صفحات الرأيياسين الحاج صالح

عن التفاؤل والتشاؤم وعن «الشعب الطيب» ومسؤوليته…/ ياسين الحاج صالح

 

 

 

تعطي مقالة حسام عيتاني «الطوبى وطريقها المعبد بجثث الجماهير» (الحياة، 4 كانون الثاني 2015) انطباعاً بأن مقالتي: «خطاب العقل وظهور تيار العقليين» (http://aljumhuriya.net/32962) تنحاز إلى جانب «مشروع» محمد عابد الجابري وطوبى العقل المتفائلة التي نسبتها له، ضد تشاؤمية «مشروع» ناقده جورج طرابيشي. ليس هذا صحيحاً، وليس في المقالة ما يثني على عمل الجابري، وإن كنت لاحظت أنه لم ينسق للتبشير بالتشاؤم الذي تكرس له ناقده، بالتناسب مع تحويل «العقل» إلى بنية تحتية تفسر أبنية المجتمع الفوقية، السياسية والاجتماعية والفكرية. اختزال مقالتي إلى تفضيل أحد الثقافويين على الآخر غير منصف بتاتاً.

مقالة «خطاب العقل»… ترصد اتساع الاهتمام بالثقافة في الثمانينات، باتصال مع تداعي حركة القومية العربية. لاحظت تحولاً في معنى الثقافة مما نتعلمه ونكتسبه من غيرنا وننتجه إلى الثقافة كبنية ذهنية ثابتة أو كعقلية، وهذا بالتوازي مع تحول الثقافة إلى أساس ومبدأ تفسيري للسياسة والمجتمع والتفكير. وقلت إن التيار العقلي هو الذي يفسر بالثقافة أو ببنية العقل أوضاعنا العامة، فهو وريث للاقتصادوية الماركسية منهجياً، لا يغير شيئاً من مقاربتها الواحدية الاختزالية. وميزتُ على نحو عارض بين ثقافوية يمينية معادية للجمهور وللديموقراطية وثقافوية يسارية منحازة للديموقراطية (وضعت كلمتي يمين ويسار بين قوسين صغيرين تحفظاً)، ولا تتعالى على عموم السكان. حسام أغفل استدراكي أنه على أرضية ثقافوية لا يتأسس تفكير ديموقراطي، فبدا مرة أخرى أنني أدعو للثقافوية «اليسارية» ضد شقيقتها «اليمينية». هذا غير صحيح أيضاً.

أشرت في المقالة المنقودة إلى أن الثقافوية العلمانية (ميزت بين صيغة علمانية للثقافوية وأخرى إسلامية في مواد أخرى)، هي إيديولوجية «العالم الأول الداخلي»، وأن أصحابها دعاة لـ «الاستبداد المستنير» والتشدد في معاملة عموم المحكومين. هذا للقول أن النقاش لا يدور في فضاء الفكر المجرد، بل يحيل إلى مواقف محسوسة جداً في صراعات اليوم الحادة والمصيرية.

تعطي مقالة حسام أيضاً انطباعاً بأني ضد التشاؤم ومع التفاؤل. أجد التشاؤم موقفاً أنانياً بالفعل، مقترناً في كل حال بالتخلي عن المسؤولية الاجتماعية للمثقفين، وهو ما يصدق عليه سلوك جميع من أعرف عملهم من دعاته، لكن لا في المقالة التي ينتقدها حسام ولا في غيرها دعوة إلى التفاؤل أو تبشير به. فإن كان لي أن أقحم هنا تفضيلي الشخصي فهو التفاعل، وليس التفاؤل، ولا حتماً التشاؤم: أن ننخرط في صراعات اليوم بين عموم الناس، وأن نحتفظ بنظرة نقدية.

في أصول هذا التصور للموقع والدور نظرة إيجابية إلى العالم: إنه قابل للتحسين، إن للتعليم والتضامن ثماراً طيبة، إن العالم الدنيوي ليس ملعوناً ولا ساقطاً، إن من حق الإنسان أن يكون سعيداً على هذه الأرض، وأن يعمل من أجل ذلك. لكنْ في تحويل هذه الثقة المبدئية بالجهد الإنساني إلى إيديولوجية تفاؤلية تقليص تعبوي وتوظيفي في خدمة مشروعات سياسية خاصة، على نحو شهدناه في شيوعية القرن العشرين.

لست متحمساً لفكر التنوير الفرنسي وتفاؤليته، لكن ألاحظ أن تنويريينا يفصلون، خلافاً لسلفهم الصالح، تنويرهم الخاص عن التعليم العام، فيجردون التنوير من التزامه الاجتماعي ومضمونه الديموقراطي والعام، ويجعلونه علامة على تميزهم الذاتي والفئوي، ودعوة متشائمة. بدل تعميم التعليم دعا داع منهم إلى الحجر السياسي على الأميين.

من جهة أخرى، يبدو لي أن رد ستالين إلى تفاؤلية التنوير، على ما فعل حسام، وثيق الصلة بنزعة ثقافوية عالمية يمينية الميول، نخبوية ومعادية للديموقراطية وعموم الناس. وينطبق مثل ذلك في رأيي على كلام حسام على الطوبى، وقد شاع منذ السبعينات، وتحول إلى عقيدة مقررة منذ انهيار الشيوعية. الطوبى تقتل بضمير مرتاح، أو هي تصنع ضميراً يرتاح للقتل أو يوجبه، على ما نعاين فعلاً من طوبى الخلافة أو الدولة الإسلامية، لكن لا تلزم طوبى من أجل القتل، ودولة الأسد لم تحتج إلى أي طوبى بينما هي تقتل السوريين منذ أربع سنوات. ومثلما يمكن التمييز بين وجهة تفاؤلية عامة تنطلق من قابلية العالم للتحسين، بين التفاؤل كإيديولوجية سياسية، يمكن التمييز بين الطوبى كوجهة عامة، كثقافة وسياسة للأمل، وبين الطوبى كمشروع سياسي فوقي. هذا الأخير قاتل، لكنّ في الإنسان بعداً طوباوياً أنتج أدياناً وثقافات وعقائد متنوعة، رفعت من قيمة الإنسان، وحمت في المحصلة حياة الناس.

ويسوق حسام ما يبدو له مبررات وجيهة للتشاؤم: الشمس ستنطفئ يوماً، و»الفشل العربي الشامل». هذه العبارة الأخيرة تنتمي إلى سلالة كئيبة من العبارات، من صنف «الزمن العربي الرديء»، و «الركود العربي»، و «العرب ظاهرة صوتية»، و «انقراض العرب» أو الثقافة العربية، وهي، وليعذرني حسام، عبارات لا معنى لها، ولا يمكنها لذلك أن تكون تسويغاً لأي شي. إنها مجرد استمرار لعادات خطابية موروثة، تشبع حاجة ذاتية إلى اللطم والتشاؤم. هناك بلدان عربية متنوعة، لها أوضاع مختلفة، وشرائح مجتمع كل منها له أوضاع مختلفة أيضاً، وهي لا تغرق في فشل متجانس أو شامل. ربما تكمن المشكلة في كلمة «عربي»، وهي مشكلة مثقفين تثبتوا على صورة متقادمة للذاتية، ولا يستطيعون الخروج منها أو اكتشاف ذاتيات جديدة، أو المساهمة في ظهور ذاتيات مغايرة.

أعتقد أن التفاؤل والتشاؤم من نصاب العمل والالتزام الاجتماعي والكوني، وليسا من نصاب النظر والمعرفة و»الواقع الموضوعي». قبل أن تنطفئ الشمس يوماً، كل واحد منا على يقين أن حياته ستنطفئ، وأن فرصته على الأرض محدودة بعقود يندر أن تساوي أصابع اليدين عدداً. كان أبو العتاهية يقول: سبحان ربك كيف يلتذ امرؤ/ بالعيش وهو بنفسه مطلوب! شعور التناهي هذا مبرر وجيه للتشاؤم. لكن مع يقيننا بالموت، ويقين غير قليلين منا بأن لا حياة أخرى، يعمل كثيرون على فعل ما يجعل العالم أقل سوءاً. هذا ممكن دوماً، ومثمر أيضاً. الخيار المعاكس يقترن بالأنانية والانسحاب من العمل العام وعدم التضامن، ولا أعرف إن كانت الحياة الشخصية للتشاؤميين بهيجة. انطباعي أقرب إلى العكس.

التشاؤم الذي أعترض عليه، على أية حال، هو التشاؤم المناضل، العام، وليس التشاؤم كمزاج شخصي قاتم. لذلك أفضل وصف أصحابه بأنهم تشاؤميون، محتفظاً بكلمة متشائمين لذوي المزاج الشخصي القاتم. التشاؤم المناضل موقف فكري سياسي مشكك بالمقاومات التحررية ضد هياكل التسلط والاستغلال، وهو في ما يخص أمثلة سورية التي ذكرتها في مقالة «خطاب العقل…» وغيرها، موقف ملموس جداً في الصراع الاجتماعي والسياسي السوري، منحاز إلى الدولة الأسدية، قبل الثورة وبعدها، وليس تشاؤماً وجودياً متصلاً بخبرة فنائنا الشخصي، أو بانطفاء الشمس. وتقديري أن المنبع الاجتماعي للتشاؤم هو أوضاع امتيازية، سياسية واقتصادية، يخشى عليها دعاة الثقافوية النخبويون من تهديد العامة المزدراة. يسمونه «طغيان أكثرية العدد»، وله بمشكلات الطائفية والسلطة غير رابطة نسب.

من المؤسف، ختاماً، أن يتكلم حسام على طريقة الثقافويين المعاندين عن سلسلة طويلة من «الإخفاقات والهزائم والفوات الحضاري والتاريخي، لا يتحملها أفراد هبطوا بالمظلات من كواكب بعيدة وملأوا الدنيا تآمراً على الشعب الطيب البسيط وباعوا ثرواته واستغلوا مقدراته، على ما تود إقناعنا أسطورة شعبوية يروجها الطغاة العرب وضحاياهم في آن. بل يتحمل جزءاً ليس باليسير منها الشعب ذاته، الذي كلما أتيحت له فرصة للتعبير عن رأيه، اختار الخيار الأسوأ». ليس هذا الكاريكاتور الخشن مناقشة جادة، ولا هو موقف فكري وسياسي عادل. أتكلم على عامة الناس أو على عموم السكان (لم ترد كلمة الشعب في مقالتي المنقودة إلا مرة في سياق يحيل إلى رأي لغيري)، وأعني بهم من لا يملكون سلطة ولا حرية، ومن يشغلون الموقع الأدنى في سلم الثروة، وطبعاً التعليم وفرص العيش. بأي معنى من يشغلون الموقع الأسوأ في المجتمع، هم المسؤولون عن «الخيار الأسوأ»؟ هذا تدمير غير مسؤول لمفهوم المسؤولية ذاته. وهو ركن ثابت في موقف نخب الطغيان والأرستقراطيات الرثة الحاكمة في بلداننا: عموم الناس «حوش» ورعاع وحثالات، وينبغي التشدد في معاملتهم، وهو أيضاً ما لا أكف عن انتقاده عند الثقافويين اليمينيين. ليس عموم الناس كتلة من الخير والطيبة، ولا من الحكمة خاصةً، وكيف للمفقرين المعنّفين المحتقرين أن يكونوا كذلك؟ لكن معنى الالتزام الاجتماعي والأخلاقي هو العمل معهم وبينهم. هناك شيء اسمه التعليم، وشيء اسمه التضامن…

ليس بين الخيارات البشرية ما ليس متناقضاً، لكن الانحياز للعامة هو الخيار الأعدل والأكرم.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى