صفحات الرأي

عن الإستبداد الذي أفسد أعمارنا وابتذل معانينا

 

ماجد كيالي

لم تهيمن النظم الإستبدادية على السياسة والمجتمع والإقتصاد والبلاد والعباد فقط، بل إنها هيمنت على المعاني أيضاً، فاحتلتها، وابتذلتها، وطبعتها بطابعها، وسخّرتها لتغطية عوراتها، وحجب تسلّطها، وإضفاء الشرعية عليها. هذا حصل مع قيم ومفاهيم وشعارات مثل: الوحدة والحرية والاشتراكية والتحرير والجماهير والمقاومة والعمّال والطبقات الكادحة والإصلاح الزراعي والتأميم والانتخابات والثورة والتقدم.

لنلاحظ أن هذه النظم لم تشتغل على الوحدة العربية بل إنها اشتغلت على عكس ذلك، أي على إشاعة الفتن والفرقة في الواقع العربي. هذا معنى سياسة كلّ ليبيا القذافي، الذي كان يضنّ على السودان، وينكّل بالعمّال العرب في ربوعه، والذي تحوّل بقدرة قادر من “الأمين” على “القومية العربية” إلى “ملك ملوك أفريقيا”. وهذا معنى عراق صدام الذي ظنّ أنه “بسمارك العرب” فاحتلّ الكويت ذات يوم أغبر. وهذا معنى سوريا الأسد، الأوّل والثاني، التي برعت في إثارة المشكلات، والتدخّلات، في محيطها من العراق إلى لبنان وفلسطين والأردن وصولاً إلى تركيا.

الأنكى أن هذه النظم توسّلت تفتيت مجتمعاتها، لتهميشها وإضعافها لتسهيل التحكّم بها، والتلاعب بتفاعلاتها وحِراكاتها، من خلال ترسيخ العصبيات والانتماءات ما قبل الوطنية، الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائريّة والمناطقيّة والفئويّة. ومعلوم أن وقائع الثورات كشفت أن أجهزة أمن مبارك هي التي كانت تثير الفتن بين المصريين، المسلمين والأقباط. وهذا حصل في الثورة السورية التي بيّنت هشاشة الإجماعات السورية، ومدى التخريب الذي أحدثه النظام في المجتمع السوري، الذي بدا بعد نصف قرن من حكم البعث، الذي يدّعي التقدّم والعلمانية والقومية، منقسماً على نفسه إلى طوائف ومذاهب وإثنيات وعشائر.

أما بالنسبة لقضايا التأميم والإصلاح الزراعي والطبقات الكادحة والاشتراكية فهي ابتذلت أيّما ابتذال بالتعسّف الكامن فيها، وبإفراغها من مضمونها في ظلّ نظام استبدادي، وبالتحوّل نحو انتهاج الليبرالية المتوحّشة، في إدارة العمليات الاقتصادية، ناهيك عن نهب الثروة، وتبديد الموارد، وإفقار المواطنين، وتكوين ثروات فاحشة، وتهريبها إلى خارج البلاد.

نأتي إلى مفهوم الحرية الذي بات وكأنه الأكثر مقتاً لدى الأنظمة الاستبدادية، التي لطالما بدت وكأنها في حرب شعواء مع هذا المفهوم فارضة على مواطنيها نوعاً من الحجر والانغلاق. والمشكلة أن هذا يحصل في نظم رسخّت سلطتها ليس على الدستور، أو الشرعية الانتخابية، أو علاقات الإقناع، وإنما بالقوّة والقسر، وسيادة علاقات الخوف والإخضاع والتهميش، مع عشرات من الأجهزة الأمنية التي تتحكّم بالدولة وتتغوّل على المجتمع. وهكذا، أيضاً، تمّ إحكام السيطرة على المدارس والجامعات ودور السينما ومراكز العبادة ووسائل الإعلام والثقافة، وحتى الرياضة؛ وفي سوريا مثلاً تمّت السيطرة حتى على مراكز تحفيظ القرآن!

يبقى مفهوم المقاومة، فهذه بقيت بمثابة اللعبة الرابحة التي يمكن من خلالها صيد عدّة عصافير بضربة واحدة، من قبل الأنظمة الاستبدادية والأطراف المتحالفة معها. فالمقاومة، من وجهة نظر هذه الأنظمة، تضفي شرعية عليها، وتغطّي على ممارساتها السلطوية، مهما كانت، وتبرّر مصادرة حرّيات المواطنين، ونهب ثرواتهم، وإسكات مطالبهم المتعلّقة بالديمقراطية وتحسين الشروط الحياتية. فبحجة المقاومة يمكن تبرير كل شيء، بما في ذلك تكبيل الشعب، وتهميشه، وربما قتله، وهذا ما يحصل في سوريا. ولا أدلّ على ذلك من خطابات الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، الذي يطيب له تطويب سوريا لعائلة الأسد، كأنها ملك وراثي لهذه العائلة، والذي ينكر حتى حقّ السوريين بالتغيير بدعوى حماية المقاومة. المدهش أن كل ذلك يجري والنظام المعني لا يمارس شيئاً من المقاومة منذ أربعين عاماً، رغم أن لديه أراض محتلة.

قصارى القول لم يبق شيء لم يقتله أو لم يفسده أو لم يبتذله الاستبداد.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى