أكرم البنيصفحات مميزة

عن استمرار الثورة السورية


أكرم البني

ليس ثمة اختلاف على أن العام المنصرم، كان عام التغيير العربي أو عام الثورات التي أعادت الناس إلى السياسة بعد تغييب قسري دام عقودا، وفتحت طريق الحرية أمامهم، وبدايته تمكينهم من تقرير مصيرهم والمشاركة في صنع حاضرهم ومستقبلهم.

 لكن يبقى السؤال مشروعاً عن أسباب استمرار الثورة السورية في ظل خيار قوة وعنف عاريين لم يقاربه خيار، وفي زمن طال بالمقارنة مع الثورات الأخرى، وفي ضوء مشهد تبدو فيه الانتفاضة وكأنها تترك لتواجه مصيرها وحيدة، أو ما يصح تسميته بغياب موقف عربي ودولي رادع، فالأول لا يزال ضعيفاً وفي أحسن الأحوال لم يرق إلى مصاف شدة ما يكابده الناس وما يعانونه، ولا يغير من هذه الحقيقة التوقيع على بروتوكول المبادرة العربية ووصول بعثة مراقبين عرب إلى الأراضي السورية، والثاني يعاني من تشتت وحسابات سياسية ضيقة يعيقا خطوة التقدم لإعلان موقف أممي يدين أخلاقياً هذا التوغل الفريد في القهر والتنكيل.

 واستدراكاً نعود للسؤال عن ماهية الأسرار إن صحت العبارة التي تقف وراء إصرار هذا الشعب العنيد على ثورته، على الرغم مما يتعرض له من قمع عنيف وتنكيل معمم، وما هي عوامل القوة والقدرة على الديمومة بعد هذا العدد الكبير من الضحايا والجرحى والمعتقلين واللاجئين؟

بداية، ثمة إيمان راسخ وعميق في المجتمع السوري بضرورة التغيير، ويلمس المرء إصراراً قوياً وغير مسبوق عند الناس على رفض العيش كما كانت تعيش في السابق، نابع بلا شك من معاناة شديدة من القهر والتمييز والتهميش، أوضح وأكثف صورها، أن يبيح أهل الحكم لأنفسهم كل شيء على حساب أبسط حقوق الناس ومصالحهم.

 ولكل منا أن يتخيل أي إصرار يكون حين تصل شروط الحياة الآدمية إلى حدود غير مقبولة، وتتجاوز كل طاقة على الاحتمال، ليغدو العيش محالاً وترجح كفة تفضيل الموت على الخضوع للوضع القائم؟ وأي حافز للنهوض والانتفاض حين تمده الثورات العربية المتواترة، إلى جانب قوة الدفع الأولى، بروح الدأب والمثابرة؟

 ما كان بالإمكان أن تتأخر الناس في الرد على شدة ما تكابده في ظل نظام استأثر تاريخياً بالسلطة والثروة، ونجح في قمع المعارضة الديمقراطية وتغييب صوتها وتعميم حالة مزمنة من الخوف والرعب في المجتمع، لولا القناع الأيديولوجي الوطني الذي كان يرتديه ويكبح مواقفها ضد الظلم والإجحاف ويهدئ من ردود أفعالها، وما كان بالإمكان أن نشهد ثورة على هذه الشاكلة، وهذا التحول لقطاعات واسعة من الشعب السوري من موقف المستسلم والراضخ، إلى الموقف الرافض للوضع القائم ويعلن، على دمه، عدم قدرته على العيش كما كان، لولا سقوط شعارات الممانعة والمقاومة والتي ظهرت لكل ذي عين بأنها لم تكن أكثر من غطاء لتسويغ الاستئثار بالسلطة والامتيازات والفساد وتبرير أعمال القهر والتنكيل.

 لكن الإيمان وحده لا يكفي، وما يزيد في دينامية النهوض والحراك الشعبي ويرفع روح الإيثار والاستعداد لتقديم التضحيات ودرجة التحفز لمواجهة العنف المفرط، شيوع إحساس لدى المحتجين، بأن ما يحصل هو لحظة للتغيير يصعب تكرارها ولنقل فرصة تاريخية نادرة للخلاص من السيادة المزمنة لمنطق القوة والتمييز والغلبة، والأهم حضور إدراك عام بأن أي توقف أو عودة الى الوراء هو الطامة الكبرى وهو ما يمكن الدولة الأمنية من تثبيت تحكمها بمصائر البلاد والعباد ويضع الأجيال القادمة في شروط أسوأ بكثير مما هو قائم الآن.

 ونضيف أن الأخطاء التي يرتكبها النظام في إدارة الأزمة واستهتاره بمعاداة الناس وأيضاً بأسباب الانتفاض وبحجم وطبيعة الاحتجاجات الشعبية، التي امتدت لتشمل عشرات المدن والبلدات السورية، لعبت دوراً متمماً، منح الانتفاضة كثيراً من الأمل والثقة بقدرتها على تحقيق أهدافها، في مقابل ارتباك وتراجع مستمر في قدرة الأدوات القمعية على سحقها أو محاصرتها وقمعها.

 والنتيجة، إن الحملات العسكرية والأمنية على اتساعها وشدتها لم تستطع أن تثن الناس عن الخروج إلى الشارع والتعبير عن شعاراتها ومطالبها، ولم تنفع في تغطيتها مناورات النظام السياسية.

إن لجهة القرارات والتعديلات السياسية التي أعلنت والتي لم تلب الحد الأدنى من مطالب الناس، أو لجهة تكرار دعواته للحوار مع المعارضة، أو محاولات استمالة البشر بزيادة الأجور والتحكم في توفير بعض الحاجات الضرورية (كسلع معيشية أساسية ومادتي الغاز والمازوت مثلاً)، أو تخويفهم بخطر خارجي داهم أو بالفوضى وبأن البلاد سوف تذهب إلى اقتتال أهلي لا يبقي ولا يذر، أو بتنظيمات إسلامية متطرفة تتحين الفرصة للانقضاض على السلطة والمجتمع في آن.

 وبعبارة أخرى فإن عجز أهل الحكم بدعاياتهم المغرضة وبأسلحتهم القمعية المجربة والجبارة عن الحسم وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، ولنقل فشلهم بعد ما يقارب العشرة شهور من عمر الثورة في كسر شوكة الحراك الشعبي وإطفاء جذوته، عزز ثقة الناس بأنفسهم وبخياراتهم وبجدوى ما يقومون به، ومنحهم شعورا بأن قضيتهم أصبحت قضية عصية على القمع، ما أذاب بقايا الخوف من النفوس وشجع الكثير من المترددين على حسم خياراتهم.

وخير دليل أن المناطق المنكوبة هي المناطق الأكثر تحدياً للقمع وهي أول الأماكن التي تبادر ما إن ينحسر الحضور الأمني الكثيف للملمة جراحها وصفوفها والبدء من جديد بالتظاهر والاحتجاج.

 وما يزيد الثقة والإصرار وعزم الاستمرار، انضمام بعض العسكريين المنشقين إلى صفوف الانتفاضة ودورهم في حماية بعض الاحتجاجات والتظاهرات ومدها بالثقة والأمان، وأيضاً نجاح الانتفاضة في إفشال محاولات تشويهها أخلاقياً بالطعن بسلميتها ومدنيتها وبأغراضها السياسية وشعاراتها عن الحرية والكرامة.

 وتالياً إفشال محاولات التشكيك بوطنيتها عبر وصفها بالطائفية والسلفية، بغرض عزلها وإثارة الفتن والتفرقة بين صفوفها وفئاتها، الأمر الذي يشجع على الاستنتاج أن لغة الحديد والنار، لم يعد لها مكاناً في الثورة السورية، بل صارت على العكس تحفز همم الحراك الشعبي أكثر، وتترك أصحابها عرضة للمزيد من ردود الأفعال العربية والدولية ولتأثيرات سلبية بعيدة المدى في علاقتهم مع المجتمع ومدى تماسكهم.

 ثمة حافز آخر في الثورة السورية مكن المحتجين وشد من أزرهم، هو تنوع التكوينات القيادية الميدانية التي أفرزتها الانتفاضة وانتشارها في كل مكان وتفاعلها مع بعضها بطرق غير مباشرة عبر وسائط التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت ما جعلها عصية على الاعتقال وقادرة على خلق لغة مشتركة بعيدة عن الرقابة للتفاعل حول المهام وتوحيد إيقاع النشاطات، عرفت هذه التكوينات باسم التنسيقيات كشكل تنظيمي مرن نجح نسبياً في تلبية حاجات المتظاهرين وتخفيف الأضرار التي تلحق بهم، وتحويل التظاهرات إلى ما يشبه الفعل اليومي، وهو شرط ضروري لاستمرارها وتغذيتها بالحماسة.

ويبدو للعيان أن هذه التنسيقيات قد اغتنت مع الوقت واكتسبت خبرة أكبر في التعامل مع الحدث وقدرة لافتة على التنظيم وتحمل مسؤوليات متعددة كالرصد والتوثيق ووضع الخطط الملموسة، والأهم قدرتها على استثمار الإعلام لكشف ما يجري، ثم الإحساس الذي أشاعته بين المحتجين والمتظاهرين بأن هناك من يهتم لشأنهم وبأنهم ليسوا مغيبين أو أرقاماً نكرة، وإن تضحياتهم لا تذهب هدراً بل توظف لفائدة تقدم الحراك العام وتطويره، وما يزيدهم فخراً وعناداً شعورهم بأن ثورتهم أصبحت الشغل الشاغل للعالم وأنها موضع تقدير وإعجاب كبيرين لدى الجميع بما يسطرونه من شجاعة وإيثار ومن إبداعات نضالية، وأن شعوبا عديدة تترقب على أحر من الجمر ما سوف تسفر عنه ثورتهم من آثار إيجابية عميقة على مستوى المشرق خصوصاً والعالم العربي عموماً.

 ولا نغفل هنا الأثر الإيجابي عموماً لمواقف مختلف أطراف المعارضة، التي لم تتأخر بمجموعها عن دعم مطالب الشعب وتطلعاته، والأوضح أنها بغالبيتها لم تخن ناسها وتلجأ إلى النظام بحثاً عن حلول، وليس ازدحام المشهد المعارض بوفرة من المبادرات والمشاريع السياسية والمؤتمرات إن داخل البلاد أو خارجها، للتلاقي مع الحراك الشعبي وطموحاته، إلا دليل على حيوية الحقل المعارض وتنامي استعداده عموماً للمشاركة وتحمل المسؤولية وتالياً على حافز أخلاقي وسياسي صادق في البحث عن دور يمكن أن يلعبه لنصرة الثورة وعملية التغيير الديمقراطي، والأهم تقدم بعض أطراف المعارضة الإصلاحية، ربطاً مع تقدم الحراك الشعبي، نحو تبني شعار التغيير الجذري ومرحلة انتقالية لا تقبل بغير إسقاط السلطة ونقل البلاد من الاستبداد إلى الديمقراطية والتخلي تالياً عما كانت تطرحه حول أولوية الحوار مع أهل الحكم والإصلاح والمشاركة.

 ولا يغير من حقيقة ما سبق استمرار تفاوت مواقف قوى المعارضة من الأحداث ومن أشكال تمكين الانتفاضة الشعبية، سياسياً وثقافياً ومادياً، أو تباين سرعاتها في التعاطي مع معاناة الشارع وما يكابده، فللمعارضة الديمقراطية في سوريا أزماتها وإشكالاتها العديدة، وهي تعاني من العديد من المثالب والخلافات التي تظهر بين صفوفها، هنا وهناك، وترجع إلى أمراض لما تشفى منها بعد، بعضها قديم قدم نشأتها وبعضها حديث حداثة علانيتها.

وضوح مطالب الحرية والكرامة والتمسك بالقيمة الأخلاقية السلمية والمدنية واتساع بنيتها التكوينية وتنوع قياداتها الميدانية وتطور مواقف المعارضة السورية لتلاقي مطالب الحراك الشعبي هي حوافز صريحة لهذا الاستمرار المبين للثورة السورية، وإذا أضفنا ما تعممه الثقافة الإسلامية لدى غالبية المتظاهرين من حب للشهادة رفضاً للظلم وطلباً للحرية والكرامة، وأيضاً روح الوفاء للدماء الذكية التي أريقت ولمعاناة الجرحى والمعتقلين، وما يترتب على ذلك من حرج أخلاقي في التراجع ونكث الوعود، ومن مسؤولية كبيرة في الحفاظ على ظواهر الاحتجاج والاستبسال من أجل استمرارها حتى تحقيق الحسم، ثم الحماسة المنقطعة النظير لمن يفاخرون في المناطق التي عرفت إدارة أهلية لشؤونها، بأنهم تذوقوا طعم الحرية والكرامة وصار الموت سهلاً دونهما. يمكن أن نقف عند أهم الأسباب التي لا تزال تحفز همم الشباب المنتفض وتساعد تالياُ على كسر تردد آخرين وضم فئات جديدة إلى الصفوف، وبالفعل ثمة أعداد كبيرة أخذت ترفد الحراك الشعبي، يصعب تفسير دوافعها مع تصاعد شدة القهر والتنكيل، هل لأن حاجز الخوف انكسر، أم لانحيازها الأخلاقي مع المتظاهر الأعزل واشمئزازها من عنف أعمى لا يعرف حدوداً أو ضوابط، أم لإيمانها أخيراً بأن ما يحصل اليوم هو المعطى الأصيل للخروج من حالة الركود والتعفن السورية المزمنة؟

 ليس الغرض من عرض نقاط قوة الثورة السورية وحوافز استمرارها تقديم أمل كاذب أو شحنة تفاؤل، بل للتأكيد على أن الاحتجاجات الشعبية قد تجاوزت مرحلة الانتكاس ووصلت نقطة لا عودة منها، وإن خطر إجهاضها أو كسر شوكتها صار وراءها، وأيضاً للتأكيد على أن الشعب السوري خرج أخيراً من خانة الاستثناء في حسابات الانتفاضات والثورات العربية، وهو يثبت للعالم أجمع مع كل يوم يمر بأنه شعب حي، وأنه مثلما كابد وصمد طيلة عقود في مواجهة شروط أمنية لا ترحم، فهو يزخر بطاقة لا تنضب وباستعداد استثنائي للتضحية، وإن خلاصه الذي كان يظن أنه مجرد وهم أو حلم جميل وربما مغامرة خطرة هو أمر آخذاً في التجسد يوماً بعد يوم، على أرض الواقع.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى