صفحات الثقافةفراس سعد

عن اسماعيل شيخ حيدر


    فراس سعد

كان عليه أن يفكّر في الطريقة الأجدى ليفعل شيئاً مع أصدقاء الشاب الذي قُتل قبل يومين على طريق مصياف حمص. الصديق الذي كان عليه مقابلته في “مقهى رمضان” في بيروت هو صديق الشهيد، أخبره أن اسماعيل ناشط سياسي وميداني شارك في تظاهرات كثيرة في مدن سورية عدّة في دمشق ودوما وبرزة، وفي حمص في الخالدية وبابا عمرو. لكنه لم يستطع أن يخطط لتظاهرة في مصياف. كان يقول إن التظاهر في مصياف يشبه التظاهر في فرع للمخابرات.

على الرغم من كونه لم يتجاوز الحادية والعشرين، كان اسماعيل يوصل الأدوية إلى حمص، استمرّ في العيش طوال ايام القصف على الخالدية وبابا عمرو، “كانت هناك فكرة لاجتماع الحزب في حمص باعتبارها منطقة فوضى، لذلك اعتقدنا أنها آمنة، كنا مخطئين تماماً، فاللقاء في تلك المنطقة يشبه اللقاء في فرع مخابرات”، يقول رفيق مقرب منه.

كان اسماعيل قائداً طالبياً في دمشق. وكانت كلية الطب التي يدرس في سنتها الاولى من أولى الكليات التي تحركت في الجامعة ضد النظام الديكتاتوري. بدأت المخابرات تنتبه إلى تحركاته مذ ألقى كلمة في داريا في تأبين ناشط شاب قتلته قوات الأمن، وفي أكثر من مكان في حمص كان إلى جانب الساروت على المنصة.

في منعطف خطير على الطريق بين حمص ومصياف، وجدوا سيارة رئيس الحزب واقفة وفي داخلها جثتان لشابين قُتلا منذ لحظات، اسماعيل شيخ حيدر وصديقه الفلسطيني فادي عطاونة، رفيقه في الحزب السوري القومي الاجتماعي.

قبل وصوله إلى قرية محناية قادماً من لبنان، اتصل اسماعيل بوالدته ليطمئنها. كان يتنقل بسيارة والده، واثقاً من أن الأمن لن يفتشها باعتبارها سيارة رئيس الحزب. عُثر على أربع رصاصات في جسده ورصاصتين في جسد رفيقه الفلسطيني. في ذلك المنعطف توقفت دورية للشبّيحة واللجان الشعبية. حالما تعرّفوا الى اسماعيل ورفيقه الفلسطيني تمّ قتلهما على الفور. كانا أول شهيدين للحزب السوري القومي الاجتماعي في الثورة.

الصديق الذي كان على أوغار مقابلته في “مقهى رمضان”، صديق الشهيد وابن مدينته الصغيرة. كانا صديقين، على الرغم من انتمائهما إلى حزبين مختلفين، بينهما ثأر تاريخي. هذه ميزة الجيل السوري الشاب، ميزة مصياف المدينة – البلدة أنها صورة مصغرة عن التنوع السوري السياسي والطائفي والثقافي، المدينة الوحيدة في سوريا إلى جانب توأمها الآخر، السلمية، التي حافظت على هوية سوريا ما قبل ديكتاتورية حزب البعث.

من أجل الثورة أيضاً، كان على أبو كفاح (الإسم الحركي لاسماعيل) أن يثور على حزبه، ليلتحق بثورة شعبه، الذي استيقظ فجأةً بعد نصف قرن من السبات. كانت مجموعة كبيرة من الحزب القومي (جماعة الإنتفاضة كما يسمّون أنفسهم)، عددها حوالى خمسمئة شاب قد انشقّت عن الحزب وأصدرت بياناً أعلنت فيه انحيازها للثورة. كان اسماعيل من دعاة الحل السياسي، وأمام عينيه النموذج اللبناني. فبعد ثلاثين عاماً من الحرب اللبنانية كان هناك حل سياسي. هكذا أيضاً بعد سنتين من الثورة السورية، فيما لو بقي النظام، لا بد من الحوار معه للوصول إلى حل. صديق آخر لاسماعيل يقول عنه إنه كان ضد الحوار مع النظام، لكن لا بد أن ننتهي بأيّ ثمن. كان الشاب قائداً ميدانياً لكنه كان يأمل بحل سياسي، وهو في كل حال لم يكن مع التسلح، فواجب “الجيش الحر” حماية المتظاهرين فقط. كان اسماعيل يردّد: “الثورة للثوار والسياسة للسياسيين”.

على الرغم من موقف والده الذي يعتبره البعض ممالئاً للنظام، أو “محبكجي”، وهو مصطلح يطلقه المعارضون على الموالين، كانت علاقة اسماعيل جيدة، بل رائعة، بوالده الزعيم السياسي للحزب القومي. علاقة من طراز نادر. كانا صديقين. اسماعيل في العشرين ووالده يزيده ثلاثين عاماً أو أكثر. كانا يتحاوران. في كل الحالات يمكن أن نختلف في السياسة، لكن لا بد أن نتفق في الإنسانية. تذهب السياسة، ويبقى الإنسان.

بالنسبة الى إسماعيل، لم يكن الأمر يتعلق بالسياسة. كان يتعلق بمصير شعب كامل، وبحرب إبادة يمارسها نظام ضد شعبه الأعزل. يتعلق بسوريا التي أحبها. لم يكن الأمر مختلفاً بالنسبة الى علي شيخ حيدر، والد اسماعيل، الذي كان بدوره قلقاً على مصير البلاد، ماذا يحل بها إذا ما ضعفت وصارت مسرحاً للتدخلات والتجاذبات الإقليمية والدولية، وماذا لو تفشّت فيها الطائفية والمذهبية؟

في البداية كان الأمر واضحاً للأب: النظام يمارس قمعاً عنيفاً للشعب. هذا أمر لا يمكن القبول به. لكن بعد مضي شهور على الثورة تعقدت الظروف، وظهرت مجموعات مسلحة وظهر “الجيش الحر” والتدخل السعودي ورجال الدين السلفيون، وظهر واضحاً الإصرار الروسي على دعم النظام، كما تظهّرت اللامبالاة الدولية لا سيما الأميركية حيال ما يحصل. بدأت  أخطاء المعارضة أيضاً بالظهور. الحزب ليس ضد من يتظاهر ضد النظام. الأمر يتعلّق بوضع كل منفذية، لذلك صدر تعميم داخلي يوضح الأمر.

كان هناك تهديد مبطن من النظام بأذية اسماعيل أو احد إخوته المعارضين. هنا لا بد أن تنتصر الأبوّة في صراعها مع العقل. لا بدّ أن ينتصر القلب. اختار الدكتور علي الحياد: لا يؤيد النظام  ولا يخسر أحد أبنائه. لكن حدث ما كان يخشاه. فقد قتلوا اسماعيل!

لم يختلف موقف الأب أمام الحشد الذي جاء للتعزية باسماعيل من كل سوريا وخصوصاً من لبنان. بقي متوازناً حريصاً على وسطية يرفضها النظام، الذي نفّذ تهديده. مع ذلك تحدث الدكتور علي لتلفزيون النظام السوري قائلاً إنه يقدم ابنيه الباقيين فداء لسوريا، ولن يستطيع أحد أن يسكته. لمن كان يوجه كلامه؟ هو وحده يعرف.

أمام منزله في شارع رئيسي في مصياف المدينة الصغيرة على سفج جبل في منتصف المسافة بين طرطوس وحماه، اجتمع أكثر من ثلاثة آلاف رجل وامرأة أكثرهم من الشباب، أصدقاء اسماعيل. شريط الفيديو الذي وزّعه الأصدقاء من نشطاء الثورة، يظهر هتافاتهم المنددة بالنظام، لكن والد اسماعيل قال لقناة تلفزيونية لبنانية أن لا شيء عكّر صفو التشييع سوى فوضى بعض الشباب. ظهر الرجل ممتعضاً من الهتافات على رغم أنه لم يدنها. كان رئيس الحزب يبدو كأنه يقف على حد شفرة، وبديبلوماسية السياسي حاول الإستمرار في وسطيته واعتداله، لكن قلبه كان يقول شيئاً آخر. بدأ الحزب تحقيقاً عن جريمة قتل اسماعيل ورفيقه الفلسطيني. لديهم بعض الشكوك حول جهة أخرى قد يكون لها يد أو مصلحة في مقتله. البعض شكّك في مجموعة ما تتبع “الجيش الحر”، انطلاقاً من خبر نشرته إحدى التنسيقيات في جسر الشغور على الـ”فايسبوك”، اعتبرت فيه اسماعيل “شبّيحاً” كونه ابن علي حيدر، رئيس الحزب القومي الذي يبدو موقفه بالنسبة الى كثيرين ميالاً أحياناً لجهة النظام، لكن الموقع إياه حذف الخبر بعد نصف ساعة.

صديق اسماعيل، ابن بلده مصياف الذي هو صديقي أيضاً، لم يأت إلى اللقاء الثاني في “مقهى رمضان” في الحمرا. كان الوضع الأمني قد تفجّر في أكثر من مكان من بيروت وصولاً إلى طرابلس، وفي مكان ما من الجبل أيضاً. جماعة 14 آذار وعموم معارضي نظام بشار هنا في بيروت، يتهمونه بمحاولة تفجير الوضع على خلفية الحرب في سوريا لتخفيف الضغط الدولي عليه بنقل جزء من معركته مع الثورة، إلى لبنان.

هكذا فشل اللقاء مع صديق اسماعيل للمرة الثالثة أيضاً، الأمر الذي جعل التحقيق يتأخر في الإكتمال. في هذا الوقت كانت الثورة في سوريا ماضية في مسيرتها، والنظام لا يتوقف عن القتل. في كل يوم كوادر شابة تُقتل في حمص وإدلب وريف دمشق ودرعا واللاذقية ودير الزور. مضت أيام عدة لم أستطع الحصول خلالها على معلومات جديدة عن اسماعيل. كان الوضع في سوريا قد تطوّر إلى حالة خطيرة بعد مقتله بأسبوعين او ثلاثة، استخدم خلالها النظام أسلوباً جديداً: تفجيرات ضخمة وسط العاصمة، انفجار ضخم  قرب فرع فلسطين في القزازين بدمشق راح ضحيته عشرات المواطنين. يقول ناشطون معارضون إن معظم ضحايا الإنفجار من المعتقلين الذين قتلوا سابقاً في المعتقلات واحتفظوا بجثثهم في البرادات. الأمن يستخدم جثث المعتقلين بطريقة مسرحية تظهرهم كأنهم راحوا ضحية الإنفجارات، فيما هم مختفون او معتقلون منذ شهور، ثم يخبرون أهاليهم أنهم قضوا في تلك الإنفجارات الإرهابية! مع ذلك لا يسلمونهم جثث أبنائهم، لأن جثث كثيرين هي عبارة عن أطراف أو أشلاء غير متجانسة، وهذا ما استمر مع المجازر المنفذة بالسكاكين والخناجر التي لجأ النظام إلى ارتكابها منذ وقت قصير عبر ميليشيا الشبّيحة، وحاول الزجّ ببعض الأهالي المسلحين في اعمال القتل، في ما يعتقد أنها محاولة لنقل الصراع إلى حرب أهلية ببعد طائفي.

جثة اسماعيل كانت محظوظة. اكتفى الشبّيحة بكسر العنق، لكن الجثة لم تنج من التمثيل بالحراب والسكاكين.

في سوريا، تقول إحدى الناشطات: “محظوظ من يُقتل ويحتفظ القتلة بجثته قطعة واحدة”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى