التاريخ على ألسنة صنّاعه الحقيقيين، المنسيّين، ميّز إنتاج غاليانو الغزير.

في مقدّمتها لكتابه عروق أميركا اللاتينية المفتوحة، أشهر كتب إدواردو غاليانو وأكثرها مبيعاً، تكتب الروائية التشيلية إيزابيل أيّيندي، أن من أكثر ما يثير الإعجاب في كتابات غاليانو هو عثوره على الكنوز المخبّأة، ونجاحه في إعادة الألق إلى أحداث تاريخية متهتّكة، وإذكاؤه الحماس في أرواح قرّائه من خلال شغفه الشديد.

وينسب غاليانو هذا الشغف الذي يتّسم به أسلوبه إلى كونه لم يتابع تعليمه الرسمي، حيث اضطر إلى ترك مدرسته والخروج إلى العمل في الـ 14 من عمره. أما أسلوبه في سرد القصص، فقد اكتسبه بداية من زوار المقاهي في مدينة مونتيفيديو الذين استمد منهم الشغف والخيال. ولكن في تلك الأيام لم يكن طموح غاليانو أن يصبح كاتباً على الإطلاق، إذ كان يحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم، وقد أشار إلى ذلك في أحد حواراته:

«كنت أفضل لاعب كرة قدم في العالم، كنت اللاعب الأول بدون منازع، أفضل من بيليه ومن مارادونا، وحتى أفضل من ميسّي. لكن هذا كان في الليل فقط، في أحلامي، وما إن أستيقظ حتى أتذكر أن لي ساقين خشبيتين لا تصلحان لكرة القدم، ولعله من الأفضل لي أن أكسب قوت يومي من خلال الكتابة».

على الرغم من عمله كرسام كاريكاتير وصحفي سياسي وكاتب، لم يتخلَّ غاليانو عن شغفه بكرة القدم وعشقه لها، وإن كانت ساقاه «الخشبيتان» لم تمكّناه من أن يصبح لاعب كرة قدم، فقد نجح قلمه بوضع ملاعب العالم بين دفّتي كتاب.

الكتابة الرياضية ليست لوناً أدبيّاً نادراً، وهنالك مئات الكتب والمقالات الجيدة، التي تشرّح العلاقة بين كرة القدم والسياسة، وتحلل تأثير المال على الرياضة، وتعيد قراءة أحداث رياضية معينة ضمن سياقها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخي. ولكن كتاب غاليانو كرة القدم في الشمس والظل، الذي يوضّح توأمة الرياضة والسياسة، ويوثّق التاريخ الاجتماعي للعبة كرة القدم، يبقى عملاً نادراً لم يُنشر ما يشبهه في مجال الكتابة الرياضية.

في الطبعة المعدّلة التي صدرت في العام 2003، يمنحنا غاليانو إطلالة على تاريخ كرة القدم منذ أيام الفراعنة، حيث كانت الكرة تُصنع من القش وتغطّى بقماش ملوّن، وحتى كأس العالم في كوريا الجنوبية واليابان في العام 2002، حيث صار أطفال باكستان يحيكون كرة أديداس ذات التقنية المتطورة.

لا يخجل غاليانو من التعبير عن عشقه الشديد لكرة القدم، ولا يتردّد في إغداق العبارات الشعرية، التي تصل حد التصوّف تارةً، والشبق الإيروتيكي تارةً أخرى.

فنجده يكتب، مثلاً:

«لحسن الحظ، ما زال بإمكاننا أن نرى على أرض الملعب، حتى وإن اقتصر ذلك على مناسباتٍ قليلة فقط، لاعباً وغداً وقحاً، يخرج عن النص، ويرتكب فاحشة المراوغة ليتخطّى جميع مدافعي الخصم، الحكم، والجمهور في المدرجات، وكل ذلك بغرض تحقيق الفرحة الشهوانية، التي تمنحها المتعة المحظورة بمعانقة الحرية!».

وفي مقدّمة الكتاب يعترف غاليانو بالتالي: «أخيراً وبعد مرور سنواتٍ عديدة، تعلّمت تقبّل نفسي على حقيقتها: أنا متسوّلٌ يبحث عن اللعب الجميل، أجول العالم مادّاً يديّ متوسّلاً في الملاعب: أستحلفكم بالله، هاتوا هجمة جميلة واحدة! وعندما أشاهد كرة قدم جيّدة، أعبّر عن امتناني للمعجزة، دون أي اكتراثٍ بهوية الفريق أو المنتخب الذي صنعها».

على الرغم من عمله كرسام كاريكاتير وصحفي سياسي وكاتب، لم يتخلَّ غاليانو عن شغفه بكرة القدم وعشقه لها، وإن كانت ساقاه «الخشبيتان» لم تمكّناه من أن يصبح لاعب كرة قدم، فقد نجح قلمه بوضع ملاعب العالم بين دفّتي كتاب.

وبينما يعرّي غاليانو أمامنا ضعفه تجاه كرة القدم الجميلة، ويؤكّد على انحيازه للعب الجميل أيّاً كان مصدره، لا يتوانى عن كشف الجوانب المظلمة التي حوّلت كرة القدم من بارقة أمل إلى أداة قمعٍ واستغلال، وهذه الظلال، التي يبسطها قادة الاتحاد الدولي لكرة القدم، الفيفا، من قلاعهم في زيوريخ، تحجب عنا شمس الكرة ونورها.

عاد غاليانو ليؤكّد مناهضته سياسات الفيفا في تجريدها كرة القدم من جماليّتها وروحها، في بيان أصدره قبيل بطولة كأس العالم في العام الماضي، أعرب فيه عن دعمه للمظاهرات التي اجتاحت البرازيل آنذاك: «تفجّر الغضب في البرازيل مبرَّر ويشبه في تعطّشه للعدالة، المظاهرات التي هزّت دولاً كثيرة في أنحاء مختلفة من العالم مؤخّراً. قرر البرازيليون، وهم أكثر الشعوب تولّعاً بكرة القدم، ألا يسمحوا مجدداً باستخدام رياضتهم ذريعةً لإذلال الكثيرين، وإثراء قلّة قليلة. احتفال كرة القدم، وهو عيدٌ للأرجل التي تلعب، وللعيون التي تشاهد، هذا الاحتفال هو أكثر بكثير من مجرد مشروعٍ اقتصادي كبير، يديره سادة منصَّبون في سويسرا. فالرياضة الأكثر شعبيّةً في العالم تسعى لكي تخدم الناس الذين يحتضنونها، وهذه هي النار التي لا يمكن لعنف الشرطة إخمادها».

هذا الالتزام بالحرية والعدالة، القيمتين التين شبههما غاليانو بالتوأم السيامي، حاضرٌ في كتاباته عن كرة القدم وعن الرياضة، كما هو حاضر في كتاباته السياسية والاجتماعية. وقد كرّس هذه الكتابات، على مدى أكثر من خمسة عقود، لتوضيح الطبيعة البنيوية لعدم المساواة والظلم في العالم. فوفقاً لغاليانو، ليس ثمة ثراء بريء إذ أن الحرية والعبودية، والفقر والغنى، ليسوا أموراً مفروضة من أعلى بل نتيجة لنظام عالمي جائر تتحكم به الدول الكبرى، التي تحاضر في الديمقراطية وهي مصانع للعسكرة والحروب. النقد الماركسي لنهب الموارد والاستعباد الذي حصل في أميركا اللاتينية كان الركيزة الأساسية لكتاب غاليانو عروق أميركا اللاتينية المفتوحة. الكتاب الذي صدر في العام 1971، سُمح بإدخاله في البداية إلى السجون أثناء الأشهر الأولى للانقلاب العسكري في الأوروغواي في العام 1973. لم يمانع الحراس بإدخاله لأنهم اعتقدوا أنه كتابٌ في علم التشريح، لكنهم سرعان ما اكتشفوا خطأهم، فمنعوا الكتاب في الأوروغواي، قبل أن يُمنع في التشيلي والأرجنتين أيضاً. اعتقل غاليانو لفترة وجيزة حين كانت الأوروغواي «بطلة العالم في التعذيب» كما يقول، قبل أن يُنفى إلى الأرجنتين، التي غادرها في العام 1976 بعد انقلاب عسكري دموي آخر. «تركت الأوروغواي لأنني لم أرد أن أبقى سجيناً، وغادرت الأرجنتين لأنني لم أرد الاستلقاء في المقبرة، فالموت ممل جدّاً».

مثّل الكتاب صرخة مدويّة أطلقها فقراء أميركا اللاتينية وسكانها الأصليون، ضد استخدام الولايات المتحدة لبلادهم كساحتها الخلفية. تتذكّر إيزابيل أيّيندي أنه أثناء هربها بعد الانقلاب الذي قاده بينوشيه في تشيلي، لم تحمل معها إلا أغراضاً قليلة، من ضمنها ثياب وصور عائلية، وكتابان: أحدهما كان ديواناً لبابلو نيرودا، والثاني كان نسخة من كتاب غاليانو «العروق المفتوحة».

عاد الكتاب ليستحوذ على شهرة غير متوقعة في العام 2009، حين أهدى الرئيس الفينزويلي الراحل، أوغو تشافيس، نسخة منه إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال القمة الأميركية. حين سُئل غاليانو عن إحساسه بأن كتابه أصبح الأكثر مبيعاً وأنه أصبح مشهوراً، كان رده حاسماً: «أنا لا أكتب لتُباع كتبي أو لأصبح مشهوراً ولا أكتب لأجل السوق. أنا أكتب لكي أقترب من الناس».

تغير الكثير في أسلوب غاليانو منذ نشره كتاب «العروق المفتوحة»، بل أنه لا يتردد في انتقاده، خاصة وأنه حاول أن يكون كتاباً في الاقتصاد السياسي، بينما لم يمتلك غاليانو التدريب أو الدراية الكافية بالاقتصاد السياسي. ومع أنه ليس نادماً على أي نقطة أو فاصلة في ذلك الكتاب، فقد تقدم في وعيه ونضجه إلى مكان آخر.

ما لم يتغير في غاليانو، مع مرور السنين، كان إصراره على محاربة النسيان التاريخي واستعادة ذاكرة البشر التي تم تقطيعها وتجزئتها. يشبّه غاليانو هذه الذاكرة البشرية الجمعية بالطيف البشري، إنه «أجمل وأبهى من قوس قزح الآخر، ولكن الطيف البشري تعرّض للتشويه على يد الذكورية ، والعنصرية، والعسكرة، وأشياء أخرى كثيرة دأبت على قتل عظمتنا المحتملة وجمالنا المحتمل».

لا تزال هنالك الكثير من الأصوات التي تطالب بحقها أن تُسمَع، والكثير من القصص التي تستحقّ أن تُحكى، وبرحيل غاليانو فقدنا أفضل من يمكنه التنقيب عنها وسردها. وفقدنا نبيّاً نذر نفسه للنظر إلى الوراء، لا ليندب، بل ليستخرج الكنوز المخبّأة ويكشف الجرائم المدفونة.

 

هوامش

  1. ↑ ماريو بينيديتي (1920-2009) شاعر وكاتب مسرحي من الأوروغواي، اشتهر بمُعارضته للحكم العسكري في بلاده، وللديكتاتوريات العسكرية في أميركا اللاتينية.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى