صفحات الثقافةعزيز تبسي

عن افتقادنا كوبَ الشاي الدافئ/عزيز تبسي

 

 

لا يكفّ شارلي شابلن في سيرته الذاتية: “قصّة حياتي”، عن سرد واقعة صعوده الأوّل على خشبة المسرح، وهي اللحظة عينها التي ترجّلت أمه عنها. لن يكفّ عن ترديد عبارتها، التي حملتها معها، بترحالاتها المتواصلة، بين البيوت والمآوي والمشافي والمصحات العقلية التي تنقلت بينها حتى ساعة وفاتها: “فقط لو أتيتني بكوب شاي دافئ بعد ظهر ذلك اليوم، لكان وضعي على ما يرام”. لكن صوتها تحشرج واختنق، قبل الأوان، كعادة من تختنق أصواتهم، أو تخنق بأُشوطات من حبال مجدولة، قبل أن يطلّ زمان ومكان، التفاخر بجزّ الحناجر واقتلاعها مع أعناقها، وعرضها أمام الناس كإنجازات، ومفاخر تاريخية خارقة.

سارع صاحب المسرح وعمّاله بحملها إلى خارج منصته، لتتوقّف بعدها عن الغناء، أي إعلان موتها فنيًا، كما هي الأغنيات والترنيمات التي ماتت في حنجرتها، ولن تتوقف عن المتح من أعماق إغفاءاتها، لتلك الترنيمة الثابتة، من ترنيمات الموت المتعددة. تثبّتت هذه اللحظة في ذاكرتها، ضحكات الجمهور الاستهزائية بها، تجاهل مدير المسرح، وارتباك ابنها اليافع الذي ينتظرها في الكواليس، لهيمنة ندائها الداخلي، غير المسموع وغير المدرك، إلى الأبد، أبدها.

وبقيت هذه الواقعة من متمّمات السيرة الذاتية، بفرادتها ووحدانيتها ومصائرها، وإيذان ولادة موهبة فنية آسرة وانطلاقها : شارلي شابلن.

وفي الانتقال من حقيقة هذه الخاتمة المفردة، إلى حقائق خواتم جماعية تقرّرت في سياقها ومآلاتها، مصائر شعوب وأمم، يحال إلى حالات تتشبّه بالأقدار، كما هي مقاربة الروائي والناقد الأدبي النمساوي – ستيفان تسفايج – في مؤلفه ساعات القدر.

انتقلت في الواقعة السورية، إلى التحكّم بمصير شعب وبلد، بعد أن خطّ تلاميذ المدرسة بالطباشير على جدران مدينتهم العبارات، التي أظهرت فتنتهم بنداءات الحرية، التي رعدت في سماوات المدن العربية وشوارعها، علهم يستمطرون غيومها، ويستنبتون زرعها في أرضهم.

كان من الممكن أن تتأول كتاباتهم، كتعبير عن تراكم لمظلوميات طويلة، وعسف عميق، حرق دم الناس وأعصابهم وبدد حيواتهم ومصائرهم في معاليم يستدل عليها، ومجاهيل لم يكشط التراب عنها، وكان يقضي كذلك، الاندفاع بلا تردد لامتلاك مبادرة السبر والإصغاء، علها توضح من خلالها الحقائق، لتكون بداية العمل الدؤوب، لإيجاد مخارج لها، بمشاركة مواكب المظلومين ذاتهم، للتحري عن مكامن الظلم والإقصاء، وغياب العدالة وتغييب السبل للتعبير عنها.

لم يحصل شيء من هذا المرتجى، ما حصل هو التجاهل المغرور، والاستقواء المسلح على شعب أعزل، آثر الخروج عاري الصدر تحت المطر، ليثبت أنه لا يحمل سلاحاً، وجازف بتعرية أبنائه من ملابسهم، ليتيقّن القناصة المرابطون في الأبراج، أن ما من سلاح يحمله أبناء الفلاحين سوى أصواتهم، المستردة من جوف التاريخ، علهم يُذكّرون ويُؤكّدون بهديرها وترنيماتها العالية، أنهم كما سواهم، ينتمون إلى السلالة، التي كرمتها الآلهة ودونتها كتبهم المقدسة، وشدتها بعصب الانتماء إلى آدم وذريته، وأنهم لا يريدون غير الإصغاء لأوجاعهم والترفق بمظالمهم، والسعي إلى إيجاد حلول لها.

وما كُوب الشاي الدافئ، إلا مجازٌ إنقاذي لا بديل عنه، قد يفيد في تسكين الآلام، وقد لا يفيد بعد تعمّق المرض، وتعالي أنين الأوجاع، سيكون لو حصل، جرعة تتوخى المداواة، وتحفز المعونة الآدمية لمغادرة حجرات اللامبالاة والتجاهل.

ساهم تجاهله، والتحولات في المسار الاحتجاجي، الذي تفلّت من أسبابه ومقدماته، لاحتياج أكواب عديدة، توزّعتها الهاويات التي تعمّق جوفها، لتردم الحركة الشعبية في أعماقها، وتقبرها حية مع أحلامها وأنين أوجاعها.

المقابر الموزعة في كل مدينة وبلدة، الخراب المهول في المدن، الضائعون في سجون لا يعرف أعدادهم ولا أعدادها، ولا أماكنها ولا أماكنهم، اللاجئون إلى براري دول الجوار، التائهون في الهجرات البرية والبحرية، الفاقدون أعمالهم، المهانون في مخيمات اللجوء وأمام سجلات منظمات الإغاثة… الذين صاروا ولائم للأسماك والكائنات البحرية، العالقون في بوابات المعابر بين الدول…

الآخرون، المتبقون في جغرافيا الصراع وعواقبه، من اللاهثين خلف جرعة الدواء المفتقدة، المحتفلون بجواز سفر من دون تأشيرة خروج، باعوا من أجل الحصول عليه، خواتم زواجهم وأثاث بيوتهم، العابرون برعب في متاهات الطرقات الصحراوية، علها توصلهم إلى مدن أقل هولاً….

الحالمون بالوصول إلى البيت محملين بأكياس الخبز، الباحثون عن الحرارة قرب المدفأة بلا “مازوت”، الموعودون بالكهرباء بعد غياب لأسابيع، المنتظرون السخاء المتأخر لباعة المياه غير الصالحة للشرب، المبتسمون بعد التيقن من أعداد الأهل والأصدقاء الذين قرروا البقاء في البلد…الناجون بمصادفات من قذائف يتوهم من يرميها أنها لا تصيب أحداً سوى الأشرار.. المكتشفون لأشياء جديدة قابلة للحرق والتدفئة.. كالدفاتر المدرسية والدساتير التي يكتبها وجهاء الذئاب والضباع، لتبيان حقوق الأغنام وواجباتهم.

في الليالي التي تمر كنهاراتها، يتابعون سيرهم في شوارع تأخذهم إلى أعمال بالية، وتعيدهم منها، يصغون، من حين لآخر، إلى سعفة من نداءات حنونة، تأتي من بعيد، أو، من شقوق الأرض.

-فقط لو أتيتمونا بكوب شاي دافئ بعد ظهر ذلك اليوم، لكان وضعنا على ما يرام!!

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى