صفحات سوريةنبراس شحيد

عن البقلاوة المسمومة وهذيان الانتقام/ نبراس شحيّد

بعد مجزرة الكيميائي المريعة التي طالت الغوطة الشرقية، جابت بعضَ شوارع دمشق فرقٌ من الفاشيين للاحتفال بـ”النصر الكبير”. أفرغت بعض صفحات التواصل الاجتماعي ما في جعبها من أحقاد مقيتة، تهللت بالنصر على “الارهابيين”، ودعت “القيادة الحكيمة” إلى إعادة الكرّة مرةً أخرى. عُلِّقت مكبّرات الصوت في مناطق متفرقة، وأقدم بعض الموالين للنظام السوري على توزيع الحلوى للاحتفال بمقتل ما يزيد ربما على ألف إنسان.

المشهد هذا تكرر سابقاً لكن بشكلٍ معاكس حين أعلنت مجموعةٌ تطلق على نفسها اسم “سرايا عائشة أم المؤمنين” مسؤوليتها عن التفجير الإرهابي الذي هزّ الرويس في ضاحية بيروت الجنوبية. لم تكتفِ هذه المجموعة، المشكوك في هويتها، بتبنّي التفجير، بل وعدتنا أيضاً بالمزيد من الدماء ردّاً على تدخل “حزب الله” الإجرامي في سوريا. لكن، حتى وإن بقيت حقيقة هذه المجموعة غامضةً إلى ساعة كتابة هذه السطور، تناقلت صفحات التواصل الاجتماعي أيضاً صوراً لأشخاصٍ قاموا بفعلٍ شنيعٍ لا يقل في بشاعته عن جريمة التفجير: لبنانيون وسوريون في مناطق متفرقة يتهللون بمقتل العشرات من مدنيي الضاحية الجنوبية. وزّع المحتفلون الحلوى ابتهاجاً بالموت، مستنسخين بذلك أفعالاً “أقدم عليها فتيةٌ في الضاحية الجنوبية عندما اغتيل جبران تويني، وعندما سقطت مدينة القصير” (حازم الأمين، “الحلوى البشعة”).

في انحلال الهوية

احتفال “شبّيحة النظام” بمقتل أكثر من ألف إنسان، واحتفال “شبّيحة الثورة” بمقتل مدنيين أبرياء (بحجة “ضرب معاقل النظام” أو ما شابهها من حجج بائسة) متشابهان في حقدهما وإن اختلفا من حيث الإطار والعدد والخلفيات التي وراءهما. تحتفل كرنفالات الموت هذه بدماء مدنيين لا علاقة لهم بما يجري، لأن هؤلاء الضحايا صاروا محض امتدادٍ متوهَّم للعدوّ الحقيقي الذي لا يستطيع المنتقِمُ النيلَ منه. تستبدل ذهنية الانتقام هويةَ العدو بأحد امتداداته الطائفية أو المناطقية، ليصير كل إنسان متأصل في المنطقة الفلانية عدوّاً، أو كل شخصٍ ينتمي إلى طائفة معينة خصماً يستحق الموت. في هذه الحال، يتجلى الفعل الانتقامي في جوهره تدميراً لمفهوم الفرد ككيان مستقل مسؤول عن أفعاله وأقواله. يترافق هذا الضياع الذي يصيب هويةَ من ننتقمُ منه، بضياع هوية المنتقِم نفسه، لأن جلّ ما يميز الاحتفال الانتقامي تلاشي “الأنا” في غوغائية الجماعة المحتفِلة. في كرنفالات الموت هذه – كما في حالات الاغتصاب الجماعي التي عرفها ميدان التحرير – تذوب “الأنا” في حالةٍ جماعية بدائية لتفقد فردانيتها، فتصير جزءاً غير قابل للتمايز عن “نحن” هستيري يستولي عليها.

مع هذا الانحلال الذي يصيب هوية المنتقِم، كما يصيب هوية العدوّ، يصير الفعل الانتقامي قادراً على تبرير كل عملٍ مهما يكن شنيعاً. الكل يعرف أن الأطفال الذين قضوا في مجزرة الغوطة مثلاً لا يمكن أن يشكّلوا أيّ خطر على من احتفل بمقتلهم. لكن هذا الأمر لا يعني المنتقِم لأنه لا يرى في هؤلاء الأطفال إلا امتداداً لعدوّه. لذا، لا يتناسب حجم التدمير الذي يحلم به الفعل الانتقامي مع حجم الخطر الموضوعي الذي يشكله الآخر المقتول. لذا أيضاً، يتجلى الفعل الانتقامي في جوهره فعلاً قائماً على الوهم.

في أوهام الانتقام

ككل فعلٍ انتقامي، يهدف فعل توزيع الحلوى إلى استعادة شيء ضائع. لكن، ما هي حقيقة هذا “الشيء”؟ من المؤكد أن عملية توزيع البقلاوة لن تعيد إلينا صديقاً أو قريباً فقدناه بسبب همجية بعض المجرمين الذين صاروا جزءاً من نسيج المعارضة، كما أنها لن تحيي ألوف البشر الذين قُتلوا على يد النظام السوري المدعوم بميليشيات “حزب الله” ومن لفّ لفيفهما. لذا، لا يمكن طبيعة الشيء الذي يسعى فعل الانتقام إلى استعادته، أن تكون موضوعية، لأن ما رحل قد رحل! تعرّف الفيلسوفة سيمون فايل فعل الانتقام كنوع من استعادة توازنٍ ما، أخلّ به عدوّنا. قد يسمي البعض هذا التوازن المفقود بـ”الكرامة المهدورة” أو “الشرف المباح” الذي لا يستعاد إلا بالدم. لكن يبقى السؤال هنا مؤرقاً لا ينطفئ: أيّ شرف هذا الذي لا يمكنه أن يؤسس ذاته إلا على تشوّه انسانيتنا حين نحتفل بموت أطفال صغار وتشظّي أجسادهم؟ يمكننا إعادة صوغ السؤال ربما بطريقة تعجبية أخرى: كم هي بائسة هذه الذات التي لا تستعيد ثقتها بنفسها الا حين تغرق في العدمية؟!

لا تقوم الاستعادة التي تؤسس الفعل الانتقامي على استرجاع شيء موضوعي فقدناه، بل على إفقاد الآخر/ العدوّ أمراً عزيزاً عليه. التوازن المرجوّ إذاً هو توازن قائم على الإخلال بتوازن الآخر. لذا، لا يمكن التوازن المنشود أن يكون استرجاعاً أو تصحيحاً لما تم افساده، بل هو إغراقٌ في التدمير والعدم: “عليّ وعلى أعدائي!”.

بنية العمل الانتقامي إذاً قائمة بشكلٍ أساسيّ على الوهم. من جهة أولى، لن يعيد الانتقام ما فقدناه، لذا يصير التوازن الذي يسعى الفعل الانتقامي إلى استعادته وهماً مؤسَّسَاً على لاتوازن العدو.

من جهةٍ ثانية، لا يطال الفعل الانتقامي، المتمثَّل في توزيع الحلوى، القاتلَ الحقيقي، بل امتداداً متوهماً له يقوم على اعتبارات طائفية ومناطقية، ليشمل أولاد العدوّ أو أقرباءه أو جيرانه أو أيّ شيء نتخيّله عنه. من جهةٍ ثالثة، يقوم الفعل الانتقامي على انحلال الهوية الشخصية في جماعة بدائية لا مكان لفردٍ مستقل فيها، فتغرق الذات في هذيان الجماعة المريضة.

في هذا الهذيان الجماعي، ستستمر الأيادي في تناقل البقلاوة المسمومة إلا أن يجيء يومٌ يكون فيه للحداد الحقيقي مكانٌ يخرجنا من لذة أوهام الانتقام. ليس الحداد في جوهره إلا معركةً ضد الوهم وقبولاً بالخسارة كي تستمر الحياة ولو بصعوبة، أو تعايشاً مع واقع أليم، قد يفتح نافذةً صغيرة في جدار أسود. “يوم الغد”، قالت لي صديقة حزينة، “سيكون أجمل!”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى