صفحات مميزة

عن الاحتلال الروسي لسورية –مقالات مختارة-

روسيا في سورية: قوة كولونيالية عنصرية/ ياسين الحاج صالح

في تقرير صدر مؤخراً لـ «أمنستي إنترناشونال» (منظمة العفو الدولية) حول ترحيل روسيا سوريين، ورفض طلبهم اللجوء، نسبت المنظمة إلى دائرة الهجرة الروسية القول: «لا يوجد قتال في مدينة حلب، فقط الأكراد والأرمن والشركس وحدهم من في حاجة إلى الحماية».

ليس قلب الواقع رأساً على عقب هو وحده ما يميز هذا التصريح (حلب كانت بؤرة القتال وقت صدور تقرير أمنستي، وعرب مسلمون سنيون هم، أولاً وأساساً، المستهدفون نسقياً، ومن يحتاجون إلى حماية في حلب، وفي سورية ككل)، بل ما يبطنه من وعي حاد بتمايزات السوريين الإثنية والمذهبية، ومن انحياز فظ إلى بعضهم ضد بعض. مسلك روسيا خلال أكثر من خمسة أشهر من حربها في سورية يعطي ما يكفي من انطباع بأنها في واقع الأمر تحارب السنيين السوريين.

وسبق لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن صرح لإذاعة «كوميرسانت اف أم» الروسية في آذار (مارس) 2012 بأن: «الصراع يدور في المنطقة كلها، وإذا سقط النظام الحالي في سورية، فستنبثق رغبة قوية وتُمارس ضغوط هائلة من جانب بعض بلدان المنطقة من أجل إقامة نظام سنِّي في سورية، ولا يراودني أي شك بهذا الصدد. ويقلقنا في هذا الوضع مصير المسيحيين، وهناك أقليات أخرى كالأكراد والعلويين وكذلك الدروز».

الوزير الروسي يقرن ما يسميه «نظاماً سنياً في سورية» والقلق على «مصير المسيحيين»، قبل أن يذكّر بـ «أقليات أخرى». لا يقول أن بلده لا يريد نظاماً طائفياً في سورية، أو أنه يعمل من أجل المساواة بين السوريين بصرف النظر عن منابتهم الدينية والإثنية. ما يقوله موجه ضد السنيين السوريين، ويتوافق بدوره مع سياسة روسيا في سورية منذ بداية الثورة قبل خمس سنوات إلى اليوم.

ما يصدم في التصريحات الروسية ليس طابعها التقسيمي المميز للخطابات الكولونيالية في كل وقت، ولكنْ فجورها في الجهر بكراهية أكثرية السوريين الدينية، وعطفها المزعوم على أقليات البلد. ما الأصل في هذا المسلك العدواني المسعور؟

يمكن التفكير بعدد من العناصر. أولها علاقة حساسة ومتوترة بين المسلمين في روسيا، ومعظمهم سنيون، والسلطة الروسية التي تشك في ولائهم لها. ولا يغيب عن ذاكرة نخبة الحكم الروسية، أنه كان للجهاديين السنيين الدور المباشر الأكبر في إلحاق الهزيمة بالاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وبصورة ما في تفكك الامبراطورية التي كان فلاديمير بوتين عنصراً في مخابراتها قبل ربع قرن. وفي أوقات سابقة، كانت اللينينية الروسية توجهاً تحديثياً نحو أوروبا، ينظر إلى آسيا، وضمناً المسلمين، كشيء متخلف وإقطاعي، وفق مألوف الأيديولوجيا التحديثية في كل مكان، بما في ذلك في بلداننا نفسها.

في المقام الثاني من المرجح أن غير قليل من المعلومات عن «النظام السني»، وعن حصر الحاجة بـ «الحماية» في «الأقليات»، وكذلك المنظور السياسي المتكون حول هذه «المعلومات»، مصدره سلطة الانتداب الأسدي التي تعمل موسكو على تمديد ولايتها في سورية. مسؤولو الدولة الباطنة في سورية الأسد، أعني المركّب السياسي الأمني المالي المسيطر، شديدو الوعي بهذه الوقائع، وتحالفاتهم العسكرية في مواجهة الثورة منذ البداية تظهر مركزية هذا الوعي. ومن المحتمل جداً أنهم يشاركون نظام بوتين في معلوماتهم، مع علمهم بأن ذلك النظام ليس أقل منهم سعاراً في مواجهة أي مسلم يحاول لعب دور سياسي مستقل.

وهناك في المقام الثالث تشكل النظام الدولي الحالي حول «الحرب ضد الإرهاب»، وهو ما يضع المسلمين عملياً في موقع المشبوهين العالميين، المحتاجين إلى تبرئة أنفسهم، الأمر الذي إن لم يشجع معاملتهم بقسوة، فإنه يثير أقل المقاومات في وجه معاملة كهذه.

هذا البعد الديني – السياسي – الأمني للنظام الدولي لا يمكن إغفاله أو التقليل من شأن ما يترتب عليه من عواقب تزداد خطورة. المسلمون اليوم، والسنيون منهم بصورة خاصة، هم الشريحة الثقافية المعرضة للتمييز، ولعدم الاعتراض على ما ينالها من تمييز في فضاءات دولية كثيرة – كل الغرب وروسيا والصين وبلدان عديدة في العالم، بما فيها «الدول الإسلامية». هناك أشياء غير مرئية لعموم المهتمين، وليس لعموم الناس فقط، منها القوائم التي تعممها الشرطة الأوروبية والانتربول الدولي، وهذه القوائم مكونة بصورة شبه حصرية من مسلمين، وكثيرون منهم يحجزون في المطارات أو يقضون أوقاتاً متطاولة في «نظارات» ترحيل، وهذا حتى في بلدان مثل تركيا. وعلى هذا المستوى هناك تنسيق مؤكد بين الأجهزة الأسدية في سورية والانتربول مثلاً، ولا ريب أن التنسيق أعلى بكثير مع المخابرات الروسية.

السجين السياسي العالمي اليوم مسلم بصور أساسية، وسني. وليس لكلمة إرهابي أن تنفي هذا الوضع، بل هي مصممة لحجبه وتبريره في آن. هؤلاء سجناء سياسيون حتى حين يكون صحيحاً أنهم مرتبطون بـ «القاعدة». هذا الوضع الشاذ وغير العادل ليس بسبب «داعش» و «القاعدة»، هذا هو ما ينتج «داعش» و «القاعدة». وبالمناسبة، هذه السجون فرصة لـ «تَقعُّد» أو «تدعُّش» بعض من ليسوا كذلك أصلاً.

وما يميز روسيا من فظاظة ضمن هذا الإطار يتصل بحقيقة أن البلد، وبلدان أوروبا الشرقية كلها في ما يبدو، لم تعرف نقاشاً حول العنصرية وحول الاستعمار، استعمارها الخاص. ليس التعالي الكولونيالي خافت الصوت في الغرب، ولا العنصرية المتعددة الشكل، مع غلبة الشكل الثقافي الديني المعادي للمسلمين اليوم، لكن في الغرب أيضاً ظهرت مقاومات ضد العنصرية واعتراضات ضد الكولونيالية لم تشهد أوروبا الشرقية، ولم تشهد مجتمعاتنا العربية وثقافتنا ما يناظرها. ويبدو أن هذه المقاومات في أدنى مستوياتها اليوم في الغرب ذاته، بفعل تشكل نظام دولي يجمع استقطابات الثروة والقوة و «الحضارة»، ومن دون أن تتشكل في وجهه حركات تحررية جديدة، ومع تدني الكمون الديموقراطي في العالم ككل.

موقع المسلمين المتمرد و «الإرهابي» في هذا النظام ليس عريضاً، ولا هو متصل حصراً بمشكلات تخص دين المسلمين؛ إنه وثيق الصلة بتكوين النظام «االحضاري». العنصرية تنبع من بنية النظام وليست عارضاً أصابه من خارجه.

روسيا هي «وجه المقابحة» في هذا العالم، بلد جمع بين الامبراطورية والامبريالية الداخلية (الشمولية) و «الرسالة الخالدة» بشكليها الأرثوذكسي والشيوعي، ولم ينظر في ماضيه يوماً بجد. هذا البلد هو اليوم قوة استعمار عنصرية في سورية، يُمنح انتداباً دولياً على سورية بعدما لم يعد الانتداب الأسدي قادراً على تأبيد نفسه.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

التلاعب الروسي بالمفاوضات/ علي العبدالله

ما ان صدر القرار الدولي رقم 2254 حتى بدأت روسيا بالعمل على اخراجه عن اهدافه، مكررة ما فعلته مع بيان جنيف1، باضافات وتفسيرات وتجاهل بنود وطلبات في محاولة لادخاله في سياق يستجيب لتصورها بشكل كامل او تعرقل تنفيذ بنوده.

وقد كانت أولى مماحكاتها رفضها تشكيلة الوفد المفاوض الذي انبثق عن اجتماع الرياض، ومطالبتها بضم شخصيات بعينها ممن شاركوا في برنامجها لتفيت المعارضة والتشكيك بتمثيلها وصدقيتها، ورفضها طلب الهيئة العليا للمفاوضات تطبيق البندين 12 و 13 من القرار(الأول يدعو الأطراف إلى أن تتيح فورا، لاحظ فورا، للوكالات الإنسانية إمكانية الوصول السريع والمأمون وغير المعرقل إلى جميع أنحاء سوريا ومن خلال أقصر الطرق، وأن تسمح فورا، فورا مرة أخرى، بوصول المساعدات الإنسانية إلى جميع من هم في حاجة إليها، لا سيما في جميع المناطق المحاصرة والتي يصعب الوصول إليها، والإفراج عن أي محتجزين تعسفيا، لا سيما النساء والأطفال، ويدعو دول الفريق الدولي لدعم سوريا إلى استخدام نفوذها على الفور، الفور مرة ثالثة، تحقيقا لهذه الغايات. بينما دعا الثاني الى توقف جميع الأطراف فورا، فورا أخرى، أي هجمات موجهة ضد المدنيين والأهداف المدنية في حد ذاتها، بما في ذلك الهجمات ضد المرافق الطبية والعاملين في المجال الطبي، وأي استخدام عشوائي للأسلحة، بما في ذلك من خلال القصف المدفعي والقصف الجوي، ويرحب بالتزام الفريق الدولي لدعم سوريا بالضغط على الأطراف في هذا الصدد، ويطالب كذلك بأن تتقيد جميع الأطراف فورا، فورا مرة أخرى، بالتزاماتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، حسب الاقتضاء) باعتبارهما بندين ليسا للتفاوض ومن اجل بناء ثقة بين المتفاوضين، اعتبرت الطلب شرطا مسبقا وان لا شروط مسبقة، مع انه ليس شرطا مسبقا بل جزءا من القرار ومطلوب تنفيذهما فورا، فورا تكررت في البندين خمس مرات، اللافت ان واشنطن قد ايدت الموقف الروسي، وذهبت بعيدا في تمييع محددات القرار الدولي ومندرجاته عبر اضافة كلمات من خارج القرار تبرر قصفها للفصائل العسكرية المعارضة، فالمسؤولون الروس في حديثهم عن المنظمات الارهابية يضيفون الى “داعش” و “النصرة”، اللذين حددتهما الامم المتحدة كتنظيمين ارهابيين، عبارة و “تنظيمات ارهابية أخرى” دون تحديدها ليبقى المجال مفتوحا امام قواتها تستخدمه حسب الحاجة، ولرفض النقد الموجه اليها بسبب ذلك، وصف نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف اتهامها بانتهاك وقف إطلاق النار بالقول: “إنها ادعاءات لا أساس لها من الصحة٬ وتأتي ضمن حرب إعلامية تشنها تلك القوى التي لا مصلحة لها بالعملية السياسية”، وقد زاد وزير الخارجية الروسي الطين بلة بإعلانه عدم وجود ارتباط بين وقف الأعمال العدائية والعملية السياسية، وكررت دون احساس بالحرج ان ما يتم في جنيف هو محادثات او مشاورات، وسعت لاستبعاد ما ورد في القرار حول تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات وركزت على ان هدف المحادثات تشكيل حكومة وحدة وطنية تمهيدا لتوحد النظام والمعارضة في مواجهة الارهاب، ووضعت ترتيبا لجدول اعمال جنيف3 يناسب موقفها حيث اعلن بوغدانوف: “هناك الآن أربعة محاور رئيسية هي الجانب الإنساني٬ ووقف إطلاق النار٬ والحرب ضد الإرهاب٬ والعملية السياسية”.

لم تقف محاولات روسيا للتحكم بايقاع تنفيذ القرار الدولي واثارة قضايا ومواقف خلافية تحقيقا لهدفها من العملية عند هذا الحد بل بدأت بفتح مسارات جانبية وحوّلت مطار حميميم، مقر قيادة القوات الروسية، الى مركز تفاوضي موازي لجنيف لإجراء اتصالات مع وجهاء من مدن وبلدات سورية للترويج لمصالحات محلية، قالت انها نجحت في عقد مصالحات في مناطق عديدة ورتبت لوقف الاعمال العدائية مع فصائل كثيرة (قال المركز الروسي في مطار حميميم لمراقبة وقف إطلاق النار في سوريا في تقريره اليومي(6/3/2016) أنه توصل إلى اتفاق مصالحة مع من قال: “إنهم قادة مجموعات مسلحة في ريف دمشق٬ تضم في صفوفها 550 مقاتلا”٬ وأن المصالحات التي تم التوصل إليها منذ إعلان وقف إطلاق النار بلغت حتى يوم أمس 35 اتفاقا”. أمر نفى رئيس وفد الهيئة العميد أسعد الزعبي علمه به ودعا موسكو الى اعلان اسماء هذه الفصائل المزعومة، دون ان ينسى التقرير اتهام حركة احرار الشام بخرق وقف الأعمال العدائية بقصفها بلدة الفوعة)، وعقد اجتماعات سياسية مع “معارضين” لمناقشة الحل السياسي وطرح تصورات بديلة لطروحات الهيئة العليا للمفاوضات لاستخدامها للرد على تلك الطروحات في جنيف، قبل أن تتكرم على السوريين بتوجيه المفاوضات حول مستقبل سوريا باتجاه الفدرالية لارباك المشهد السياسي بخلط الاوراق والدفع نحو اصطفافات جديدة تحد من دور الهيئة العليا للمفاوضات عبر اثارة خلافات داخلها من جهة وارباكها باغراقها في خيار لم تكن تتصور مناقشته من جهة ثانية.

كل هذا يمكن تفهّمه في ضوء الموقف الروسي وخياراته السياسية والعسكرية في الساحة السورية لكن ما لا يمكن تفهمه او تقبله ذلك التأييد الذي يقدمه جون كيري للمواقف الروسية بدءا من تجاهله لخرق وقف الأعمال العدائية من قبل روسيا والنظام، وقوله: “انه لن يناقش الخروقات”، الى اصراره على استئناف المفاوضات دون اخذ المطالب التي طرحتها الهيئة العليا للمفاوضات في الاعتبار، الا اذا قبلنا ما طرحه المحلل السياسي الاميركي اندرو جيه. تابلر بقوله:”ان واشنطن لا تريد وقف الحرب في سوريا بل تركها تغلي على نار هادئة”.

المدن

 

 

 

 

الفيديرالية: خطة روسيا لتقسيم سورية/ غازي دحمان

كشفت روسيا، على لسان نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف، عن الخيار الذي تفضّله، هي والحلف الذي تقوده، بالنسبة إلى الحل في سورية، وهو الجمهورية الفيديرالية. وبدا هذا الطرح بمثابة توجيه صريح للمفاوضات التي يفترض أن تنطلق في جنيف، ما يعني إلغاء كل بنود التفاوض السابقة بما يتماشى مع الطرح الجديد المبني على معطيات واقعية تعتقد روسيا بأنها أرستها في حملتها العسكرية.

سبقت هذا الكشف الروسي دعوة هيئة التنسيق (المعارضة الداخلية) إلى «التركيز على بدء المفاوضات المقبلة على الدستور الجديد لا على هيئة الحكم الانتقالية لأن الدستور يضمن الانتقال إلى نظام سياسي ديموقراطي». لكن الواضح أن الهدف هو القول إن تحديد شكل الدولة المقبل في سورية بات العنصر الأهم لأي عملية سياسية، وتصادف هذا الأمر أيضاً مع نشر موقع «روسيا بيوند هيدلاينز» المقرّب من الكرملين لمقال تحليلي لفلاديمير ميخيف بعنوان «سورية: الفدرلة أو البلقنة»، يقول كاتبه أنه «نظراً إلى إرث الثأر الدموي فإن خيار الدولة السورية الموحدة قد فات أوانه»، ويخلص إلى أن» المستقبل السياسي والعسكري في سورية يمكن أن يتأرجح في أي من الاتجاهين: الفدرلة أو البلقنة».

وبذلك يثبت يوماً بعد يوم أن كل مراحل الأزمة السورية كانت تدار بتفكير وتخطيط عميقين، وأن هناك تحالفاً ضم نظام الأسد وروسيا وإيران تولى منذ اللحظة الأولى للثورة، إدارة كل الأحداث التي شهدتها سورية، ففي حين تكفّل نظام الأسد بإفراغ الثورة من محتواها المدني وأسلمتها، كانت إيران وأذرعها تسرّع في عمليات التفريغ الديموغرافي على نطاق واسع ضمن قوس يمتد من حدود درعا جنوباً حتى حمص غرباً، ثم جاء التدخل الروسي ليرسم خطوط التماس في شكل واضح، ليس بين المقاتلين، بل بين المكونات السورية ذاتها، من أجل تسهيل اندراج التصور السياسي للحل وإدماجه مع واقع ديموغرافي وجغرافي منجز.

ليس من الصعب معرفة الأهداف الروسية من وراء طرح الفيديرالية، فالطرح لم يلد فجأة بل هو نتيجة سياق جرى بناؤه على مراحل، وتمّ تجهيز البنية المناسبة لتشغيله، أما أهدافه المباشرة فيمكن حصرها في ثلاثة أهداف تبدو متناسقة مع طموحات روسيا الجيوسياسية ومصالحها على المدى البعيد وتتمثل بـ : إلغاء تأثير الأكثرية السنية لأنها سترفض الوجود الروسي في المنطقة، ضمان استمرار وجودها في البحر المتوسط بطلب من الإقليم «العلوي» الذي سيبقى في حالة خوف وصراع مع الإقليم «السني»، وضمان حصول الأكراد على إقليم على طول الحدود مع تركيا وهذا له فائدتان: قطع أي اتصال عربي – تركي، ومنع إمكانية مد خطوط الغاز العربية إلى أوروبا عبر الأراضي السورية.

ولكن ما هي حدود أقاليم الفيديرالية؟ حتى اللحظة تنحصر مكونات الفيديرالية بثلاثة أقاليم، علوي، كردي، سني. يمتد الإقليم العلوي من حلب حتى درعا، والحدود هنا تتطابق مع سيطرة نظام الأسد وحلفائه على مساحة تشكل حوالى ثلث سورية ولكنها تضم الكثافة السكانية الأكبر وحجم الموارد الأهم، أما الإقليم الكردي فيمتد على طول الحدود السورية التركية، في حين ان الإقليم السني المقصود هو المساحة التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» بين الإقليمين العلوي والكردي، وتستطيع روسيا الإدعاء بأن هذا الإقليم لديه موارد نفطية ومائية وأراض زراعية كافية، كما أنه يرتبط برياً بالعراق والأردن.

تدرك روسيا أن مشروعها سيتم رفضه من قبل الكثير من اللاعبين المحليين والإقليميين وحتى الدوليين، وتعلم أيضاً أن الفيديراليات لا تنجح في المشرق وهي ليست سوى التعبير المخفّف للانتقال إلى التقسيم والدويلات، لكنها تزرعه في سياق الأزمة وتعمل على تثميره لتحويله كخيار وحيد قابل للتطبيق في سورية. فوجودها العسكري يتيح لها مروحة واسعة من الخيارات التي ستجعل من الفيديرالية الحل الأكثر قبولاً من كل الأطراف، وستراهن على تعب جميع اللاعبين وخضوعهم لرؤيتها. على ذلك فإن المرحلة التي ستعقب انهيار الهدنة أو توقف مفاعيلها ستكون أكثر مراحل الأزمة السورية دموية ودماراً بما يتناسب مع تطويع جميع الأطراف للقبول بالفكرة.

الهدنة ذاتها لم تكن خارج صناعة السياق، فالتشبيك مع أميركا كان هدفه إبعاد تأثير اللاعبين المحليين وإلغاء إمكانية بناء إجراءات تدخل سعودية – تركية تؤثر في السياق الذي تعمل روسيا على صناعته، وذلك في سبيل تكريس الوقائع التي صنعتها بعد أن تركزت جهود حملتها العسكرية على تظهير الإقليمين العلوي والكردي وإضعاف الإقليم السني إلى أبعد حد ومحاصرته باتجاه العراق والأردن.

دور إيران وحصتها حاضران في قلب هذه الفيديرالية، وكانت قد مهّدت لها بخطتها ذات الأربع نقاط والتي اقترحت فيها تعديل الدستور بحيث يتضمن مادة عن حقوق الأقليات، كما أن غالبية استثمارتها ومصالحها تقع في إطار منطقة دمشق، وجسرها الأرضي باتجاه العراق مضمون عبر ريف دمشق الشرقي.

التطبيقات العملانية لهذه الفيديرالية ستكون عبر آلية إخراج الفصائل المقاتلة من المنطقة الخضراء التي رسمتها خطوط الهدنة الروسية صوب مناطق «داعش»، أو الإقليم السني المفترض، وكذلك من خلال تبادلات أرضية هنا وهناك احتاطت لها روسيا من خلال زيادة رقعة سيطرة قوات حلفائها على الأرض.

كان واضحاً أن الحملة الروسية التي استمرت خمسة أشهر كانت ترسم بعواصف نيرانها خطوط الحل السياسي، من الشمال إلى الجنوب، كما أن المعركة الديبلوماسية التي قادتها بشراسة كانت مبرمجة على مقاس هذا الحل، وبخاصة عبر إصرارها على إلغاء حصرية تمثيل المعارضة بمؤتمر الرياض، ومحاولتها بشتى الطرق تضمين قرار مجلس الأمن الأخير عبارة الحفاظ على استقلال سورية وسيادتها بما يضمن عدم تدخل أطراف إقليمية وعربية تؤثر في هندستها للوضع السوري.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

 

التنسيق الروسي الأميركي… الخريطة الإقليمية تتغير/ عمار ديوب

يَحكم فلاديمير بوتين روسيا، بعقلية المخابرات السوفييتية الهمجية، ويريد استعادة أمجاد روسيا السوفييتية والقيصرية معاً. ولتحقيق أمانيه هذه، لا بد من التمدّد لمنطقتنا. المشكلة أن مسعاه المافياوي هذا توافق مع اندلاع الثورات العربية، وانسحابٍ أميركي من منطقتنا، بدءاً بأبخازيا، وأوكرانيا وقضم القرم، إلى سورية أخيراً. كان الانسحاب الأميركي بغرض مواجهة الصين، العملاق المتقدم اقتصادياً، والذي يفرض شروطه في المحيط الهادي وعالمياً، ومن أجل مواجهته، بنيت إستراتيجية الانسحاب.

 

رؤية المعارضة السورية

لم تفهم المعارضة السورية الاستراتيجية الأميركية، وبنت مواقفها بداية من أميركا، وكأن جورج بوش الابن ما زال يحكمها، ويستعد لاستغلال الفرص ليتدخل في سورية، كما حدث في العراق وأفغانستان. دفعها هذا الفهم إلى تقديم ذاتها ورؤيتها ومواقفها، انطلاقاً من الموقف الأميركي ضد النظام وروسيا. ولكن، ليس الموقف نفسه كما أوضحناه، بل الموقف المتوهم عن استمرار الإستراتيجية الأميركية. ومن هنا، رفعت شعارات لأيام الجمع السورية عام 2011 الحماية الدولية والحظر الجوي والتدخل العسكري، وكان لهذا التفكير أسوأ النتائج على تطورات الثورة، وتغييب أي برنامج وطني وثوري للملايين الثائرة!

تعمل الإستراتيجية الأميركية على تحييد روسيا أو إيران، إن لم نقل كسبهما في معركتها ضد التنين الصيني، وهذا ربما يفسر “الضعف” الأميركي. الإشكال الأكبر أن المعارضة لم تنتبه لذلك، وكذلك دول عربية “داعمة” لها، وبالتالي، تحاول عقد صفقات مع روسيا لإجبار أميركا على التفكير مجدداً بإعادة العلاقة القديمة “الحميمة” إلى الإطار نفسه. هذا تفكير خاطئ استراتيجياً، للدول العربية وللمعارضات العربية.

اعتمد الحكم في سورية على الروس في إفشال كل القرارات الدولية المندّدة بالنظام، لكنها لم تكن ملزمة للدول العظمى، بفرض أية ضغوط عليه، فبقي ممثلوه موجودين في الهيئات الدولية، ومندّدين بالثورة، باعتبارها قوى إرهابية ومدعومة من دول الخليج. تصطف أوروبا الضعيفة خلف الموقف الأميركي، وباعتبار الأخير إستراتيجيته الانسحاب، فإن تلك المواقف المؤيدة حق السوريين بنظام جديد، كانت أقرب إلى المواقف الأخلاقية منها للمواقف السياسية، ولم تتلق المعارضة دعماً حقيقياً من تلك الدول. وهنا، ارتكبت المعارضة خطأ إضافياً، ويتمثل في تجاهلها دور النقابات والأحزاب اليسارية في أوروبا، ولم تنشأ شبكة علاقات سياسية، لتوضيح أهداف الثورة، وبقيت علاقاتها مع حكومات أوروبا الضعيفة. تلقى النظام دعماً إيرانياً مستداماً ولاحقاً من حزب الله، ومن ثم من مليشيات شيعية طائفية من بلادٍ عديدة، وأخيراً وبعده، فشل كل هذه القوى، تدخلت روسيا، وتمّ الأمر وفق اتفاقيةٍ عُقدت مع النظام السوري، توضح بنودها أن سورية أصبحت محتلة من روسيا؛ هذا الأمر لم تندد به أميركا ولا أوروبا. إذاً هناك تنسيق روسي أميركي كبير، وله أهداف متعددة للدولتين، لكنه بالتأكيد على حساب مصالح السوريين. اتضح التوافق من خلال الضغط الأميركي المستمر على الدول الداعمة، ومنعها من تقديم

“لا بد من إستراتيجية جديدة للمنطقة، تنطلق من دعمٍ كامل للشعوب العربية الثائرة ضد النظام القديم في اليمن وسورية وليبيا والعراق” السلاح النوعي بصفة خاصة، وهو، بكل الأحوال، ما أربك هذه الدول، لكنها وبدلاً من قراءة دقيقة للموقف الأميركي، راحت تدعم قوىً ليست ممثلة للثورة، ولا تعترف بها أصلاً. الموقف السليم أنه كان يجب دعم القوى الممثلة للثورة، وتهميش كل قوى لا تتوافق مع أهداف الثورة. المهم، هنا، أن تلك الدول لم تتبن رؤية استراتيجية مختلفة، وهذا ما يجب العمل عليه راهناً. الأميركان داعمون لروسيا ولإيران ولإسرائيل، ويقع على بقية الدول العربية، والمعارضات العربية، التفكير بإستراتيجية جديدة، وما حصل من تدخل في اليمن، أو تشكيل تحالف إسلامي، أو نيّة التدخل في سورية؛ كلها عناصر صحيحة، ولكن شريطة ألا تعتمد على الدعم الأميركي، كما تقول المصادر الخليجية، وهذا ما سيربكها مجدّداً، ويوظفها في سياق الإستراتيجية الجديدة، أي لصالح إيران إقليمياً وروسيا عالمياً.

ربما كان لدى المعارضة السورية والدول الإقليمية الداعمة لها، رؤية تنطلق من دعم الولايات المتحدة ما سمي القاعدة في أفغانستان ضد الاحتلال الروسي لذلك البلد، وبما يؤدي إلى إنهاكه، واستبدال الاحتلال بالأميركي، أقول ربما. مشكلة تلك الرؤية أنها تتجاهل الموقف الأميركي الجديد، والمعلن بالحرب على الإرهاب، واعتبار كل قوى إسلامية، ولا سيما داعش أو تنظيم القاعدة أو فروعه إرهابية. طبعاً، يمكن الاستثمار بهذه القوى مجدّداً، لكن ذلك يتم عبر الدوائر الاستخباراتية. هنا، لن نذهب بالبحث إلى أنه ليس من مصلحة الإمبرياليات، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، دعم ثورات شعبية. وبالتأكيد، لن تتسامح مع جبهة النصرة التي تجاهر بانتمائها للقاعدة، وبرفض كل المناشدات لفك علاقتها بها، والانتماء إلى الثورة السورية. وفي كل الأحوال، تقول تطورات الوضع الأخيرة إن التنسيق الأميركي الروسي، والمفاوضات ستفضي حتماً إلى اعتبار جبهة النصرة و”داعش” تنظيمين إرهابيين، كما نص قرار مجلس الأمن الدولي 2254 ، وسيكونان في مرمى النيران، حالما يبدأ إيقاف إطلاق النار فعلياً. قبل ذلك، سيبقى الطيران الروسي يقصف مواقع المعارضة والجيش الحر بشكل رئيسي، وبما يقوّي مواقع داعش والنصرة وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، وطبعاً مواقع النظام. وهو الهدف الأساسي من الاحتلال الروسي.

لم تراجع المعارضة السورية سياساتها أبداً، وما زالت الدول الإقليمية مربكةً في مواقفها تجاه ما يحدث في كل دول الإقليم. الثورة هي من أنقذ المعارضة، فتوسعها وإنهاكها النظام هو سبب قوتها، أي أن استمراريتها أعطت للمعارضة وللدول الجرأة وإمكانية الدفاع عن رؤيتها ودورها الإقليمي في وجه الضغوط الروسية والأميركية. شكل ضعف النظام مشكلةً كبيرةً للحلف الداعم له، فالحلف نفسه فشل، وهنا تدخلت روسيا عسكرياً، وما زالت تنقل أسلحةً جديدة إلى سورية، وعقدت صفقة مع النظام يتم بموجبها إعطاء هيمنة مطلقة للروس على سورية.

 

الاحتلال الروسي

بعد التدخل الروسي في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، تمّ إيقاف كل أشكال المساعدة للكتائب

“هناك تنسيق روسي أميركي كبير، وله أهداف متعددة للدولتين، لكنه بالتأكيد على حساب مصالح السوريين” المعارضة للنظام، وكأن هناك توافقاً روسياً أميركياً على حلٍّ سياسيّ، حالما تنتهي روسيا من تلك الكتائب. وطرحت روسيا، بالتزامن مع التدخل، مبادرة فيينا، وأُلحقت بقرار دولي، ومن ثم في جنيف 3، وبدا وكأن الحل السياسي صار حادثاً لا محالة؛ لكن روسيا عطلت ذلك كله بحجج واهنة، كعدم تمثيل وفد المعارضة للمعارضة، أو عدم التوافق على تصنيف القوى الإرهابية، واعتبارها كل القوى المعادية للنظام إرهابية، ورفضت تطبيق إجراءات الثقة المتعلقة بفك الحصار وإيصال المساعدات وإطلاق سراح المعتقلين، وإيقاف إطلاق النار العشوائي؛ وبالتالي، نسفت أي تطور حقيقي للحل السياسي، ما لم يتوافق مع رؤيتها؛ وافقت أميركا روسيا في ذلك، والدول الإقليمية أربكت كلية، وأكثر من ذلك، دعمت روسيا وأميركا قوات سورية الديمقراطية بقيادة صالح مسلم، ليتبين أن مشروع إعادة تأهيل النظام هو الأساس، وأن على المعارضة التخلص من أوهام الحكم الانتقالي، كما بيان جنيف الأول، والإذعان لحلٍّ سياسيّ، أقرب لما طرحته إيران قبل أكثر من عام، ويتلخص بحكومةٍ وطنيةٍ وبنود أخرى، وهذا يعني تصفية الثورة والتخلص منها على ضوء التدخل الروسي العنيف. إذاً روسيا خيارها الأساسي الحل العسكري، وليس السياسي.

اقتراب الثورة من عامها السادس، وتعدد أشكال التدخل الإقليمي والدولي وتصاعد الجهادية والاحتلال الروسي لسورية، يقول إن الولايات المتحدة حققت أهدافاً كبيرة، مثل تدمير سورية، وإنهاء “أسطورة” حزب الله، وإنهاك إيران، وإظهارها بعداء كامل مع العرب ومع تركيا، وتقارب مواقفها من إسرائيل، كون الأخيرة على صدام كامل مع العرب، واستطاعت توريط الروس بمعركة طويلة مع السوريين والمسلمين كذلك، وفصولها ستتوضح بالأشهر والسنوات المقبلة.

ستجبر روسيا التي ستتعرض إلى حرب عصابات طويلة في سورية، إن لم تستثمر التقدم إلى مواقعها الحالية في فرض مفاوضات على النظام والمعارضة، من أجل حل سياسي، أقول ستجبر على التفاوض لاحقاً، فخسارتها لن تتوقف، وكذلك لن تتمكّن قوات إيران وحزب الله وصالح مسلم من الصمود أمام انبعاث لاحق للثورة لاحقاً، وحرب عصابات بغياب دعم إقليمي واسع لها، سيكون الشكل الوحيد القادر على حرب استنزافٍ أمام التقدم الهمجي الجاري. ما ذكرناه بخصوص الموقف الأميركي، لا يلغي التنسيق مع الروس.

واقع الثورة المتأزم هو ما يسمح بتقارب كبير بين الروس والأميركان، ويضعف، في الوقت نفسه، دور الدول الإقليمية الداعمة لها؛ وعكس ذلك، كلما كانت الثورة تتقدم، فهي تفرض التفافاً إقليمياً حولها. تحاصر أميركا التقدم خدمة لروسيا، فهي لا تريد نصراً عسكرياً ضده، وكذلك لا حلاً سياسياً وفق جنيف كذلك؛ ففي ذلك تخلق أواصر علاقاتٍ قويةٍ مع روسيا. موضوع العقوبات على روسيا بخصوص أوكرانيا يقرأ من زاوية أخرى.

يتجلى هذا التأزم هذا بصفةٍ خاصةٍ في تعزيز مواقع الجهادية، وفي تحول الصراع إلى حرب كاملة، وبقيادة روسيا ضد الفصائل المناهضة للنظام، وفي رداءة مواقف المعارضة تجاه كل المناطق، وفي فقدان الحاضنة الشعبية للثورة، وتحوُّلها إلى خيار اللجوء (التهجير) أو خيار الترحيل إلى مناطق النظام!. وبالتالي، الثورة السورية لم تنتج قيادتها المطابقة لها، والمعارضة لم تفهم أهداف الثورة، ولم تواكب صيرورة تحولاتها، وتسلطت عليها. يشذ أداء الهيئة العليا للمفاوضات، بوضوح رؤيته، لجهة رفض كل تفاوض من النظام، قبل البدء بإجراءات الثقة، والمتعلقة بفك الحصار وإيصال المساعدات والإفراج عن المعتقلين، ولا سيما النساء والأطفال، والتأكيد المستمر على التفاوض، وفقاً لبيان جنيف، وليس فيينا فقط، أي التفاوض على كيفية البدء بتشكيل الحكم الانتقالي. أربك هذا الموقف للمعارضة التنسيق الأميركي الروسي، وهو ما دفع الروس إلى التصعيد الميداني الخطير في حلب، وتهديد الأميركان، وعلى لسان وزير الخارجية، بأن أشهراً مقبلة ستكون كارثية على الثورة السورية.

شكّل التدخل الروسي في نهاية سبتمبر/ أيلول 2015 بداية التراجع الكبير للكتائب المقاتلة

“دعمت روسيا وأميركا قوات سورية الديمقراطية بقيادة صالح مسلم، ليتبين أن مشروع إعادة تأهيل النظام هو الأساس، وأن على المعارضة التخلص من أوهام الحكم الانتقالي” للنظام، وكذلك توقفت كل أشكال الدعم لها، وهذا قاد إلى ضعفٍ كبير في تأثير الدول الإقليمية، ولا سيما تركيا والسعودية في الصراع الميداني، وسمح قبالة ذلك، لقوات النظام وصالح مسلم المتحالفة معه وللحرس الثوري الإيراني والمليشيات الطائفية التابعة لها ولحزب الله، بالتقدم في درعا وحلب وحمص وريف اللاذقية. عكس ذلك، يشكل الاستهتار الكامل بمصالح الدول الإقليمية ورقة ضاغطة للتحرّك، ولتبني استراتيجية مختلفة، وهي دعم الفصائل المقاتلة للنظام، ومن دون التوافق مع الأميركان. ستتفهم الولايات المتحدة الأميركية ذلك، وستحوله إلى ورقة إضافية ضد الروس لابتزازهم، لينحازوا معها وضد الصين، وكذلك التفكير في حل الموضوع السوري، والتفرغ لقضايا الصراع بين الدول الكبرى. تتفهم أميركا مصالح الدول الإقليمية، لكنها لا تعارض الموقف الروسي، ويمكن الاستنتاج، هنا، أن الصراعات الإقليمية ما دامت في حدودٍ معينةٍ، وبما لا يهدد المصالح الأميركية، فإنها واحدة من أفكار استراتيجية الانسحاب الأميركي، أي تتحول هذه البلاد إلى أسواق للسلاح، وتضعف أكثر فأكثر، وهو ما سيساعد على تعميق تبعيتها للولايات المتحدة، باعتبارها الدولة الأقوى اقتصادياً وعسكرياً.

الإعلانات المتكرّرة من تركيا والمملكة العربية السعودية عن رفض داعش والنظام سوية، يمكن أن تغيّر المشهد، وتوقف تمدد روسيا، وقوات صالح مسلم وداعش، إن أرسلت قواتٍ بريةً للإجهاز على داعش، ودعمت الفصائل، لإيقاف التمدّد المذكور. لن تعارض الولايات المتحدة ذلك، فمهما تعاظم الدعم، لن يغيّر من خريطة الوضع الميداني، وربما يسمح باستعادة بعض المناطق، لكنه سيكون عاملاً مهماً للعودة إلى المفاوضات، وبشكل جدي هذه المرة، فإيران وحزب الله ومليشيا صالح والمليشيات التابعة لإيران ليس في مقدورها المحافظة على التقدم الميداني، من دون الطيران الروسي المدمر لسيطرة الكتائب المناهضة للنظام.

إذاً لا بد من إستراتيجية جديدة للمنطقة، تنطلق من دعمٍ كامل للشعوب العربية الثائرة ضد النظام القديم في اليمن وسورية وليبيا والعراق، وإجراء إصلاحيات سياسية واسعة في كل الدول العربية، والنهوض بثورة صناعيةٍ ومعلوماتيةٍ كبيرةٍ، وفي كل الميادين، وفصل الأجهزة الأمنية والعسكرية عن قضايا السياسة الداخلية للدول. دولياً، استراتيجية الولايات المتحدة الانسحاب من منطقتنا، لكن روسيا لا يمكنها أن تكون بديلاً عنها، وبالتالي، يجب معاملة روسيا باعتبارها دولة محتلة لسورية، ورفض وجودها في المنطقة بالكامل، وإن حدوث مشكلات مع الولايات المتحدة نفسها سيكون متوقعاً، لكن إستراتيجية الانسحاب نفسها تفترض دوراً للدول الإقليمية والعربية منها، وهي ما عليها أن تشغله بسرعة، فالأحداث تتعاظم، وتغيّر في الخريطة الإقليمية بأكملها، وبالتالي، ستكون المشكلات هذه بمثابة عامل جديد لإعادة رسم السياسات الأميركية مع دول المنطقة. وبخصوص الأكراد، فهم جزء من المنطقة، ويفترض التوافق مع قياداتهم، وبما يُمكّنهم من الحصول إلى حقوقهم القومية.

العربي الجديد

 

 

 

القيصر وجَوْقَتُه/ أحمد بيضون

انتهينا، في مقالتنا الأخيرة، إلى السؤال عمّا تتمخّض عنه خطّة النظام الأسدي لما سمّيناه «هندسة العدوّ المناسب» حين يؤول الدور الأوّل في تنفــــيذ الخطـــّة إلى إيران، بما يلحق بها من تشكيلات تواليها في مختلف البيئات الشيعية، ثمّ إلى روسيا البوتينية…

لم تعتّم أن لاحت، وراءَ الحميّة الإيرانية في نجدة النظام الأسدي المتهالك، أخيلة يتعذّر اعتبارها أوهاماً لذاك الهلال الشيعي الذي بات مذّاك ذائع الصيت… ذاك هلال يسع إيران أن تتصرّف به محوّلة جماعات المشرق العربي الشيعية إلى محميّاتٍ لها تؤدي، طوعاً أو قسراً، أثمان حمايتها الاضطرارية في الخضمّ السنّي الشاسع، الذي أُكْسِبَت عداوتَه لألف سنةٍ مقبلة.

تنمو العداوة تحت أبصارنا من جرّاء استنفار وليّ النعمة الإيراني لتشكيلاتٍ تدين له بالولاء موزّعة ما بين لبنان والعراق وأفغانستان… وفي «هندسة العدوّ المناسب»، كانت «عسكرةُ الثورة» تحت ضغط العنف النظامي عاملاً أوّل أمدّته المؤازرة الشيعية للنظام بزيادة في شدّة الشحن المذهبي، الذي كان المسلك الطائفي للنظام يزكّيه أصلاً. فمن هذا ومن ذاك تغذّت تربةٌ للتشدّد، وللإرهاب في مساقه، بعد أن أُبعدت عن الساحات قوى الثورة ذاتُ المشرب المدني.

وراء ذلك كلّه أيضاً تتبدّى الحاجة إلى قُبّةٍ روسيّة فولاذية يحتمي تحتها الحُماة والمَحْميّون معاً بما يمليه ذلك من ثمنٍ أكبر يؤدّى للحامي الأكبر بدوره. وتُبيّنُ معاهدةُ الصيف الماضي «السريّة» التي نشرتها موسكو مؤخّراً ما يسع «القيصر» الروسيّ أن يفرضه على تابعه الأسدي من خضوعٍ يشي بانتعاشٍ ما لاستعمار القرن التاسع عشر بما هو تفاوتٌ بين موقعين، في الأقلّ. ولا يستغني النظام الإيراني عن هذه القبّة أيضاً بعد أن ثبَتَت لإيران فداحةُ ما يرتّبه الخيار النووي من كُلْفَة ألجَأَتْها إلى استبعاده. ولا تستغني إيران أيضاً عن حليف سياسي رئيس تستقوي به في الساحة الدولية التي تتّجه إلى استعادة موقعٍ فيها.

يصحّ هذا من غير استبعادٍ لسلوك «الشريك المُضارِب» في سورية أو في غيرها من جانب أحد الحليفين أو كليهما. فهذا السلوك من مألوف العلاقات بين الدول. ويبقى أهمّ ما في الأمر أن الغطاء الروسي إنما يراد به استعادةُ المجد القيصري وما يشبه كسبَ حروبٍ فائتة على «السلطنة» الإسلامية وعلى أوروبا… حروبٍ بلغَت أَوْجَاً قصير المدّة لعطائها في العهد السوفييتي، وهي لم تكن حقّقت سوى بعض أغراضها في قرونٍ مَضَت: في ماضٍ لا يريده القيصر الجديد أن يمضي.

هذه الهجمة البوتينية لا يعوزها مؤيدون أو مريدون في ديارنا يستخفّهم الطرب لمرأى «القبضاي» الروسي، يتولّى عنهم ما يخيّل إليهم أنه مواجهةٌ مع الإمبريالية الأمريكية (ومع إسرائيل أيضاً؟… بعد عمرٍ طويل)… لا يلتفت هؤلاء إلى حقائق العلاقات الروسية ـ الأمريكية في طورها الأخير، ولا يهمّهم أن يكون أوباما يجهد مع بوتين للتراضي على وضع يناسب خيارات الطرفين في سورية وغيرها… وضعٍ لا عيبَ فيه سوى أنه لا يناسب أي خيارٍ لشعبٍ من شعوب المنطقة يطمح إلى ما هو حقّه: أي إلى التصرّف المستقلّ ـ بما لا يعــــدو منطــــق العالم الحاضر ـ بمصيره وإلى استتباب الحرّيات والمساواة في الحقوق لمواطنيه وإلى النموّ لمقدّراته. لا يقيم لهذا كلّه وزناً أنصار البوتينية عندنا وهم، عادةً، من أدعياء الوقوف إلى اليسار.

هم لا يقيمون اعتباراً أيضاً لأفق يَعِدُ بالانتقال (الجزئي، بالضرورة) من هيمنةٍ إلى أخرى تدلّ السوابق على أنها لن تكون إلا أدهى وأمرّ. لا يستوقفهم أيضاً كون النظام السوفييتي الذي كانوا يستشعرون فيه مجانسةً ما لقيمهم المزعومة قد بادَ إلى غير رجعة واستقرّ في موضعه اتّحادٌ للمافيات يحالف اليمين الفاشي في أوروبا وينشر في روسيا الفقر ويجرّد الروس من حقوق اجتماعية كانت لهم ويموّه هذا كلّه ـ على جاري العادة ـ (وعلى الغرار الإيراني أيضاً) بسراب الأمجاد الإمبراطورية. من تحصيل الحاصل أن مواطنينا هؤلاء ـ وهم يضمّون إلى دعوى اليسارية دعوى الوطنية أو القومية ـ لا يريدون الانتباه إلى عمق المودّة التي تجمع ما بين الطاقمين الحاكمين في روسيا وإسرائيل.

أخيراً لا آخراً، لا يغادر هؤلاء «الإستراتيجيون» لحظةً منطقهم «الجغراسي» الذي تعتوره هذه المطاعن كلّها. لا يغادرونه ليسألوا عن الثمن الذي ارتضوه حتى الآن لمنازلة هي من بنات خيالهم، إلى حدّ بعيدٍ جدّاً. لا يسألون ـ وهذا هو الأدهى ـ عن بلادٍ انهارت وعن شعبٍ يقول «القيصر» أن طيرانه يوفّر بقصفه أكلافَ التدريب: عن مئات من الألوف قتلوا أو أصيبوا أو اعتقلوا وعن ملايين شرّدوا وعن عمرانٍ وطني دمّر بآلة الحرب «الوطنية» أوّلاً ومعها من اجتاحوا أرض سورية وسماءها من كلّ حدبٍ وصوب.

وذاك أن «البَشَر» كلمة لم يكد يبقى لها من معنىً عند البوتينيين المنتشرين بين ظهرانينا ولا من أثرٍ فيهم. هم يحصرون امتياز المعنى في الخرائط التي يسيئون قراءتها، في الأعمّ الأغلب، وفي أوصافٍ قليلة يطلقونها على القوى المتصارعة قلّما تصدق في موصوفاتها.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

 

روسيا العائدة إلى الشرق الأوسط: المحاور والأولويات/ مصطفى اللباد

لبيت دعوة «نادي فالداي» لحضور مؤتمره السنوي في العاصمة الروسية موسكو حول الشرق الأوسط في نهاية شباط الماضي، فكانت فرصة ممتازة للإطلال من الداخل على روسيا العائدة إلى الشرق الأوسط. ملأت روسيا دنيا الشرق الأوسط بعد تدخلها العسكري في سوريا خريف العام الماضي، فشغلت الناس بين معارض لهذا التدخل ومؤيد له. وغاب في معمعة الاشتباك الإعلامي بين المعارضين والمؤيدين للتدخل العسكري الروسي في سوريا ملاحظة الإطار الاستراتيجي العام الذي تتحرك روسيا من خلاله في المشرق العربي وغيره من مناطق العالم، وهو إطار لا تحركه اعتبارات عاطفية أو آنية، وإنما ترسمه مؤسسات متعددة لصنع القرار توخياً لما تراه مصالح روسيا الوطنية. على ذلك، تهتم هذه السطور بالمحاور التي يتحرك من خلالها الإطار العام للسياسة الروسية وعلاقتها التراتبية ببعضها البعض؛ وصولاً إلى إلقاء الضوء على أولويات روسيا عالمياً وشرق أوسطياً، وهي نتيجة تحليلية يفترض أن تهم معارضي التدخل الروسي ومؤيديه على حد سواء.

«نادي فالداي» وأهميته

أُسِسَ منتدى النقاش الدولي «نادي فالداي» في العام 2004، واكتسب اسمه بسبب عقد جلسته الأولى في مدينة فيليكي نوفغورود، الواقعة بالقرب من بحيرة فالداي. وحضر اجتماعات النادي السنوية منذ تأسيسه أكثر من ألف ممثل عن المجتمع العلمي الدولي من ثلاثة وستين بلداً، ما يعني أن المنتدى يمثل أكبر منبر للديبلوماسية الروسية العامة على الإطلاق. وتعكس المؤسسات المشاركة في صندوق «نادي فالداي» الأهمية الفائقة التي يوليها صانع القرار في روسيا للمنتدى، حيث تتشارك أربع جهات نافذة في التمويل وهي: «معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية» التابع لوزارة الخارجية الروسية، «المعهد العالي للاقتصاد» التابع للحكومة الروسية، «مجلس السياسة الخارجية والدفاع»، «المجلس الروسي للشؤون الدولية»، «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية ذي الباع الطويل في شؤون الشرق الأوسط وتنظيم المؤتمرات الدولية والقريب من الكرملين. باختصار، يعبر «نادي فالداي» عن مؤسسات صنع القرار الروسية، ويعكس رؤاها ونظرتها إلى العالم وإلى أدوار روسيا فيه.

محاور روسيا الاستراتيجية الخمس

يعمل «نادي فالداي» منذ العام الحالي على خمسة محاور رئيسية معلنة هي: أوراسيا في القرن الحادي والعشرين: دور جديد لروسيا، الشرق الأوسط ـ ساحة للمواجهة أم للعمل الجماعي؟ مشاكل النزاعات والأمن العسكري في القرن الحادي والعشرين، التجمعات الإقليمية حول العالم ونوع جديد من الترابط، روسيا والاتحاد الأوروبي في أوروبا المتغيرة.

وتعكس المحاور دوائر الاهتمام الروسية الحالية بجلاء، فالمحور الأول الخاص بالفضاء الأوراسي يمثل تاريخياً الفضاء الجيو ـ سياسي الأهم لروسيا منذ عصر القياصرة مروراً بالاتحاد السوفياتي السابق وحتى روسيا الاتحادية حالياً. في هذا الفضاء اصطرعت على مدار القرون السابقة إرادات موسكو والقوى الكونية الكبرى، وفيه دارت معارك روسية بالأصالة مع إنكلترا ثم أميركا لاحقاً، واستمرت صراعات بالوكالة بين تحالفات الطرفين حتى اليوم. ويعد الفضاء الأوراسي «الترمومتر» الأساسي لقياس القدرات الروسية الكونية تقليدياً، حيث ترتفع تلك القدرات بتعزيز مكانة روسيا فيه والعكس صحيح إلى حد كبير.

ولا تفوت ملاحظة وضع الشرق الأوسط في المرتبة الثانية مباشرة من حيث المحاور، ما يعني صعوداً ملحوظاً في مكانة المنطقة في مخيلة الإستراتيجيين الروس مقارنة بعقد واحد مضى. ويكشف عنوان المحور الثاني بوضوح «الشرق الأوسط ـ ساحة للمواجهة أم للعمل الجماعي؟» مجموعة من العناصر أولها أن تصورات موسكو للمنطقة وتوازناتها لا تقتصر على دولة بعينها (سوريا)، وإنما تمتد إلى كامل الشرق الأوسط. وثانيها أن الوجود الروسي في المشرق العربي لا يــبدو وفــقاً لذلك مؤقتاً زمنياً أو مرتهناً بتحقيق هدف سياسي تفاوضي بين النظام السوري والمعارضة، وإنما ممتداً ومتدحرجاً. وثالث هذه العوامل يتمظهر في التناقض بين موسكو وواشنطن من حيث الاهتمامات الشرق أوسطية، ففي حين تزمع واشنطن تقليص ارتباطاتها العسكرية المباشرة في المنطقة، تبدو موسكو عازمة على ملء الفراغ في المنطقة إلى حد ما، باستثمار التراجع النسبي في موازين القوى الدولية لغير مصلحة واشنطن.

أما المحور الثالث الخاص بمشاكل النزاعات والأمن العسكري في القرن الحادي والعشرين، فيكشف رغبة موسكو في استثمار قدراتها العسكرية الضخمة لاستعادة هوامش من حضورها الدولي فقدتها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. وتزداد هذه الحقيقة وضوحاً، مع ملاحظة غياب البعد الاقتصادي الدولي عن المحاور، الذي لا تملك فيه روسيا قدرة حقيقية على المنافسة مع القطب العالمي الأوحد. بمعنى أن روسيا تركز على نقاط قوتها القادرة على المنافسة وتنميتها لتحسين مركزها الدولي أي القدرات العسكرية، ولا تخوض في النقاط التي لا تملك فيها القدرة على المنافسة. ولعل رسمة كاريكاتير روسية تظهر ذلك التناقض، وفيها يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رافعاً يديه لإظهار العضلات، فكانت أحداهما قوية للغاية كتب عليها القدرات العسكرية وأخرى واضحة الهزال وكتب عليها الاقتصاد.

ويشي المحور الرابع المعنون: التجمعات الإقليمية حول العالم ونوع جديد من الترابط، باستمرار روسيا في انتهاج تكتيكات اتبعتها في العقد الأخير، وتحديداً تلك الخاصة ببناء حوائط صد في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية عبر بناء تحالفات مع دول مثل الهند وإيران، ومزاوجتها مع متغيرات كبرى مثل الصعود الكبير للصين على المسرح الدولي ومحاولة رسم تحالف إستراتيجي بين الصين وروسيا. وفي استمرار تكتيكات حوائط الصد والسعي إلى رفع الشراكة مع الصين إلى مستوى التحالف الإستراتيجي، نزوع لا يمكن للمتفحص أن يتجاهله من رغبة روسية عارمة في تغيير هيكلية النظام الدولي الراهن وتحدي القطبية الواحدة له عبر إعادة توزيع القوى بتحالفات جديدة على المستوى الدولي؛ بما يمهد في النهاية لعالم متعدد الأقطاب.

ينشغل المحور الخامس بموضوع روسيا والاتحاد الأوروبي في أوروبا المتغيرة، على خلفية تعثر الاتحاد الأوروبي في حل مشاكله الاقتصادية وقضية اللاجئين التي عمقت الصدع بين دوله، وخصوصاً بين ألمانيا، الدينامو الاقتصادي المحرك للاتحاد وبين دول شرق أوروبا الرافضة لاعتماد حصص بين الدول الأعضاء لاستقبال اللاجئين. في العقد السابق اعتمدت روسيا على الغاز الطبيعي الذي تملكه للضغط على الدول الأوروبية المستوردة له، من أجل عرقلة المحاولات الغربية للنفاذ إلى أوراسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق، فكان وسيلة مفضلة لموسكو في المفاوضات السياسية مع أوروبا. ومع الصعوبات الاقتصادية وقضية اللاجئين ـ السوريين أساساً ـ يبدو أن موسكو ترى تعديلاً مواتياً لها في موازين القوى مع أوروبا، ويهمها بالطبع رفع العقوبات الاقتصادية الأوروبية المفروضة عليها والتي تضغط على اقتصادها. وإضافة إلى العقوبات لعب الانخفاض الكبير في سعر النفط، سلعة التصدير الروسي المهمة، دوره الكبير في هبوط العملة الروسية الوطنية الروبل إلى مستويات قياسية أمام الدولار الأميركي، بلغت أكثر من خمسة وسبعين روبلاً للدولار الواحد. وربما تحتاج العقوبات الاقتصادية على روسيا تحليلاً مدققاً، لجهة تأثيرها على قدرة روسيا على الاستمرار في سياساتها الدولية وفي المنطقة، لما هو معلوم من ترابط بين السياسة والاقتصاد.

الخلاصات والاستنتاجات

لم تذكر الولايات المتحدة الأميركية صراحة كمستهدف في المحاور الخمسة التي يعتمدها «نادي فالداي» كمحاور رئيسية للبحث هذا العام، إلا أن أهداف هذه المحاور وأولوياتها وتراتيبها تعلن عن ذلك بوضوح.

يبدو الصراع الجيو ـ سياسي محوراً للاستراتيجية الروسية العالمية؛ في حين يتوارى العامل الجيو ـ اقتصادي من أولوياتها، ذلك الذي لا تملك فيه روسيا باعاً طويلاً.

يؤخذ العامل الصيني كقوة بازغة كبيرة على المسرح الدولي بالاعتبار جدياً في موسكو عند تحليل مسرح القوى الأوراسي الكبير وتشخيص ميزان القوى الدولي، لأن تحدي روسيا الجيو ـ سياسي لأميركا في أوراسيا والشرق الأوسط يمكنه أن يكتسب زخماً أكبر وأكثر اتساعاً، في حال نسّقت الصين معها تحديها الجيو ـ اقتصادي الموارب وغير المعلن ولكن الفعلي لواشنطن.

تصعيد الشرق الأوسط إلى المحور الثاني للتحرك الروسي الاستراتيجي العام بعد منطقة أوراسيا، يكتسب أهمــية تحليــلية فائــقة، خصوصاً أن ذلك يترافق مع فك الارتباط الجزئي مع المنطقة من طرف إدارة أوباما والتراجع النسبي لمكانة أميركا الدولية. تأسيساً على تحليل المحاور الاستراتيجية الروسية وتراتبيتها، لا يبدو الوجود الروسي في المشرق العربي مؤقتاً زمنياً أو حتى مرتبطاً بحل الأزمة السورية تفاوضياً أو عسكرياً، وإنما ممتداً ومتدحرجاً وفي إطار التوجه الاستراتيجي العام لروسيا في العالم.

السفير

 

 

 

 

 

النزعة التدخلية الجديدة/ مارك ليونارد

تمتد العواقب المترتبة على تدخل روسيا في سوريا إلى ما هو أبعد كثيرا من الشرق الأوسط. فقد تسببت حملة الكرملين العسكرية في إمالة حالة الجمود لصالح الحكومة وتقويض الجهود الرامية إلى صياغة تسوية سياسية لإنهاء الحرب هناك.

بيد أنها تنذر أيضا ببداية حقبة جيوسياسية جديدة لا تُدار التدخلات العسكرية الواسعة النطاق فيها بواسطة تحالفات غربية، بل من قِبل دول تعمل في سبيل تحقيق مصالحها الذاتية الضيقة، وغالبا بما يتنافى مع القانون الدولي.

منذ نهاية الحرب الباردة، كانت المناقشة الدائرة حول العمل العسكري الدولي تحرض القوى الغربية العاتية النزّاعة إلى التدخل ضد الدول الأضعف، مثل روسيا والصين، والتي زعم قادتها أن السيادة الوطنية مقدسة وحرمتها مصونة.

وتشكل التطورات المتتالية في سوريا دليلا آخر على انقلاب الأوضاع، ففي حين يفقد الغرب شهيته للتدخل ـوخاصة التدخل الذي ينطوي على الاستعانة بقوات برية- تتدخل دول مثل روسيا والصين وإيران والمملكة العربية السعودية على نحو متزايد في شؤون الدول المجاورة.

في تسعينيات القرن العشرين، وبعد عمليات الإبادة الجماعية في رواندا والبلقان، تبنت الدول الغربية عقيدة ما يسمى التدخل الإنساني. وكان مبدأ “المسؤولية عن الحماية” يحمِّل الدول المسؤولية عن رفاهية شعوبها ويلزم المجتمع الدولي بالتدخل عندما تفشل الحكومات في حماية المدنيين من الأعمال الوحشية الجماعية، أو عندما تهدد هي ذاتها المدنيين.

وقد قَلَب هذا المبدأ المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية رأسا على عقب، وسرعان ما بدأت دول مثل روسيا والصين تنظر إليه على أنه ليس أكثر من ورقة توت تواري سوءة محاولات تغيير الأنظمة الحاكمة برعاية الغرب.

من عجيب المفارقات إذن أن تستخدم روسيا مفهوما مماثلا لمبدأ المسؤولية عن الحماية لتبرير تدخلها، غير أنها في حالتنا هذه تدافع عن الحكومة ضد مواطنيها وليس العكس. وتمثل الجهود التي تبذلها روسيا في واقع الأمر حجة للعودة إلى عصر السيادة المطلقة، عندما كانت الحكومات مسؤولة وحدها عن كل ما يحدث داخل حدود بلدانها.

ويعكس موقف روسيا أيضا تفضيلها للاستقرار على العدالة، وقبولها لشرعية الحكم الاستبدادي. ومع انتشار “الثورات الملونة” في أماكن مثل جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان اتخذت روسيا والصين موقفا متحفظا على نحو متزايد إزاء الانتفاضات الشعبية، وفي نظرهما لا يفضي تهديد التدخل الغربي إلا إلى مضاعفة احتمالات عدم الاستقرار. والواقع أن الصينيين صاغوا تعبيرا خشنا في السياسة الخارجية، ترجمته التقريبية هي: “مواجهة نزعة التدخل الغربية الجديدة”.

بيد أن احترام روسيا للسيادة ليس بلا حدود، ففي شبه جزيرة القرم عام 2014، تبنى الكرملين عقيدة مختلفة تماما في التدخل، لتبرير تصرفاته في أوكرانيا على أساس أنه كان يدافع عن حقوق المنتمين إلى أصل عِرقي روسي، وكان ذلك بمثابة العودة إلى عالَم ما قبل صلح ويستفاليا الذي اتسم بالتضامن على أساس اللغة والدين والطائفة، على غرار المبادئ التي مارستها روسيا القيصرية عندما كانت تعتبر نفسها حامية حمى كل المنتمين إلى العِرق السلافي.

وليس من المستغرب أن يجتذب هذا المبرر للتدخل الأتباع بسرعة في أجزاء أخرى من العالم. ففي الشرق الأوسط، تبنت المملكة العربية السعودية حجة مشابهة لتقديم الدعم للقوى السُنّية في اليمن وسوريا، كما فعلت إيران في دعم حلفائها من الشيعة في البلدين. وحتى الصين تُدفَع على نحو متزايد باتجاه تحمل المسؤولية عن مواطنيها وشركاتها في الخارج. ففي بداية الحرب الأهلية الليبية، أجلت الصين جوا عشرات الآلاف من مواطنيها إلى خارج ليبيا.

ويأتي كل هذا في وقت يخسر فيه الغرب تفوقه العسكري، ويساهم تحسين المؤسسة العسكرية في كل من روسيا والصين، والاستخدام المتزايد الشيوع لإستراتيجيات غير متكافئة من قِبَل الدول ومنظمات غير تابعة لدول بعينها في تمهيد ساحة المعركة للجميع.

والواقع أن انتشار الجهات الفاعلة غير التابعة لدول والتي ترعاها دول بعينها في أماكن مثل ليبيا وسوريا وشبه جزيرة القرم وإقليم دونباس يعمل على طمس التمييز بين العنف الذي تمارسه الدول والعنف الذي تمارسه جماعات غير تابعة لدول.

بعد الحرب الباردة، فَرَض الغرب نظاما دوليا يحدد المعالم الجيوسياسية للعالم. وعندما تعرض هذا النظام للتهديد، شعر قادة الغرب بأنهم مفوضون بالتدخل في شؤون أي “دولة مارقة” تتسبب في إحداث مشكلة، ولكن الآن بعد أن أصبح هذا النظام موضعا للطعن على العديد من الجبهات في وقت واحد -على المستوى العالمي من قبل روسيا والصين، وعلى المستوى الإقليمي من قبل لاعبين متزايدي العدوانية في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، بل وحتى أوروبا.

مع تشكل النظام الجديد، بات من المحتمل أن تنقلب الأدوار التي لعبتها الدول على مدى ربع قرن من الزمن. ففي الغرب، من المرجح أن يعود إلى الساحة مفهوم السيادة والاستخدام المحدود للقوة، في حين يصبح القادة الوطنيون الذين كانوا تقليديا يدعون إلى ضبط النفس أكثر جرأة في إطلاق العنان لقواتهم.

الجزيرة نت

 

 

 

 

 

 

المتفقون على السوريين/ زهير قصيباتي

موسكو تبتلع «جنيف 1»… المعارضة السورية لا تستطيع أن تهضم ما وراء أفعال الكرملين، خصوصاً تحجيمه الفصائل المعارِضة المقاتِلة، غير المصنّفة إرهابية، و «تسريب» مشروع الفيديرالية الذي يشجّع أكراد البلد ويحرّضهم على رفض العيش تحت سقف الدولة الموحّدة، ولو بُنِيت ديموقراطية.

واشنطن ابتلعت «الطُّعم» الروسي، أو أنها واثقة بـ «صواب» خيارها تفويض الكرملين ملف الحرب التي أدت إلى مقتل أكثر من ثلاثمئة ألف سوري، ومحت مدناً وبلدات عن الخريطة، وهزّت حدود أوروبا… وانتزعت من العرب ما بقي لديهم من ثقة بوعود الرئيس باراك أوباما الذي أجاد قرع الطبول ثم ترك شعباً في محرقة الجلاّد وحلفائه.

بات واضحاً من فصول الحرب- المحرقة، أن تقاطع مصالح- على الأقل- يجمع أربعة أطراف: أميركا التي تخشى على جنودها وتفضّل التفرُّج ولو أمام إبادات، وروسيا الثائرة لـ «كرامتها» في مواجهة «غطرسة» الغرب و «غدره»، وإسرائيل النائمة على حرير تدمير دولة أخرى عربية، بما يمكّنها من ضمان أمنها لخمسين سنة مقبلة… وأخيراً إيران الحليف الثاني للنظام السوري والذي لم يستطع إنقاذه رغم إرساله فِرَق «الخبراء» لإدارة المعركة.

موسكو تنسّق مع إيران وإسرائيل وأميركا، وطهران وموسكو تديران نظام الرئيس بشار الأسد، وإن كانت الريبة الإيرانية واضحة حيال مدى إصرار الكرملين على التشبُّث بـ «شرعية» الأسد. صحيح أن الروس ما زالوا يقصفون مواقع ومناطق تحت سيطرة المعارضة المعتدلة، لكن الصحيح ايضاً أن لا أحد يشكّك بـ «مرونتهم» حين تأتي ساعة التسوية. فقيصر الكرملين يُدرك أن أي مفاوضات جدية لطيّ صفحة الحرب، لا بد أن تكون مع المعارضة، بما فيها الفصائل المسلّحة «غير الإرهابية». واستقواء الأسد باستعادة مناطق منها، لن يمكّنه من فرض جدول أعمال لجنيف بمعايير النظام، أي الإصرار على أولوية مكافحة الإرهاب. المهزلة أن الجميع يعرف تماماً أن الذريعة ذاتها للتنصُّل من المرحلة الانتقالية، ستجعل المرحلة في خبر كان قبل أن تبدأ، ما يفسّر غضب الهيئة التفاوضية العليا.

أربعة متفقون على السوريين، على حساب دمائهم… أربعة أيضاً محشورون في زاوية الوقت والتسوية المريرة: طهران المشكّكة التي أجّلت روسيا تسليمها منظومة صواريخ حديثة، وموسكو الساعية إلى خفض موازنة الدفاع لجيشها، ونظام الأسد القلِق من نيات الكرملين، والمعارضة السورية التي تلقّت ضربات وخسرت مناطق ومواقع بعد تدخُّل الروس. وإذا صح أن واشنطن تريد بالتفاهم مع الرئيس فلاديمير بوتين فرض تسوية في سورية، خلال ما تبقى من عهد أوباما، ينتقل قلق النظام وحليفه الإيراني الى مرحلة حرجة، قد تستتبع «مبادرات» مفاجئة من الأسد لعرقلة قطار الحل، ليست من النوع المسرحي الذي اكتسته دعوته الى انتخابات عامة الشهر المقبل.

الأكثر مرارة لدى السوريين، أن القطار الروسي الذي تحرُسُه غارات على الأخضر واليابس، قد يخذل بوتين أولاً، ولا يصل إلى أي محطة… مسار الحرب لا تحسمه دائماً معركةٌ هنا وكرٌّ وفرٌّ هناك، ولا الحرب الجوية وحدها قادرة على إرغام الفصائل المقاتلة على رفع الراية البيضاء.

أما سيناريو العودة إلى الخيار الإيراني، فيعني- رغم استبعاده- إعفاء موسكو من كلفة الحرب، واستكمال انتحار سورية ونحر السوريين. وإذا كان صحيحاً ما أكّدته واشنطن عن سحب طهران عناصر من «الحرس الثوري» من ساحات الحرب، فأغلب الظن أن الخطوة مرتبطة بقطار التطبيع الأميركي– الإيراني أكثر مما هي من مستلزمات إدارة الكرملين القتال. وتعيد إلى الذاكرة وقائع النفي الإيراني المتكرر للتفاوض مع الولايات المتحدة على ملفات إقليمية.

مَنْ يكسب الرهان، موسكو أم طهران؟ الجواب معروف إذا كانت المنطقة في مخاضها العسير على عتبة خرائط جديدة. ولكن، حتى لو أراد الكرملين تفادي ما فعله الغرب في ليبيا، وتركه إياها لاقتتال الميليشيات، فأي تسوية مضمونة في سورية، وبين جولة قتال وأخرى تتضخّم الأحقاد وألغام وحدة البلد؟ إذا أصرّت المعارضة على رحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، فهل يخرّب النظام وقف النار، ليستدرج ضربات أخرى روسية، من أجل إنهاك كل الفصائل؟… أم أن القلق التركي– الإيراني من مشروع الفيديرالية السورية وطموحات الأكراد، سيوحّد تطلُّعات أنقرة ومصالح طهران في مشروع تعطيل القطار الروسي؟

الحياة

 

 

 

 

مشروع روسيا و”الخرائط القاتلة”!/ محمد برهومة

تلامس الجغرافيا السياسية التي ترغب موسكو في إرسائها في سورية بقوة الضربات الجوية، وتراً حسّاساً لدى الأكراد والعلويين من موقعين مختلفين. فإذْ نشاهد صعوداً وانتعاشاً للهوية الكردية وأحلام الاستقلال وبناء كيانية على جغرافيا أغنى في الموارد والسكان والأرض، نرى أنّ مقترح أو مخطط موسكو لفيديرالية سورية يُقدَّمُ إلى العلويين كطوقِ نجاةٍ بعدما استنزفتْ حربُ السنوات الست في سورية أبناءَ الطائفة العلوية، وأفنتْ طيفاً واسعاً من شبانها.

ولا أدري ما إذا كانت ثمة مبالغة في القول أن العلويين سينظرون، ربما، إلى مقترح الفيديرالية بوصفها «غيتو» يحميهم ويمنع تقلّصهم واستنزافهم وخسارتهم، فيما سيستقبلها الأكراد بوصفها نتاجاً لصلابتهم وقوتهم المتصاعدة، ومحضهم من جانب الأميركيين والروس على حدّ سواء الدعمَ والإسنادَ والاعتراف بهم كشركاء أساسيين، والاستثمار فيهم إلى درجة عدم الاكتراث الأميركي بانزعاج أنقرة من تنامي هذا الاستثمار، وتقصّد موسكو إزعاجها عبر هذه الشراكة التي أجهضتْ المنطقة الآمنة شمال سورية، وجعلت الصراع التركي – الكردي اليوم ينتقل إلى مرحلة جديدة ستتضح معالمها أكثر فأكثر إنْ قُيّض لمشروع الفيديرالية الجديد أن يرى النور، وهو احتمال وارد في ظل صمت أميركي ملتبس يُسهّلُ على بعضهم الاستنتاج المجانيّ والحديث عن «تفاهم أميركي – روسي» على إعادة رسم الخرائط وتعديل أوزان المكونات وإبعاد السنّة إلى جغرافيا أقل استراتيجية ونفوذاً وتأثيراً.

هي إذاً وصفة للتدمير الذاتي، وإذا صحّ هذا الاتهام فإن تاريخ المنطقة يُذكّر بأنّ مشاريع الوحدة العربية القسرية التي تمّت قبل عقود عنوةً ومن دون ظروف كافية للنجاح أورثت أهل المنطقة مزيداً من المآسي والخيبات والتخلّف والضياع والعنف والتمزق، فكيف بمشاريع إعادة تقطيع سايكس – بيكو بالدم وغارات السوخوي والتشريد والقهر والصمت الأميركي على إعادة هندسة الديموغرافيا والاجتماع والخرائط بطريقة تؤبّدُ «الهويات القاتلة»، وفق تعبير أمين معلوف، وتُبقي براميل البارود مشتعلة في سورية وجوارها (…) إلى سنوات مديدة!

بالطبع، النواح لا يفيد، ومن المهم، على الأقل، بلورة رؤية خليجية لقيادة جهد ديبلوماسي وبناء خطوات وشراكات على الأرض تستهدف إقناع القوى الدولية بأن الاستعجال بفرض الحلول المشوّهة في سورية سيضرّ بالأمن الإقليمي والدولي ويُحفّز نوازع العنف والكراهية والإرهاب، ويستنزف موارد الجميع في سعيهم لمحاصرة ألسنة النيران ووقف الكارثة.

* كاتب أردني

الحياة

 

 

 

 

فيدرالية سوريا:المؤامرة المعلنة؟/ساطع نور الدين

في التاريخ الرسمي العربي زيفٌ راسخٌ مفاده ان الاستعمار الاوروبي هو الذي قسّم العالم العربي الواحد، وشرذم دولته القومية الموعودة الى دويلات مسخ، بينما الوثائق والشواهد والوقائع تؤكد ان ذلك الاستعمار، هو الذي فرض توحيد كيانات سياسية موسعة أكرهت قوميات وطوائف ومذاهب متناحرة طوال قرون، على إختبار التعايش والتفاعل والتوحد في أوطان، سُميّت أقطاراً من خريطة الوحدة المتخيلة.

وفي التاريخ نفسه زيفٌ ثابتٌ هو ان المستعمرين إياهم قسموا العالم العربي على هذا النحو المفتعل، فقط لكي تقوم وتدوم وتتحصن دولة اليهود في فلسطين، ولكي يتيحوا في ما بعد الفرصة الدائمة للعبث بالحدود القطرية الجديدة، والعمل في مرحلة ما على تعديلها وخلق دويلات-كيانات صافية قومياً او طائفياً او حتى مذهبياً.

الان، يبدو أن الوقت قد حان كما يبدو للانتقال الى المرحلة الثانية من ذلك المخطط الاستعماري القديم، بعدما ثبت، بما لا يدع مجالا للشك، فشل إختبار التعايش القومي والطائفي والمذهبي، داخل الكيانات الوطنية التي وضع المستعمرون الاوروبيون خرائطها على عجل(سايكس-بيكو)، ورسم الضباط الفرنسيون والانكليز حدودها على الرمال.

يكاد البحث في تقسيم سوريا اليوم يصبح علنياً. ويكاد ذلك المحرّم الوطني والقومي يسقط من باب التحريم، ويتحول الى مخرج وحيد من المذابح الكبرى التي تشهدها بلاد الشام منذ خمس سنوات حتى اليوم . ولعل التجربة العراقية التي أعقبت الغزو الاميركي في العام 2003 ساهمت في كسر هذا التابو، الذي كانت الحرب الاهلية اللبنانية تمثل تحدياً دائماً له..لم يتم تخطيه حتى اليوم.

ليس في سوريا ولا خارجها ما يشي بان ذلك الحاجز النفسي القديم ما زال قائماً. الاعتراض على إدراج التقسيم بنداً على جدول أعمال التفاوض، واضح وصريح، لكنه تعبير عن موقف مبدئي-نظري، أكثر مما هو ترجمة لخيار سياسي عملي. ثمة تسليم ضمني ملموس من جانب النظام والمعارضة معاً بان الامر يتعدى رغبة  وإرادة كل منهما.. مع ان الجهود التي يبذلانها لحفظ الوحدة الوطنية السورية تفتقر الى الدليل على أرض الواقع، وتقتصر على بعض الشعارات والهتافات الفولكلورية.

ما زال البحث في مراحله الاستكشافية الاولى. التقسيم كان وارداً منذ اللحظة الاولى للثورة التي فجرت الانقسامات العميقة داخل الاجتماع السوري، المموهة في مراحل ما بعد الاستقلال، او المتوارثة منذ أجيال وقرون. وقد إكتسب ذلك هذا الخيار زخماً إضافياً عندما نزل الجيش الروسي في منطقة الساحل السوري، وسيّجها من جميع الجهات، متفادياً، حتى الان على الاقل، الانتشار في العاصمة دمشق، التي يمكن ان يكون حسم مصيرها هو البند الاخير على جدول الأعمال، والبقعة الاخيرة التي سترسم على خريطة التقسيم.

البحث علني جداً بحيث يستحيل على أي طرف سوري او غير سوري أن يدعي انها مؤامرة تطبخ في الغرف السوداء، الاميركية الروسية، على غرار “مؤامرة” سايكس-بيكو التي لم يعرف بها أحد من العرب الا بعد توقيعها بسنوات. لم يبدأ رسم الحدود السورية الداخلية، لكن أحداً لا يشك في أن ملامح الكيانات الصغرى داخل الوطن السوري السابق ترتسم الان بشكل مسودات أولية، قبل ان تطرح لاحقاً على طاولات التفاوض.

ما زال بعض الحالمين السوريين والعرب يفترض ان الامر لا يعدو كونها ضغطاً نفسياً على أطراف الحرب السورية لكي يوقفوا مسار تفتيت الكيان السوري القديم، ويعدّلوا مسيرة الانتحار الجماعي للقوميات والطوائف والمذاهب السورية. لكن المؤكد ان الاميركيين والروس لن يتمسكوا بالوطنية السورية اكثر من السوريين أنفسهم، ولن يتكلفوا عناء الحفاظ على الهوية السورية الممزقة مهما كانت تلك الكلفة متواضعة.

من المبكر الحديث عن قيام ثلاث او أربع دول مستقلة في سوريا، كما يحكى في بعض العواصم. الفيدرالية علاج متوافر. وهي بديلٌ نموذجيٌ، مثاليٌ، من التقسيم الذي يضيف الى الأمم المتحدة أربعة أعضاء جدد، ويوسع الجامعة العربية أكثر بكثير مما تحتمله العروبة.

هذا هو عنوان العام السادس من الحرب السورية الكبرى..والازمة العربية الأكبر.

المدن

 

 

 

لا مكان للإيديولوجيا في سياسة الكرملين وسوريا ليست استثناء!/ عبير بشير

يرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الأزمة السورية يمكن أن تتطور في إطار ثلاث سيناريوات وهي: توصل الأطراف المتصارعة إلى حل وسط من خلال المفاوضات، أو إحراز الجيش السوري انتصارا عسكريا، أو اندلاع حرب كبيرة بمشاركة عدد من الدول الأجنبية. ويتفق لافروف في حديثه الذي نشرته صحيفة «موسكو فسكي كومسوموليتس»، مع ما طرحه البروفسور فيتالي ناعومكين مدير معهد الاستشراق الذي أدار أول مفاوضات سورية – سورية في موسكو، عن تقديراته لإيجاد الحلول المناسبة للأزمة السورية، في أن روسيا في تعاملها مع المسألة السورية، تراهن على الحل التفاوضي فقط!!!. حديث وزير الخارجية الروسي عن – المآلات المحتملة للأزمة السورية، ليس من فراغ. بل أنه يمكن أن يقدم لنا تفسيرا معقولا، لماذا سارت موسكو في الهدنة الموقتة في سوريا، رغم ما تدعيه موسكو من النجاحات في ضرب معاقل المعارضة المسلحة من الجو، وانكماش المعارضة على الأرض. ورغم أن الهدنة السورية قد تصمد بما يفتح الباب أمام مفاوضات وعملية سياسية، أو قد تنهار، وفي أحسن الأحوال فهي تسير كالبطة العرجاء بفعل خروقات النظام الأسدي والميليشيات الإيرانية والشيعية المستمرة للهدنة، إلا أن سياقات حدوث هدنة في سوريا لأول مرة منذ تفجر الثورة السورية منذ عام 2011، هو الذي يعطي هذه الهدنة بعدا استثنائيا. فهي نتاج أي الهدنة – اتفاق القوتين العظميين أميركا، وروسيا فقد صدر بيان مشترك عن واشنطن وموسكو، على «امتناع الطيران السوري والروسي عن قصف المعارضة خلال فترة الهدنة»، وفي المقابل «يشترط امتناع المعارضة السورية عن محاولة السيطرة على أي أرض خلال الهدنة». البيان الروسي الأميركي يؤكد استمرار الضربات ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» و»جبهة النصرة» رغم الهدنة، وينص على أن يتم «تشكيل فريق عمل لمراقبة وتنسيق وقف القتال في سوريا»-. وما تبعه من تبني مجلس الأمن الدولي بالإجماع مسودة القرار الأميركي الروسي بوقف الاقتتال في سوريا. والأهم أن الهدنة أو الفرملة أتت بعد إندفاعة روسية كبيرة، بقوة نارية جوية مكثفة، وبعد العنتريات الأسدية باستعادة كل الأراضي السورية من المعارضة. حديث وزير الخارجية الروسي لافروف، الذي يلعب في الأزمة السورية دور أكبر وأعمق من مجرد وزير خارجية لدولة عظمى، كشف عن السبب الذي اجبر موسكو على السير في التهدئة، حين قال بأن سيناريو الحل العسكري صار واقعيا، مع توارد أنباء وتصريحات تقول بوجود خطط لإرسال قوات برية إسلامية إلى سوريا. وأشار لافروف بأن السعودية أعلنت أنها لا تستبعد الاعتماد على القوات التابعة للتحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب – والذي بادرت إلى تشكيله بقيادتها وبمشاركة عشرات من الدول الإسلامية من بينها تركيا ومصر، وجرت مناورات فعليه له في المملكة تحت مسمى رعد الشمال – لدخول سوريا ومحاربة داعش.

باختصار، سيد الكرملين فلاديمير بوتين، الذي حاول في لحظة ما كسر -القاعدة الخراسانية- في سوريا بأن: «النصر ممنوع، والهزيمة ممنوعة «، وسرقة نصر عسكري كبير في ظل تقاعس أميركي أوضح من ضوء النهار. وصلت إلى مسامعه -الزمجرة السعودية – لتذكير القيصر بقواعد اللعبة في سوريا، وهي رسالة حازمة بأن المملكة وتركيا لن تسمحا بسقوط المعارضة السورية بأي حال من الأحوال، والمملكة جاهزة للذهاب إلى خيارات صعبة للغاية. الرسالة الحازمة الأخرى نقلها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، إلى نظيره الروسي، ورفع بطاقة صفراء في وجه موسكو، بشأن تصعيد وتيرة أعمالها العسكرية في سوريا، و التي فاقت ما هو مرسوم لها أميركيا. وأبلغ كيري لافروف بأن القتال ضد داعش يكتمل فقط بانتقال سياسي في سوريا، يبدأ بتشكيل حكومة، في حين تقوي الحرب في سوريا من قوة التنظيم وتزيد أعداد اللاجئين. أما البطاقة الحمراء، فقد رفعها الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال اتصال هاتفي بينه وبين القيصر بوتين، تمحور حول الحديث عن سبل التسوية في سوريا، و صياغة نظام لوقف إطلاق النار بما يخدم دعم إطلاق عملية سياسية حقيقية للتسوية في سوريا…….. بالعربي عليك التوقف الآن!!!.

عين روسيا أيضا مفتوحة على وسعها على أنقرة، وهي لن تسمح لتركيا بأن يكون لها وجود فعلي داخل الأراضي السورية، هي على الوجه الأدق تسعى لعدم وجود سيطرة تركية على مناطق في سوريا تسمح في مرحلة ما بمرور خط الغاز القطري المنافس للغاز الروسي إلى أوروبا عبر البوابة السورية، في كل الأحوال القيصر بوتين لن يسمح لأي دولة بأن تهدد أهم أسلحته الإستراتيجية في الحرب الناعمة ضد أوروبا وهو سلاح الطاقة -. وهذا السبب الذي جعل لافروف يتحول إلى الحديث عن سياسات تركيا تجاه الأزمة السورية – بعد حديثه من أن سيناريو الحل العسكري صار واقعيا – ليعرب عن قلق بلاده تجاه ما يتوارد من أخبار من وسائل الإعلام وعبر قنوات الاتصال المغلقة حول وجود خطط لدى الأتراك بشأن تغلغلهم داخل سوريا، وذلك عن طريق استغلال جزء من الأراضي السورية بذريعة إقامة مخيمات هناك لإسكان النازحين السوريين وعدم السماح لهم بالعبور إلى الأراضي التركي. وروسيا أيضا لا تريد في مرحلة ما أن ترى قوات تركية تدخل سوريا ضمن قوات برية إسلامية لمحاربة داعش. باختصار ضمان وجود سلاح الطاقة في يد موسكو وحدها، هو عنصر فاصل في مسار الحرب أو التهدئة في سوريا، وسيكون أحد أبرز الملفات التي سيطرحها الكرملين للمقايضة في حال وجود مسار لعملية سياسية في سوريا.

برغماتية روسيا – الشهيرة -، وحرصها على مصالحها بالمقام الأول والثاني والثالث، هي ليست فقط حديث المجموعات التي لديها مشكلة مع موسكو، بل هي موضع حذر كبير لدى قطاع عميق من حلفائها الإيرانيين. فقد اتهم المدير العام السابق لشؤون الشرق الأوسط في الخارجية الإيرانية، روسيا بأنها تسرق تضحيات إيران في سوريا. وأوضح المسئول الإيراني أنه بعد 4 سنوات ونصف استطاعت إيران أن تمرر إستراتيجيتها في سوريا المتمحورة حول بقاء الأسد في السلطة، غير أنه شكك بنيات الروس حيال الأسد وطهران وقال إن السياسة الروسية برغماتية مطلقة تبحث عن مصالحها وقد تنقلب على حلفائها في طهران ودمشق. وأضاف: « صحيح أن ثمن بقاء الأسد كان غاليا وتم على حساب تدمير سوريا ومقتل 250 ألف سوري وتهجير 10 ملايين آخرين، غير أنه في نهاية المطاف، قبل الغرب بالحل السياسي ووجود دور لإيران في هذا الحل «.

وطالب المدير السابق في الخارجية الإيرانية بلاده بأن تكف عن الإيحاء للمجتمع الدولي بأنها متمسكة فقط ببقاء الأسد، بل يجب عليها أن تحافظ على مكتسباتها في سوريا تماما كما تفعل موسكو -، ويجب أن تقوم طهران بتحركات خفية لحماية مصالحها، بدلا عن الخطوات العلنية.

وقال المسئول الإيراني انه من الخطأ أن نقدم التضحيات طيلة هذه السنوات الأربع في سوريا ومن ثم تأتي روسيا وتحصد ثمرة حل الأزمة السورية. وتساءل: « كم قدم بوتين من القتلى في سوريا ؟ وكم صرف من أموال في هذه الأزمة كي يفوز بسوريا «.

وحذر من مغبة استغلال الروس للتسوية حول سوريا وتهميش الدور الإيراني، قائلا: « أنا أعتقد أن بوتين يحصد بذكاء ثمرة الأزمة السورية على حساب الإيرانيين وتضحياتهم طيلة 4 سنوات ونصف، لأنه يقايض الغربيين.

ويرى المسئول الإيراني بأن التدخل الروسي في سوريا جاء لهدفين: أولا للحفاظ وزيادة قواعدهم في الشرق الأوسط، وعلى البحر المتوسط، وثانيا لكسب الأوراق لمقايضة الغرب حول قضايا عديدة، خاصة في أوكرانيا، ولا مكان للأيديولوجيات في سياسات الكرملين.

نعم برغماتية موسكو هي التي تحكمها، ومصالحها ستجعلها تمعن النظر كثيرا حتى لا تتحول الحرب في سوريا من حرب بالوكالة إلى حرب دولية مباشرة، وهي التي تدفع وستدفع روسيا وتذكرها دائما للحديث عن أن الحل في سوريا هو فقط الحل التفاوضي …. جيد ولكن أي نوع من الحل التفاوضي، وتحت أي سقف، وهل هو تحت خيمة الفيدرالية!!!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى