صفحات الرأي

عن اغتصاب النساء

 

حازم صاغية

في وقت واحد تقريباً تزامن خبران اثنان: من جهة، كشف فريق من صحافيّي البي بي سي البريطانيّة (محطّة نيوز نايت) أنّ ضبّاطاً في “جيش جمهورية الكونغو الديموقراطيّة” سبق لهم أن وجّهوا أوامر لجنودهم تطالبهم باغتصاب النساء في معسكر الخصم.

ومن جهة أخرى، أعلن وزراء الخارجيّة في دول مجموعة الثماني ما اعتبروه اتّفاقاً تاريخيّاً يقضي بتخصيص مبلغ 50 مليون دولار في مكافحة استخدام الاغتصاب كسلاح في الحروب.

ولا شكّ أنّ المبلغ هذا يبقى هزيلاً جدّاً بقياس التحدّي الذي يطرحه “استخدام الاغتصاب كسلاح في الحروب”. مع ذلك، وكما نعلم جيّداً، بات هذا الموضوع لا يقبل التجاهل ولا التأجيل. فهو بدأ يفرض نفسه على أجندات الدول والمنظّمات الحكوميّة وغير الحكوميّة منذ الحرب البوسنيّة في التسعينات، وبسبب ما استجرّته من أعمال اغتصاب واسعة. وهذا مع العلم بأنّ الحرب البوسنيّة لم تكن المرّة الأولى في تجارب استخدام الاغتصاب كأداة في الحروب. فقد بات معروفاً جيّداً حجم الاغتصابات الهائل الذي شهدته مدينة برلين بعد دخول الجيش السوفياتيّ الأحمر إليها في الفصل الأخير من فصول الحرب العالميّة الثانية. كذلك سجّلت الحرب الهنديّة – الباكستانيّة في مطالع السبعينات، والتي نشأت بنتيجتها دولة بنغلاديش، تبادلاً واسعاً لـ “سلعة” اغتصاب النساء في ما بين الجيشين المتحاربين.

وأخّيراً، في سوريّا، شاعت قصص كثيرة عن أعمال اغتصاب ارتكبها جنود النظام ضدّ نساء يُحسبن، أو يُحسب رجالهم أو أبناؤهم، مشاركين في الثورة. أمّا في مصر، فلم يعد سرّاً أنّ جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة، ومن خلال بلطجيّتها، ترعى أعمال تحرّش منظّم بالنساء، تصل في بعض الحالات إلى حدّ الاغتصاب الكامل. والغريب أنّ أعمالاً كهذه تحصل في أكبر الساحات العامّة في العاصمة، بقصد تخويف النساء لإخراجهنّ من الحيّز العامّ، أو ابتزاز أقاربهنّ من الرجال باستخدام مسألة الشرف والعار. وقد وصف أكثر من مراقب كيف أنّ العلنيّة والتجرّؤ هناك لا يحدّهما حدّ، إذ يقف المتحرّشون والمغتصبون على شكل دائرة تحيط بالنساء، فيما تحيطها دائرة أخرى تحمي انتهاكاتها الفظيعة.

بيد أنّ الاغتصاب الذي نشهده موسّعاً ومنظّماً ومتحرّراً من كلّ رقابة في أزمنة الحروب والثورات، لا يقتصر على تلك الأزمنة. ففي الهند مثلاً، وعلى ما دلّت بضعة أحداث جدّت مؤخّراً، وأجّجت أوسع المشاعر الهنديّة، حصل عدد من الاغتصابات التي نمّت عن حجم هذه المشكلة و”عراقتها” في البلد المذكور.

بطبيعة الحال، كلّ المجتمعات تعاني الاغتصاب بوصفه سلوكاً مَرَضيّاً يصاب به عدد من الأشخاص غير الأسوياء، كما أنّ الاغتصابات العائليّة التي تتكتّم عليها الأُسَر في العادة، هي أيضاً ممّا يحصل في البلدان جميعاً. إلاّ أنّ الاغتصابات الجماعيّة والعلنيّة لا تنفصل عن ثقافة بعينها عنوانها الأبرز احتقار النساء واعتبارهنّ مجرّد أداة لخدمة الرجل أو للتنفيس عنه. والحال أنّ القدرة على ممارسة الاغتصاب، لا سيّما في المجال العامّ المعلن والمنظور، ترتبط دائماً بنزع أنسنة المرأة كشرط مسبق. فمن أجل تنفيذ الاغتصاب، لا بدّ من “تبرير” العمل، لصاحبه أوّلاً، بأنّ الضحيّة ليست إنساناً مساوياً لكلّ إنسان آخر، بل هي أقرب إلى جنس منحطّ أو بهيمة. ويكمن جزء من “ثقافة” الاغتصاب في مواقف معروفة، ولاحقة على حصوله، كإدانة الضحيّة واعتبار أنّها هي المسؤول عمّا ألمّ بها، أو جريمة الشرف بحقّ المرأة المغتَصَبة بهدف “محو العار” الذي أنزله الاغتصاب بالعائلة، أو حمل المرأة عنوة على الزواج من مغتصبها.

وفي الحروب والثورات تحديداً، يتولّى الاغتصاب وظيفة تأبيد النزاع وفرض الخصومة على المستقبل. ذاك أنّ العدوّ يزرع امتهانه في صلب ضحيّته، تذكيراً دائماً منه بالسيطرة والغلبة اللتين تتجسّدان في جنين يسعى. وهذا ما يعني، بالضرورة، رفع القطيعة والخلاف بين بيئتين وجماعتين إلى إعلان عن استحالة العيش المشترك، وعن استحالة المساواة بين من يترك بصمته الاغتصابيّة العميقة وبين من تلاحقه تلك البصمة حتّى الموت.

لقد صُنّف الاغتصاب، حين يكون جزءاً من ممارسة واسعة ومنهجيّة، جريمة ضدّ الإنسانيّة وواحدة من جرائم الحرب، كما اعتُبر واحداً من عناصر “المجزرة” حين يُرتكب بغرض تدمير إحدى الجماعات الإثنيّة أو الدينيّة أو القوميّة. ولا يزال مطلوباً بذل الكثير من الجهد، واستثمار الكثير من المال، في برامج وإجراءات تحاصر هذه الآفة اللعينة. فحينما يوجّه قائد عسكريّ أوامره بممارسة الاغتصاب إلى جنوده، على ما حصل في الكونغو “الديموقراطيّة”، فهذا دليل لا يخطىء على مدى الانحطاط والساديّة الذي قد تتدهور إليه إنسانيّتنا. وعلى الإنسان، أو من يسمّي نفسه هكذا، أن يتصدّى للدفاع عن إنسانيّته، أو ما تبقّى منها.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى