صفحات العالم

عن الأزمة بين تركيا والاتحاد الأوربي –مقالات مختارة-

 

 

الاتحاد الأوروبي مهدَّداً بطرد تركيا من «جنته» الموعودة/ بيسان الشيخ

لم يعد سراً تخلي الاتحاد الأوروبي عن سياسة الجزرة حيال تركيا واستبدالها بعصا غليظة تمثلت أخيراً بقرار تجميد ملف عضويتها في الاتحاد في شكل مباشر وصريح. وربطت الكتل النيابية الأوروبية التي صوتت لمصلحة القرار، استئناف المفاوضات برفع قانون الطوارئ الذي تفرضه تركيا منذ محاولة الانقلاب الفاشل في 15 تموز (يوليو) الماضي، والذي تمت بموجبه حملة اعتقالات وإقالات واسعة، وتضييق غير مسبوق على الصحافة والإعلام.

القرار الذي استبقه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بوصفه بأنه «لا قيمة له»، غير ملزم عملياً، وعارضه كثيرون داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، لما قد يفرزه من قطع لآخر الجسور مع تركيا، إلا أنه يحمل تحذيراً سياسياً واضحاً يضع هذه العلاقة الملتبسة منذ عقود على نار حامية، خصوصاً أن أردوغان يملك من الجزر والعصي ما يكفي لحسم ذلك التذبذب الأوروبي المديد.

وقد لا تجدي كثيراً في الوقت الراهن استعادة الاخطاء الأوروبية السابقة في التعامل مع ملف تركيا، لا سيما رفض عضويتها عندما كانت في لحظة نادرة من التقارب مع القارة العجوز، وجابت شوارعها تظاهرات شعبية تطالب بالانضمام. وقد بات مكرراً وممجوجاً القول إنها رحبت ببلدين لا يستوفيان الشروط مثل بلغاريا ورومانيا وأبعدت بلداً أحرز قفزات هائلة في الاقتصاد والادارة والبنية التحتية مثل تركيا. طبعاً لا يتيح «الصواب السياسي» الأوروبي الإفصاح عن السبب الفعلي وراء تأجيل الحسم آنذاك، وفرض مزيد من الشروط بذريعة القضية الأرمنية هنا، والقبرصية هناك، وثغرة ما بينهما. فتلك أوراق «مقبولة» في لعبة الابتزاز السياسي، فيما العقدة الفعلية التي لن تجد لها أوروبا حلاً ولن تتصالح معها في المستقبل القريب هي أن تركيا بلد مسلم، له امتداد اقليمي واسع ونفوذ سياسي أوسع.

لكن، فلنسلم جدلاً بأن ذلك من الماضي، وأن واقع الأمور منذ خمس سنوات مختلف جذرياً ويستدعي أدوات حل وتفاوض مختلفة بدورها، يبقى أن أوروبا لا تزال تقرأ الواقع التركي بالدفاتر القديمة نفسها.

بداية، لا يمكن إنكار ما تمر به تركيا من تغيّرات هائلة سياسية واجتماعية ساهم ذلك الإزدهار الاقتصادي نفسه في ترسيخها ورفع ضريبتها، عبر نشوء طبقات شعبية جديدة لا يعنيها من الدولة إلا النظام الريعي الذي توفره وحماية مصالحها المباشرة. وتلك الشرائح الناشئة والمكونة من صغار الصناعيين والمقاولين ورجال الأعمال وغيرهم، هي عصب السلطة الفعلي في مواجهة «حرس قديم» خسر قاعدته الشعبية تدريجياً. فأصبح بالتالي أي مطلب آخر، فكري او سياسي أو أكاديمي، بمثابة «تطلب» غير محق وترف غير مستحق. وعليه، فإن من يحتاج «مظلة» أوروبا داخل تركيا هم أقلية شعبية مؤلفة من بعض النخب المدينية والمعارضين السياسيين (سواء التقليديين او الجدد)، وغيرهم من المتماثلين «ثقافياً» مع القيم الغربية لكنهم خارج دوائر القرار الفعلي. وجاءت محاولة الانقلاب لتفقدهم آخر أدواتهم في ممارسة الضغط. أما من تحتاجه أوروبا في تركيا فهي السلطة ورئيسها من دون منازع. وذلك ما يدركه أردوغان جيداً، ويتقن التعامل معه. فالحال على ما وصفه أحد الظرفاء يشبه تهديد النباتي بقطع اللحم عنه.

وهكذا فإن أول ما أقدم عليه الرئيس التركي هو التهديد بالالتفات الى «منظمة شانغهاي للتعاون» عوضاً عن السوق الأوروبية التي لم تثبت جدواها الاقتصادية محلياً، عدا تقارير إعلامية تشهرها في وجهه بين الفينة والأخرى حول قوانين العمل، واستغلال اللاجئين وتشغيل القاصرين، وغير ذلك مما يهدد بسحب رخص أوروبية من المصانع التركية، حيث تستفيد الاولى في شكل أساسي من قلة تكاليف الانتاج وضمان سوق تصريف هائلة.

وإلى ذلك، لم يتأخر الرئيس التركي بالتلويح بعصا غليظة أخرى وهي استقالة بلده من دور الشرطي وإعادة فتح بوابة تدفق اللاجئين الى أوروبا. وتلك مسألة لا تحتمل المزاح، لا سيما أن تركيا ترفع العبء الأكبر في هذا الملف.

والحال أن الاتحاد الأوروبي جلب على نفسه في السنتين الماضيتين عداء السلطة والمعارضة في تركيا على حد سواء. ذاك أن الرغبة في إبقاء صيغة «رابح – رابح» لا تجدي في السياسة عموماً فكيف مع بلد بهذا الثقل، حيث لا يمكن العلاقات أن تمر من دون تنازلات متبادلة وضمان مصالح مقابلة.

وافترضت المعارضة التركية أن جنوح السلطة إلى التفرد بالحكم والإمعان في «أسلمته» والذي بدأت مؤشراته تظهر مبكراً، ثم حملة الاعتقالات الواسعة وإغلاق الصحف وقنوات الاعلام وغيرها من «الاجراءات الاحترازية» التي أعقبت محاولة الانقلاب، لن تمر من دون رد فعل أوروبي واضح وصريح. وتوقع كثيرون أن يأتي الدفاع الأول من بلدان «علمانية»، ترفع شعار الحريات عالياً. فإذا بالمفاجأة تقع كالصفعة، عندما قوبل ذلك كله بالصمت، وبعض الشجب الخجول. ثم كان الأسوأ في إعادة توظيفه لخدمة مصالح سياسية أوروبية محضة، كما هو الحال مع تجميد ملف الانضمام للاتحاد. وساد شعور في هذه الاوساط بالتخلي التام عنهم، وأن الخارج لا يراهم إلا مطية للضغط داخلياً على السلطة.

أما من جهة السلطة، فكان يُتوقع أيضاً أن تسارع تلك «الديموقراطيات العريقة» للدفاع عن بلد يتعرض لانقلاب عسكري يهدد أمنه وشعبه ونظامه السياسي وإعلان مواقف صريحة ضده بما ينسجم مع القيم الأوروبية نفسها. لكن مرة أخرى، بدا أن الوقوف الى جانب الشرعية المنتخبة ديموقراطياً مطلب في غاية الصعوبة. ساد الصمت المشوب بالحذر والترقب، ولم تعلن الدول موقفاً حاسماً، فيما لا يزال كثيرون يشككون في سلوك بعض السفارات الأوروبية عشية الانقلاب.

لا شك في أن الرسالة السياسية من التهديد بتجميد ملف انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي وصلت، وبقوة، وإن تم التعامل معها باستعلاء. لكن الأضرار التي ستتركها على الديبلوماسية الدولية، والملفات الإقليمية لن تمحى بمجرد التراجع عنها، ذاك أنها أحرقت مراكب كثيرة ولم تحسب حساب أطواق النجاة.

الحياة

 

 

 

 

علاقات تركيا مع الغرب الأطلسي في واحدة من أسوأ لحظاتها/ د. بشير موسى نافع

كما هي العادة، صحب عدد من الصحافيين الأتراك رئيسهم خلال زيارته لباكستان وأوزباكستان. في رحل العودة، 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، قال طيب رجب إردوغان للإعلاميين الملتفين حوله في صالة الطائرة إن الشعب التركي يجب أن يتعامل مع مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي بأريحية، وإن مسألة الالتحاق بأوروبا ليست نهاية العالم. ولم يتردد إردوغان في الكشف عن نواياه، مشيراً إلى أن تركيا قد تطلب عضوية منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم حتى الآن خمس دول، وتقودها الصين وروسيا. جاءت هذه التصريحات بعد أيام قليلة فقط من خطاب غاضب، هاجم فيه إردوغان رئيس البرلمان الأوروبي، مارتن شولز، ودعا إلى عقد شعبي حول عملية الانضمام للاتحاد الأوروبي، المستمرة، بلا أفق واضح، منذ عقود.

ثمة توتر متصاعد في علاقات تركيا بالاتحاد الأوروبي، أصبح أكثر حدة منذ فشل المحاولة الانقلابية في منتصف يوليو/ تموز الماضي. تقدمت تركيا بطلب الالتحاق بالسوق الأوروبية المشتركة (المنظمة الأم للاتحاد الأوروبي) في ستينات القرن الماضي. في 1999، صدق الاتحاد على الطلب التركي، إلا أن عملية التفاوض حول العضوية لم تنطلق إلا في 2005.

وبالرغم من أن عدداً من فصول التفاوض قد فتح بالفعل، فإن العملية تحبو بصورة بطيئة. وبالنظر إلى أن دولاً، في هذه الأثناء، في وسط وشرق أوروبا، أقل تقدماً على المستوى الاتقصادي، وأقل دمقرطة، وأضعف مؤسسات، قد اكتسبت حق العضوية، فالواضح أن أوروبا لا تريد منح تركيا الحق نفسه. الحقيقة، أن الموقف الأوروبي من تركيا لا يحتاج كبير ذكاء لاكتشافه. قبل سنوات قليلة، لم يخف الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي مشاعره، عندما قال إن أوروبا لن تقبل انضمام دولة من سبعين مليوناً من المسلمين. أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فتعتبر أن السياسة الأوروبية الأفضل تجاه تركيا هي سياسة «لا عضوية ولا قطع للتفاوض حول الانضمام». بمعنى، إطالة العملية التفاوضية إلى أمد لا نهاية له، والمحافظة على ارتباط تركيا الدائم بالاتحاد، في الوقت نفسه. «تركيا من الأهمية بمكان بحيث لا يجب قطع صلات أوروبا بها،» قالت ميركل.

اليوم، لا تخفي أنقرة غضبها من غياب التضامن الأوروبي الجاد مع الشعب التركي، عندما تعرضت البلاد لمحاولة انقلابية سافرة ووحشية من قبل تنظيم سري داخل الدولة والجيش، يقيم زعيمه في الولايات المتحدة، ويتجول عدد من أبرز قادته ومموليه في دول الاتحاد الأوروبي. ليس ذلك وحسب، بل أن أوروبا، التي كانت أعلنت حزب العمال الكردستاني تنظيماً إرهابياً، تغض النظر عن النشاطات التنظيمية، والإعلامية، والسياسية لكوادر التنظيم. «أوروبا تقوم بدور الراعية للإرهاب،» قال إردوغان قبل أسابيع قليلة. في المقابل، يندد البرلمان الأوروبي بعملية التطهير التي تتعهدها الحكومة التركية لمؤسسات الدولة من تنظيم غولن، المتهم بمحاولة يوليو/ تموز الانقلابية، ويهدد بتجميد طلب العضوية التركي في الاتحاد. طرح إردوغان فكرة عقد استفتاء شعبي حول مسألة العضوية، جاء، في الحقيقة، رداً على تهديد رئيس البرلمان الأوروبي تركيا بعقوبات اقتصادية إن لم تتوقف عن الإجراءات المتعلقة بعملية الكشف عن تنظيم غولن في مؤسسات الدولة ودوائر الإعلام، وما تراه أنقرة من تعامل أوروبي أبوي ومهين مع تركيا وشعبها.

يواكب هذا التوتر في علاقات تركيا بالاتحاد الأوروبي، مناخ أقرب إلى فقدان الثقة في العلاقات التركية ـ الأمريكية. ويمكن القول إن علاقات الدولتين لم تعرف لحظة أكثر سوءاً منذ رسالة جونسون الشهيرة في 1965، التي حذر فيها الرئيس الأمريكي أنقرة من التدخل في الصراع المحتدم، آنذاك، بين القبارصة اليونانيين والأتراك. في السادس من هذا الشهر، نوفمبر/ تشرين الثاني، قام الجنرال جو دانفورد، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة بزيارة أنقرة، وأجرى مباحثات مع نظيره التركي، الجنرال خلوصي آكار، في لقاء استمر ما يقارب الخمس ساعات. ما رشح من اللقاء أن الأمريكيين تعهدوا بأن لا تقوم قوات الحشد الشعبي بدخول مدينة تلعفر، ذات الأغلبية التركمانية، في شمال العراق، بعد تحريرها من تنظيم «الدولة» (داعش)، وأن قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني (السوري، المعروف بأنه أحد أذرع حزب العمال الكردستاني) ستنسحب سريعاً من مدينة منبج السورية، شرق الفرات، وأن القوات الكردية ذاتها لن يسمح لها بدخول مدينة الرقة العربية في شمالي شرق سورية، التي لم تزل تقع تحت سيطرة «داعش»، وأن الدور الكردي في عملية تحرير الرقة سيقتصر على عزل المدينة وحسب.

تتراكم الخلافات الأمريكية ـ التركية حول سوريا والعراق بصورة متزايدة منذ أكثر من أربع سنوات، ولا تتعلق بالموقف الأمريكي من الثورة السورية، وحسب، بل والسياسة الأمريكية في العراق، حيث يغض الأمريكيون النظر عن طائفية حكومة بغداد وتجاهلها حقوق العراقيين العرب السنة، وعن الدور الكبير الذي باتت تلعبه تنظيمات الحشد الشعبي الطائفية في مناطق الأغلبية السنية. في لقاء دانفورد بنظيره التركي، بدا أن الولايات المتحدة لم تظهر حماسة كبيرة لعرض تركيا المشاركة في تحرير الرقة، المشروط باستبعاد قوات الديمقراطي الكردستاني عن العملية كلية. وعندما طلب الأتراك مساندة جوية أمريكية لعملية درع الفرات، حيث تتقدم وحدات من الجيش السوري الحر، مدعومة بقوات تركية، نحو مدينة الباب، في محاولة تحرير الشريط السوري الشمالي غرب الفرات من القوى الإرهابية، اعتذر الأمريكيون بأنهم لا يريدون استفزاز روسيا ونظام الأسد. خلال الأيام القليلة التالية، بدأت حتى تعهدات دانفورد المتواضعة في التبخر.

في شمال العراق، أفادت تقارير بأن ليس قوات الحشد الشعبي فقط من يتقدم نحو تلعفر، ولكن أيضاً الوحدات الكردية التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني (السوري)، التي تحتل سنجار منذ تحريرها من «داعش» في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015. وفي شمال سوريا، وبالرغم من إعلان الحزب الديمقراطي الكردستاني بدء إنسحاب وحداته من منبج وعودتها إلى شرق الفرات، أفادت تقارير بأن هذه الوحدات تتوجه، بدلاً من ذلك، نحو مدينة الباب، في محاولة لاستباق تقدم الجيش الحر باتجاه المدينة. ولأن هذه ليست المرة الأولى التي يتعهد فيها الأمريكيون بمغادرة وحدات الديمقراطي الكردستاني منبج، لم يعد من الممكن الحديث عن الكثير من الثقة المتبقية بين أنقرة وواشنطن.

الذين يقرأون العلاقات الأمريكية ـ التركية ببعض من حسن النية، يقولون إن السياسة الأمريكية في شمال العراق وسوريا تهدف إلى توريط تركيا في الحرب الدائرة في الدولتين الجارتين. أما من يحافظون على قدر صحي من سوء النية، فيرون أن سياسة إدارة أوباما، حتى في أيامها الأخيرة، تقوم على وجود قوى معادية لتركيا في الجانب العراقي والسوري من الحدود، تعمل على عزل تركيا كلية عن جوارها العربي.

ولدت الجمهورية التركية، كما هو معروف، من حرب استقلال باهظة التكاليف (1919 ـ 1922)، مثلت أول حركة تحرر وطني في القرن العشرين من السيطرة الغربية الأجنية. ولكن المفارقة أن من قادوا حرب الاستقلال، وأعلنوا الجمهورية على أنقاض السلطنة العثمانية، كانوا، أيضاً، معجبين بالغرب، ومؤمنين بأن تركيا الحديثة لن تتقدم بدون المضي على خطى الحضارة الغربية. وخلال ما يقارب المئة عام، حافظت تركيا الجمهورية على علاقات وثيقة ومؤسساتية بالولايات المتحدة ودول غرب أوروبا. هذه لحظة شكوك تركية غير مسبوقة في العلاقات مع الغرب الأطلسي، وستحتاج هذه العلاقات، ربما، إلى جهد أسطوري لإنقاذها من المزيد من التدهور.

٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى