صفحات المستقبل

عن التقنية ورواد الأعمال الإجتماعيين وكارثة الجزيرة الفراتية السورية

 


وائل علوني

التقنية هي الحل

لا يخفى على أحد الدور الذي تلعبه الشركات الكبيرة عابرة القارات، وبالأخص شركات الطاقة، في استعباد الشعوب ونهب خيراتها، ما حدا بالبعض وصف أنشطتها بالإستعمار الجديد. ولا يخفى أيضا تقزم دور الساسة والحكومات الإمبريالية وتحولها لوجوه إعلامية تتستر على أنشطة أربابها من هذه الشركات تحت مسمى السياسة والعلاقات الدولية. لقد بات عالمنا محكوما بأطماع وجشع الإقطاعيين الجدد الذي طبقو سايكس بيكو عالمية ودخلوا بلادنا عنوة بالتحالف مع زمرة من الأنظمة الفاسدة، المنتشرة بكثرة فيما يعرف بالعالم الثالث، والتي تبيع ثروات شعوبها رخيصة لأجل البقاء في سدة الحكم.

أطاحت بعض الشعوب العربية بأنظمتها وانتفضت لكرامتها، وهاهي ستضع قدميها على عتبة الديمقراطية في حال اكتمال ثوراتها. وأطلقت أنظمة أخرى الوعود بدفع عجلة التنمية والإصلاح وتقديم كل ما يمكن لتهدئة شعوبها. ولكن تبقى الأخيرة، ومع كل الوعود المقدمة، متخبطة بين جنبات الفساد الذي استشرى فيها والترهل السياسي والاقتصادي الذي لا يمكن الخلاص منه في غياب استراتيجيات فعالة. وتبقى هذه الوعود حبرا على ورق، ويظل المواطن في انتظار هذا المدد الذي سيأتيه من حكومته. وفي حالة الديمقراطيات، سيكون هناك، بالحديث بلغة المثاليات، توزيع عادل للثروات وتفعيل لمفهوم العدالة الاجتماعية والمحاسبة الشعبية وغيرها. ولكن في النهاية سيظل المواطنون أيضا في حالة اعتماد على ما تقدمه لهم حكوماتهم من خدمات ومساعدات واستثمارات. هذا هو النموذج الذي نعرفه ونعايشه، ولكن هذه المقالة ستحاول إسقاط الضوء على نموذج آخر.

بالرجوع لفكرة الشركات العالمية عابرة القارات، فكما ذكرنا، يظهر تحالفها واضحا مع الأنظمة الفاسدة التي تقدم لها التنازلات، وتمنحها الاستثناءات، وتسهم في خفض أجرة أيدي أبنائها العاملة. والدول الديمقراطية ليست بمعزل عن خبث وجشع هذه الشركات. فأمريكا وبعض الدول الأوروبية التي تعيش حياة الديمقراطية يقبع شعبها أيضا ضحية لجشع اقتصاديي السوق الحر والنيو ليبراليين. فهم من يتحزبون وينشئون اللوبيات للتحكم بالأسعار والتنعم بأرباح الاحتكار والاقتطاع. وهذا ما يجعل قرارات الساسة الصوريين بيدهم لا بيد دافعي الضرائب من الشعب. وتجدهم يجيشون آلاتهم الإعلامية لسوق الرأي العام لمصالحهم، ولا يقف في وجه مخططاتهم إلا القلة. هذا الكلام ليس طعنا في الديمقراطية، وإنما وصف سطحي لمشكلة عميقة تضع شعوب العالم ومصالحها قاطبة أمام فئة قليلة تتحكم بثرواتهم.

ماهو اذا الحل الذي يمكن به مجابهة هذا الطغيان؟ لعل أحد أبسط وأعقد الحلول في نفس الوقت هو ذلك الذي يقدمه فيلم وثائقي شهير (قد لا أتفق معه في منهج التضخيم في الطرح، ولكني أتفق مع الخلاصة التي وصل إليها). الحل هو: التقنية. طبعا ما نعنيه بمصطلح التقنية هو ليس ما يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى، أي التقنية بمعناها المرتبط بالكمبيوترات والآلات المعقدة، بل بمعناها الأشمل. التقنية باليونانية تعني علم وفن الصناعة، وتتعدد تعاريفها لتشمل: فعل الاستحداث والشغل، والتغيير الناتج عنه، والأدوات المساعدة التي صنعها المستحدث. كما أنها تمثل بحسب الفيلسوف الألماني شينغلر “فعل للتفكير وسلوك مهتم يخطط ويضع الاستراتيجيات لتحقيق غايات محددة“. ويذهب أحد التعاريف ليكون عمليا أكثر فيقول: التقنية أداة تساعدنا على إنجاز العمل بشكل أسرع وأكثر كفاءة. من الواضح إذا أن التقنية هي أداة فعل ومنهج فكر في آن واحد. فهي بذلك تمثل حلا قويا وسلاحا يمكن به مواجهة التحديات.

رواد الأعمال الإجتماعيون Social Entrepreneurs

يطرح كتاب: Social Entrepreneurs, How to Change The World نماذج ملهمة وملاحظات في غاية الأهمية عن رواد الأعمال الاجتماعيين. إن كثيرا ممن يتابعون مواضيع ريادة الأعمال التجارية لا يعرفون عن وجود هذا النوع الذي يدمج لفظة ريادة الأعمال Entrepreneurs مع لفظة اجتماعي Social والذي يتقاطع تعريفه مع فكرة أن التقنية بأيدي الناس هي الحل. رائد الأعمال الناشئة الاجتماعي لا يقوم بقياس عائد الأرباح التي جنتها شركته بالمال وحسب، بل بالأثر الاجتماعي الايجابي التي عكستها على أفراد المجتمع أيضا، والذي يكون في معظم الأحيان نتيجة توفير تقنية ناجحة ووضعها في أيدي المواطنين تحل لهم مشاكلهم، والأهم أنهم يبنونها بأيديهم هم ومن موارد بيئتهم.

يتم توزيع الأرباح على المستثمرين واستغلال الفائض في تطوير المؤسسة بالشكل المألوف. ولكن هذه المؤسسات لا يحكمها جشع السوق الحر وغيره، وإنما تحكمها في تعاملاتها الأهداف السامية والآثار الإيجابية المراد تحقيقها. وقد تتفق هذه المؤسسات في أهدافها عموما مع المؤسسات غير الربحية ولكنها تختلف عنها في انها حرة ومستقلة ولا تتبع أهواء الجهات الممولة. كما أنها تملك حرية فتح آفاق جديدة لأعمالها، والتواصل مع مختلف الفئات والجهات، دون قيود. (يدمج المؤلف في مناسبات كثيرة بين المؤسسات غير الربحية ومؤسسات رواد الأعمال الاجتماعيين، على أنه يفرق بينها في مواضع عدة بذكر النقاط التي أسلفناها في الأعلى).

رواد الأعمال الاجتماعيون هم أناس يحلون مشاكل اجتماعية على نطاق عريض وواسع. يخدمون أسواقا كبيرة جدا بموارد محدودة. شرارة التغيير الاجتماعي تتأتى عبر فرد مهووس (كما وصفه الكاتب)، يرى المشكلة ويرى حلولها ببصيرته ويعمل على تحقيقها. اذا، ريادة الأعمال الاجتماعية هو علم تطبيق المواهب التجارية وإدارة الأعمال المنتهية بفوائد على المجتمع. هل فكرت يوما في استثمار أموالك في مؤسسات تقوم ببيع آلات للمزارعين بالأقساط (مع زيادة ٢-٣٪ من سعر الشراء) وتمكنك من متابعة أدائهم في أراضيهم، والتزامهم بإعادة هذه الأقساط على دفعات مريحة، وتحصيل ربح منها وفي ذات الوقت تحقيق فائدة لمجتمعك؟ هذا هو المبدأ الذي تعمل عليه مؤسسات رواد الأعمال الاجتماعيين بشكل مبسط.

تعتبر ريادة الأعمال الاجتماعية أحد أحجار الزاوية المهمة في التنمية الملحوظة التي شهدها العالم في الثلاث عقود الماضية، وقد أطلق عليها البعض مؤسسات ومنظمات المواطن. وهناك دول تعتمد بالكامل على مؤسسات كهذه في مشاريعها التنموية كبنغلاديش (٢٠ الف مؤسسة). وفي دول كفرنسا، يزداد عدد هذه المؤسسات بمعدل ٧٠ الف سنويا (الأرقام التالية كلها تتكلم عن فترة التسعينات وبداية ال ٢٠٠٠). في كندا يبلغ عددها ٢٠٠ الف، والبرازيل ٤٠٠ الف، و ٧٥٠ الف تقريبا في أمريكا.

هذه المؤسسات كانت تاريخيا تصنف بمؤسسات غير ربحية أو حكومية بالمعنى السلبي (وما يتخللها في كثير من الأحيان من فساد وبيروقراطيات)، ولكنها في يومنا هذا تشكل قطاعا اقتصاديا مهما بات يعرف بالقطاع المستقل، أو قطاع المواطن.

إن أحد الفروق ما بين رواد الأعمال التجارية ورواد الأعمال الاجتماعية هو في تعريفهم لدور “الأفراد“ المستهدفين في مساحات العمل التجاري أوالاجتماعي. هو نظرتهم لفائدة المنتجات أو الخدمات التي يوفرونها للفرد ومدى تأثره بها. ويلزم توضيح أيضا أن ريادة الأعمال الاجتماعية تختلف عن التجارية في أن الأخيرة سريعة المردود نسبيا بعكس الاجتماعية، ولكنها كما ذكرنا، لا تغلب جانب تقديم الفائدة الإيجابية للمجتمع، وربما لا تنظر إليه في الأصل.

لطالما غلبت نظريات التغيير الاجتماعي جانب “الفكرة الفاعلة” في تغيير المجتمعات وحل مشاكلهم وتحريكهم، وقللت من العكس، أي دفع الناس للفكرة نحو النجاح. ففي تفاصيلها نجد أنها تقول بأن الفكرة تتوسط خشبة المسرح والناس هم الجمهور. ولكن مؤلف الكتاب لا يتفق مع هذا التوجه فيقول بأن الفكرة هي كالمسرحية، تحتاج مخرجين وممثلين ومنتجين لتحويلها الى تحفة. ويطلق المؤلف على من يخرجون ويكتبون المسرحية وصفا لطيفا وهو أبطال الفكرة idea champions.

أحد أبرز الأمثلة للمؤسسات التي تنتهج هذا النهج هو بنك الفقراء “غرامين“ في بنغلاديش والذي استحدث فكرته محمد يونس، وحاز جائزة نوبل في الاقتصاد على ذلك. لن نخوض في فكرة هذا البنك ولكن يكفي لنقول أن عدد المقترضين منه يبلغ ٧.١ مليون مقترض منتشرون في ٧٧ الف قرية. ومما لاحظه المؤلف أن رواد الأعمال الاجتماعيين الناجحين لا يسعون نحو الثراء والمال، بل هم تواقون لعمل سلالة وأناس يحيطون بهم كعائلة كبيرة، بالإضافة الى الرغبة في الوصول لإحساس الانتصار في معركة تنافسية، والاستمتاع بلحظات التطوير والإنشاء الإيجابي *.

قصة فابيو روزا:

الكتاب حافل بقصص رواد أعمال اجتماعيين ناجحين، فإحداهن أنشأت في البرازيل مؤسسة لاحتضان المعاقين ومرضى التوحد وتوظيفهم في أعمال روتينية (أثبتوا إتقانهم في مجال الأعمال الروتينية) والتحصل على راتب مجز يعيشون عليه، دون إغفال حياتهم الاجتماعية والروحية وحتى الجنسية ومساعدتهم على ملئها (وتستفيد طبعا صاحبة المؤسسة بالتحصل على نسبة من الأرباح). وفي الهند نجد مدرسة شابة حققت حلمها بافتتاح مؤسسة تهتم بعمل ورش عمل وأنشطة لا صفية لطلاب المدارس والأحياء الفقيرة في المناطق الزراعية والمفتوحة لإكسابهم خبرة عملية فيما يتعلمونه في كتبهم، وقصص أخرى كثيرة، لكنني سأتكلم عن قصة الشاب فابيو روزا في البرازيل.

في ١٩٨٢ وفي عمر ٢٢ سنة، بدأ حلم إيصال الكهرباء الى الفقراء في البرازيل بمداعبة خياله. وكان أكثر ما يحزنه رؤية المزارعين وهم ينزحون مرغمين الى المدن، حتى أنه سأل العديدين منهم عن مطالبهم، فقالوا نحن نريد تعليم أطفالنا، والتخلص من الفقر والبقاء في أراضينا.

بدأ فابيو بالبحث عن المشاكل التي يواجهها الفلاحون في أراضيهم والتي تؤدي في نهاية المطاف الى نزوحهم منها. تشتهر تلك المنطقة بزراعة الأرز الذي يتطلب مياها كثيرة، فوجد أن كلفة المياه لوحدها تكلف الفلاحين ربع كلفة انتاج الأرز الكلية. يتم توفير المياه عبر الآبار الارتوازية والتي يتم حفرها بمعدات تتطلب الكهرباء. وبالتعمق في المشكلة، اتضح أن شبكة الكهرباء التي بنتها الدولة تعتمد معاييرا وتقنيات تكلفتها مرتفعة مخصصة للمدن، مما جعل تكلفة تمديد واستهلاك الكهرباء لمنزل الفلاح الفقير تكافيء مدخوله من بيع محاصيله لمدة ٥ الى ١٠ سنوات!!! والأمرّ من ذلك أنه لن يوظف كل الطاقة المتاحة له (تخيل أن يتم تمديد خط كهربائي يستوعب قاطني عمارة من ٣ أدوار لمنزل فلاح فقير واحد).

أثناء بحث فابيو عن حلول، اهتدى لبحث كان قد أعده بروفيسور في جامعة محلية يحوي تصميما لنظام تمديد كهربائي رخيص ومخصص للمناطق النائية والزراعية محدودة الاستهلاك. الأهم في هذا النظام هو تحقيقه لشرطي نقل وتفعيل التقنية الأساسيان واللذان يغيبان عن المسؤولين تماما في مشاريع التنمية الهزيلة التي نراها وهي: أنه يتم بناء هذه التقنية بأيدي أبناء البلد (هذا النظام من البساطة أنه يمكن بناؤه بأيدي عمال وفلاحين محليين) والثاني استخدامه في الأساس لمواد محلية من صلب البيئة (فبدلا من بناء أعمدة الاسمنت الغالية والمستوردة في هذا النظام الكهربي، يتم استبدالها بالخشب، والحديد المصنع بدلا من أسلاك النحاس، وخليط الحديد و الزنك بدلا من موصلات الألمنيوم).

قام فابيو على إثر ذلك بإنشاء مؤسسة تعلم الفلاحين كيفية الاستفادة من هذا النظام في زراعة الأرز (تقنية حفر الآبار الارتوازية بأعماق ضحلة ومن ثم استخدام مضخات متوافقة مع النظام الكهربائي) مقابل مبالغ معقولة جدا جدا للمزارعين، بالإضافة الى توفير إمكانية أخذ قرض للبدء مباشرة في تطبيق التقنية وإعادته على دفعات وبفائدة مقبولة.

طبعا الانسان عدو ما يجهل، لذلك كان عدد المتعاملين مع مؤسسة فابيو قليلا، ولكن النتائج المذهلة دعت الفلاحين الباقين للتسجيل فورا في شركته (قفزت العائدات الشهرية للفلاح الواحد من ٥٠-٨٠ دولار الى ٣٠٠-٤٠٠ دولار). عندما تسأل فابيو عن مدى نجاح شركته، فإنه لا يجيبك بمقدار الأرباح المالية التي حققها، بل بمقدار الفلاحين الذين عادوا الى أراضيهم من جديد بعد أن نزحوا إلى المدن! نجاح باهر وطريقة فريدة لقياس مدى نجاح العمل!

الكتاب يسرد الظروف والتجارب الصعبة التي مر بها فابيو وانتصر عليها. فابيو يعمل الآن في شركته الجديدة والتي تبيع أنظمة الري الرخيصة التي تعمل بالطاقة الشمسية. ولابد من المرور على درس مهم تعلمته من تجربة فابيو وهو أنه لم يبع الخلايا الشمسية للفلاحين مجردة، لأنه يريد بيعهم تقنية وحلا مفيدا وليس مجرد خلايا شمسية تكلفتها مرتفعة لن يستطيعوا معها تدبيرا. لذلك اطلع على أبحاث لدكاترة جامعات عن أنظمة ري رخيصة تعمل بالطاقة الشمسية، ووجد ضالته في إحداها، وبات يبيع النظام ومعه الخلية الشمسية كحل واحد، فلم يعد الفلاح ينظر للمنتج بأنه مرتفع ثمنه ولن يعرف تشغيله كما لو بيعت الخلايا منفصلة، بل هو يشتري نظاما وحلا مفيدا وجاهزا للتنصيب والتشغيل.

في دولنا العربية، نحن بأمس الحاجة لهؤلاء الناس، رواد الأعمال الاجتماعيين. صحيح أن مؤلف الكتاب ذكر في مقدمته أن هؤلاء الرواد ينظر إليهم كأعداء من قبل الأنظمة الديكتاتورية (النظام الديكتاتوري المستبد يقتات على التحكم الكامل بالمجتمع، ورائد الأعمال الاجتماعي يسهم في رفع هذا التحكم ويشارك نوعا ما فيما سماه شباب أكاديمية التغيير في كتابهم “حرب اللاعنف“ بالتجويع السياسي)، إلا أن ٢٠١١ حملت رياح التغيير إلى أقطار عدة، فبات تواجد رواد الأعمال الاجتماعيين قابلا للتحقق في مصر وتونس مثلا، كما هو الحال أيضا في الدول التي تعد شعوبها بإصلاحات واسعة النطاق، ليكون ربما هذا الموضوع محل اختبار لوعودهم.

كارثة الجزيرة الفراتية السورية، ومجموعة من الحلول

في بلدي سوريا، هناك أزمة جفاف الجزيرة الفراتية السورية والتي كانت فيما مضى منطقة خضراء ضخمة، يانعة غنية، وتشكل مصدرا غذائيا مهما. هذه الأزمة هي بالفعل أبرز ما يتبادر الى ذهني كلما تذكرت الوطن. الصور التي وصلتنا لمخيمات أهلنا من نازحي الجزيرة الفراتية وشرق سوريا على أطراف مدينة دمشق مؤثرة جدا ومحزنة. أكثر من ٥٠ الف عائلة نزحت في ٢٠١٠ وحدها الى مخيمات فقيرة جدا وبدائية على تخوم دمشق، وإحصائيات الأمم المتحدة تبين أن ٨٠٠ الف ممن بقي في الجزيرة والمنطقة الشرقية ككل (يقطنها ٥ ملايين نسمة) يعيشون فقرا مدقعا. يعيشون في مخيمات قوامها صفائح الألمنيوم والقماش البالي الذي لا يقي حرارة الصيف ولا برد الشتاء. الأطفال بالكاد يتحصلون على الطعام، فما بالنا بحقوقهم على المجتمع من تعليم وصحة وغيرها. عن الشباب والنساء والكهول، فالوضع ليس بأحسن حال، بل هو مزر جدا. تنظر نحوهم بحرقة وأنت لا تملك لهم نفعا إلا مبادرات عظيمة الأثر متواضعة الإمكانات كتلك التي قدمها شباب رائعون (وأخص بالذكر الشاب الرائع عامر مطر الذي اعتقل منذ بضعة أيام على أيدي أعداء الحرية والضمير). وتنظر بحرقة ونقمة تجاه التجاهل الرسمي لقضية أهلنا النازحين داخل وطنهم، وتقاعس الجهات الرسمية عن التعاطي مع المسألة. نعم نحن نعلم أن تلك المناطق تمر بموجات من الجفاف القاسية، ولكننا نعلم أيضا أن هنالك استغلال جائر لمصادر المياه السطحية والجوفية من بعض الأطراف التي نعرفها جيدا وبطء شديد في مشاريع التنمية هناك، ونعلم أيضا أن سوريا بلد زراعي، وعلى حكومتنا أن تولي هذا القطاع اهتماما كبيرا جدا. ولكننا نعود لذات المشكلة وهي أن الحلول المقترحة من الخبراء تدور حول استجداء الحكومة للتدخل فورا بإنشاء المعامل وزيادة فرص العمل والاستثمار والدعم الزراعي ووو الخ الخ. ولعلنا بعد كل ما ذكرناه في هذا المقال نفكر بطريقة مختلفة في حلول ناجحة للجزيرة الفراتية، بطريقة رواد الأعمال الاجتماعيين.

قررت البحث عن حلول لهذه المشكلة على ضوء موضوع ريادة الأعمال الاجتماعية كمحاولة لإشعال شمعة في الظلام، واهتديت الى تقنية طورها فريق بحثي استرالي ونقلوها الى بلد عربي شقيق وهو الأردن. التقنية تسمى الزراعة المستدامة وهي طريقة مخصصة للمناطق شحيحة الأمطار وتهدف الى حبس كل نقطة مطر. تعتمد هذه الطريقة على عمل وسط حافظ لمياه الأمطار والري بحفر الأرض على عمق معين ، ومن ثم وضع طبقة تعزل الماء وتمنعه من النفاذ الى باطن الأرض، وهذا الحفر ليس اعتباطيا إنما يتم بآلية وشكل معين، ومن ثم يتم زرع المحاصيل بشكل تدريجي معين يعتمد على طول وكثافة النباتات بحيث يتم حبس بخار الماء قدر الإمكان، وإبقاء الوسط المزروع رطبا على مدار أيام السنة. هذه التجربة تم تنفيذها في أراض تبعد ٢ كم عن البحر الميت حيث الحرارة تفوق الخمسين مئوية، والأراضي جافة جدا، والجميع يستخدم للزراعة المواد الكيميائية والحلول المكلفة والتي تقتل التربة قبل كل شيء.

لاختبار طريقتهم في تلك المناطق، قام الفريق بتفعيل النظام المذكور على طول أرض مساوٍ لـ ١.٥كم ويمكنكم متابعة النتائج والعملية كاملة في المقطعين التاليين (١ و ٢ في الأسفل). من أبرز النتائج إصلاح التربة وإعادتها للحياة (أكثر ما أثار استغرابهم وأسعدهم بنجاح نظامهم هو ظهور ثمار التين التي كان يستحيل نموها في تلك المناطق وظهور الفطر وحشرات عديدة، وضفادع!! تذكروا أن الأرض كانت مقفرة تماما ولا تصلح لتواجد هذه الكائنات).. نجاح هذه الطريقة يثبت عملها في أقسى الظروف.

المقطع ١

المقطع ٢

(رابط يحوي شرحا جيدا عن العملية)

قام الفريق طبعا بنقل التقنية للفلاحين الأردنيين ومن المهم الإشارة الى أنه في المقطع يظهر الباحث محمد عايش ليروي تجربته مع الزراعة المستدامة وكيف أنه يحمل شهادة تخوله التدريب على استخدام هذه التقنية وكيف أنه وثق خبرته في كتاب يتم توزيعه على المزارعين لتعليمهم تقنية الزراعة المستدامة. كما أنهم نجحوا بإقناع الجامعة الأردنية بتدريس هذه التقنية وتطويرها.

أنا من المؤمنين أن تطبيق هذا الحل في سوريا في منطقة الجزيرة الفراتية هو أحد مفاتيح النجاح المهمة لحل هذه المشكلة. وهذه فكرة جاهزة لمن يجد في نفسه روح ريادة الأعمال الاجتماعية بحيث ينشيء مؤسسة هدفها تدريب الفلاحين على هذه التقنية وتقديم قروض مريحة لهم، ودعوة الناس للاستثمار في مؤسسته. فالحل في النهاية هو بيدنا نحن.. بيد الشعوب.

في الختام، أود الإشارة الى أن صديقي العزيز هاني افتتح مدونة جديدة وهي تتحدث عن موضوع مشابه لما كتبته هنا، وهو توارد أفكار لطيف جدا 🙂 وهاهي مدونته والموضوع الذي يتحدث فيه عن تقنيات زراعية جديدة مقترحة، ولكن الفرق أنه يقترح على الحكومة تقديم هذه التقنيات، ولكني وبإسقاط ما كتبته هنا على ما كتبه في مدونته، أرى أنها تقنيات ممتازة يمكن لرواد الأعمال الاجتماعيين جلبها ونقلها لفلاحي وطننا، ومساعدتهم في الرجوع الى أراضيهم التي لطالما أحبوها، وأحببناها معهم.

——

*: يسرد الكتاب قصصا لرواد أعمال اجتماعيين ويدرس مؤسساتهم ليخرج بعدد من الملاحظات المهمة، أحد هذه الملاحظات ما سماها بـ “٤ ممارسات للمنظمات المبدعة” وهي: ثقافة الاستماع (كل مكالمة او حوار مع اي فرد مهم جدا ويجب أخذه بعين الاعتبار، ولا يتوجب التقليل من شأنه كونه فلاح أو عامل ثقافته قليلة، تذكر أنك تعمل لحل مشاكلهم، فهم من يتوجب الاستماع اليهم)، التنبه الدائم للتفاصيل والأمور الاستثنائية (في تجربة محمد يونس، كان دائما ما يقال له إن الفقراء لا يعتمد عليهم في شيء، ولكنه لاحظ العكس، لذلك غير من استراتيجية بنكه ونظامه ليمنح الثقة فيهم ويفترض اعتماديتهم في الأصل، لا العكس)، تصميم حلول واقعية لأناس واقعيين (مثال مؤسسة Gapa-Bahia التي تهتم بالحد من انتشار الإيدز في الأحياء الفقيرة شمال البرازيل عبر ورش أعمال وحملات توعوية وتوظيف من يتدربون على يديها. فهي عندما تنزل للمجتمع المستهدف، لا تذكر أمام أفراده كلمة ايدز ولو لمرة واحدة خلال ٦ اشهر. “فأنت ان تحدثت معهم عن الايدز ومخاطره، فسوف يدخل كلامك من اذن ويخرج من الثانية“ كما قال مؤسسها. لذلك فهذه المؤسسة أيقنت بأن الناس يتوجب البدء معهم في تثقيفهم عن أجسامهم وصحتهم وظروفهم المعيشية، وحتى عن كونهم ذكورا وإناثا، بشرتهم سمراء أو بيضاء. وبعد تقديرهم لأجسادهم وصحتهم، تبدأ المؤسسة بالحديث معهم عن الإيدز)، أخيرا، التركيز على الطاقم العامل في المؤسسة من ناحية تحليه بالقيم الانسانية التي يتطلبها هذا العمل، وهي مهمة صعبة ولكنها ضرورية. لذلك تلجأ عدد من المؤسسات والمنظمات لعمل اختبارات صارمة لهذه الجوانب والقيم قبل التوظيف.

 

http://wa2el.net/blog/2011/04/03/tech-socentrep-syria/

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى