صفحات الناسوليد بركسية

عن استعجال الفرح بسقوط “دولة الخرافة”../ وليد بركسية

 

 

لا يمكن بأي حال لوم المعلقين العرب على إبداء السعادة بسقوط الخلافة المزعومة التي أعلنها “داعش” في سوريا والعراق، وإن كان من المبكر جداً القول بأن التنظيم انتهى فعلاً، إلى الأبد، لأنه مازال متواجداً بشكل محدود في العراق وبدرجة أكبر في سوريا حيث تستمر قوات سوريا الديموقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، بمحاصرة معقله الأساسي في الرقة في معركة يتوقع لها أن تستمر لفترة طويلة نسبياً.

ومع إعلان الجيش العراقي استعادة مسجد النوري في الموصل وإعلان سقوط الخلافة، في نفس اليوم الذي أعلنت فيه قبل ثلاث سنوات من نفس المسجد، أبدى المعلقون في “فايسبوك” و”تويتر” سعادة غامرة بانتهاء الكابوس الداعشي، وكان هاشتاغ #وسقطت_دولة_الخرافة من بين الأكثر تداولاً في عدد من الدول العربية.

الفرح له أسبابه بالطبع، فالتنظيم قدم الإرهاب بطريقة غير مسبوقة باعتماده على مواقع التواصل الاجتماعي وتصوير عملياته الدموية بحرفية مستمدة من أفلام سينمائية وبرامج تلفزيون الواقع، كما أنه خلق صدمة لدى كثير من المسلمين لرؤية تعاليمهم الدينية الأكثر تطرفاً تطبق فعلياً، لكون التنظيم اتبع كثيراً من التفسيرات الأكثر تشدداً للنصوص الدينية الإسلامية، ولم يأت بأساليبه من اجتهادات شخصية، وهو أحد الأسباب التي تمنع الأزهر حتى اليوم من تكفير أفراد التنظيم واعتبارهم إرهابيين على سبيل المثال.

اللافت في الهاشتاغ أنه يتعامل مع “نهاية داعش” كأمر واقع محتوم، وكأن الأمر يتعلق بحذف ملف ضار ما من جهاز كمبيوتر ببساطة، وتعطي المشاركات المختلفة فيه، من دول متعددة، انطباعاً بأن هزيمة التنظيم في الموصل، والتي طال انتظارها، ستمحي كل الأثار السلبية التي خلقها “داعش” طوال سنوات نشاطه في المنطقة، منذ العام 2013 قبيل إعلانه الخلافة المزعومة. بينما تغيب نقاشات مهمة مثل الأسباب التي أدت لنشوء التنظيم، وانضمام الآلاف إليه، وحتى المخاوف من إعادة انبثاقه من جديد. وهي نقاشات لا تتطلب مستوى هائلاً من المعرفة بقدر ما تتطلب اعترافاً بأن التنظيم وجد بطريقة أو بأخرى أرضاً خصبة للانتشار، على المستويين الفردي والمجتمعي.

احتواء الهاشتاغ على مفردة “الخرافة” بدلاً من “الخلافة” مثير للاهتمام من دون أن يكون مفاجئاً، فمنذ ظهور التنظيم وصعوده نحو قمة التنظيمات الجهادية، كان التعامل معه في النقاشات ينطلق من كونه “خارجاً عن الإسلام” بطريقة لا تمثل الدين المتسامح فقط، بدلاً من الاعتراف بوجود كثير من العنفية في جذور الدين الإسلامي نفسها، وليس فقط في التفسيرات المتشددة التي استند إليها التنظيم لخلق دولة أسطورية في منتهى الراديكالية. وتكرار الحالة من جديد اليوم، يعطي انطباعاً بأن كل فرد يحتفل بتغريدة أو منشور بنهاية التنظيم، جزئياً، كي يبعد عن نفسه، أمام نفسه وأمام العالم، صفة الإرهاب الذي أوصله التنظيم إلى درجة غير مسبوقة.

المخيف في الأمر أن خلافة “داعش” لم تكن خرافة، بل كانت أمراً واقعاً سقطت به الحدود الرسمية بين سوريا والعراق بعد حوالي 100 سنة على إنشائها وترسيمها باتفاقية “سايكس بيكو”، واشتعلت من ورائه حروب وقتل وتعذب بسببه كثيرون، وساهم وجوده المروع في تحسين صورة الأنظمة الدكتاتورية التي تعتبر بلا شك أحد أهم أسباب تشكله. ويجب القول هنا أن تحول “داعش” إلى خرافة أو أسطورة هو أمر سعى إليه التنظيم بشدة منذ اليوم الأول لظهوره، تمهيداً لليوم الذي يأتي ويهزم فيه ويتقهقر نحو البادية والأرياف التي خرج منها، راسماً صورة المدافع عن المظلومين السنة ضد “المتوحشين الشيعة” و”الأجانب الصليبيين”، مستفيداً من مظلوميات تاريخية تتكرر وتزداد كشعاره تماماً “باقية وتتمدد”.

وفيما تشير تقارير غربية نقلاً عن مصادر أمنية أن التنظيم سيتقهقر ويتفكك نهائياً قبل نهاية العام الجاري، ويتحول حكمه الذي غير خريطة المنطقة، إلى مجرد سيطرة على مناطق معزولة ونائية، قبل أن يتم استعادتها خلال العام 2018 بشكل نهائي من قبل القوات المحلية، يمكن القول أن نهاية التنظيم أو استعادة السيطرة على كامل الموصل، والرقة في مرحلة لاحقة، لا تعني نهاية تلقائية لمعاناة 1.5 مليون شخص أمضوا أكثر من عامين تحت حكمه القمعي في الموصل وحدها والتي يستمر القتال في أحيائها القديمة.

والحال أن التنظيم خسر حوالي ثلثي الأراضي التي كان يسيطر عليها العام 2015 كما خسر حوالي 80% من مصادر تمويله في نفس الفترة كما يشير تقرير أعدته مجموعة مجموعة “IHS Market” للمعلومات والتحليلات في لندن قبل أيام، لكن ذلك يجعل احتمالية قيام التنظيم بتحويل جهوده إلى أوروبا للقيام بعمليات خارجية أكثر ترجيحاً، وهي طريقة ذات أهداف دعائية يعطي بها التنظيم زخماً لنفسه رغم اضمحلال مناطق نفوذه، بشكل يمهد لتجنيد مزيد من المقاتلين إليه في المستقبل، كما أنه يزيد من إمكانية إعادة انبثاقه في فترة لاحقة بسبب عدم استقرار دول الشرق الأوسط عموماً، في عدم وجود حلول جذرية سياسية تنهي الأسباب الاجتماعية للتعاطف مع التنظيم والأسباب الأيديولوجية في جذور الدين الإسلامي نفسه.

بموازاة ذلك ستستمر الدعاية الداعشية بعد السقوط بالتواجد في زوايا الإنترنت المظلمة، وعبر تطبيقات المراسلة المشفرة، وستبقى عملياته التي ستقل ولن تتلاشى، مجرد دعم لتلك البروباغندا الديماغوجية المبنية على الخوف من الأخر أي “الغرب الكافر” والداعية زوراً لرفع الظلم عن فئة من الناس، أي الأفراد السنة ضد السلطات الشيعية – العلوية، وستبقى أدواتها الأساسية هي المبالغة في إظهار القوة والتبجح بعظمة الدين، لتجنيد مزيد من المقاتلين وإلهام آخرين لتنفيذ تلك الدعاية بانتظار فرصة مواتية لإحياء “دولة الخلافة” من جديد.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى