صفحات الرأيماهر مسعود

عن الثورة ومشكلة النموذج…/ ماهر مسعود

 

 

قلنا في مقال سابق («الثورة في زمن العولمة»، الحياة 25/8/2011) إن ثورات الربيع العربي تحدث في زمن العولمة، وهو أمر ذو خصوصية تاريخية لا بد من رؤية آثارها في التحولات الايجابية والسلبية لمسار «الربيع العربي» ضمن إطاره الكوني الذي تمثله العولمة. فـ «لا يمكن أي دولة في عصر العولمة القيام بثورة سياسية مستقلة وجذرية ومنفصلة عن السلسلة المعقدة والمترابطة للعلاقات الدولية» (المقال ذاته).

بداية ما هي العولمة؟ إن أردنا التكثيف نقول إنها انتصار النموذج الرأسمالي الغربي بمضمونه الاقتصادي والسياسي والثقافي الكلي، وسيادته في أربع جهات الأرض. ثم ماذا تصبح السياسة في عصر العولمة؟ سنقول إنها اقتصاد مُبرَّر، ومُفسَّر، ومنقول إلى لغة مصالح بشرية وعقلية. هو، الاقتصاد، سيّدها. فبعد أن كان للأخلاق دور مماثل أو مقارب للاقتصاد في عصور سابقة، فإن السياسة في عصر العولمة تكاد تصبح اقتصاداً براغماتياً محضاً، بل اقتصاداً مجرداً ومنفصلاً عن الكيانات التي أنتجته، ومن ضمنها، غير الأفراد والمؤسسات، كيان الدولة بمعناها القومي الما قبل عولمي.

إن مشكلة النموذج في عصر العولمة واقتصادها السياسي، هي في عدم وجود نموذج ثابت لتحولاتها، بمعنى آخر، إن العولمة ذاتها هي فوق أو عبر نماذجية، من حيث إن التعدد النماذجي في صلبها، والأيديولوجيا لعبتها لا حاكمتها، ما يجعل شكلها ومضمونها متعدداً لا واحدياً. فعصر العولمة هو عصر ما بعد الأيديولوجيا، وما بعد الحداثة وما بعد التاريخ… الخ، عصر «أفول المتعالي وخسوف المعاني الكبرى المقدسة» إن استعرنا عبارة نيتشه.

أما مشكلة النموذج مع الثورات، فتكمن بتقديرنا في أن الثورات قامت في بداياتها بالتلاقي مع زمانها، وتشبه زمانها، وهو زمان معولم غير منمذج أيديولوجياً، ولذلك فهي ثورات قامت بلا أيديولوجيا أو ما فوق الأيديولوجيا إن صح التعبير. لكن مسألة النموذج الثوري بقيت «عقبة ايبستمولوجية»، معرفية، وسياسية لم يتوقف عن طلبها أو الحنين إليها، ومن موقع نكوصي، ممثلو الأحزاب اليسارية التقليدية (الشيوعية أكثر من غيرها)، مثلما لم يتوقف عن العمل باتجاهها، بذات الروح النوستالجية، مشروع الإسلام السياسي (المتطرف أكثر من غيره)، منذ بداية الثورة السورية وتداعيات الثورة المصرية في شكل خاص.

فاليسار المحلي، وحتى العالمي، كان معادياً للثورات العربية، كونه محكوماً بنماذج أيديولوجية مُفوَّتة تاريخياً، يقف على رأسها نموذج الثورة البلشفية وملحقاتها اللينينية والماوية والستالينية حول العالم، وهي نماذج أصبح فواتها التاريخي محققاً في الواقع منذ انهيار المعسكر الاشتراكي. أما الإسلام السياسي، فكان معادياً للثورات بالقوة، مع أنه معها، بل أصبح واجهتها، بالفعل، وذلك كونه محكوماً بنموذج مخيالي يعود للفتوحات الإسلامية، ومُحمَّلاً بالأيديولوجيا الدينية المقدسة، المعادية بدورها لمحرزات العصر بدءاً من حقوق الإنسان العالمية وانتهاء بالدولة الحيادية، أي دولة القانون الوضعي والدستور المدني خارج التشريع الديني أو المذهبي من أي نوع كان.

لكن غياب النموذج، أو حضور النموذج العولمي «اللانموذجي» في أساس الثورات التي قادها الشباب في البداية، جعل الثورات تبدو كقفزة في المجهول في ظل الفوات التاريخي للنماذج الإسلامية واليسارية القائمة كما قلنا، وفي ظل انعدام الأساس الراسخ للنموذج الديموقراطي الليبرالي المعاصر في بلادنا، ولكن أيضاً ضمن واقع حضور النظم الديكتاتورية، الجامعة لأحط ما في تلك النماذج مجتمعة في صلب سلطاتها القائمة.

من جهة أخرى، اجتمع في روح الثورات ذلك التناقض الذي لم يجد له بعد طريقاً للخلاص، وهو أن روح الثورات وشعبيتها كانتا تتجهان نحو غرب منزوع السياسة، أي نحو الديموقراطية والحرية والدولة المدنية، وهي جميعها مستقدمة من المثال الغربي، لكنها رافضة وجدانياً لشكل الغرب السياسي الذي مثلته السياسة الغربية، الأميركية بوجه خاص، تجاه قضايانا الرئيسة وعلى رأسها قضية فلسطين واحتلال العراق.

اليوم، مع بداية التدخل العسكري المباشر، ودخول السياسة الأميركية مرحلة جديدة، يبدو التناقض الثوري في أعلى مراحله، وفي أكثرها حاجة للحسم، حيث إن السؤال المحرج والمؤجل لم يعد قابلاً للتأجيل ولا للإخفاء خلف الشعارات والتكاذب السياسي والثقافي، ويبدو المطلوب من قوى الثورة والمعارضة أن تحدد رهانها وتصيغه في شكل واضح. فإذا كان النموذجان الإسلامي واليساري مثلما تعيّنا، وأثبتا في الواقع، معاديين موضوعياً للثورة، وقد عبر عنهما كل من الإسلام السياسي السنّي المدعوم خليجياً، والإسلام السياسي الشيعي المدعوم إيرانياً، في مقابل اليسار «العلماني» الذي عبر عنه النظام السوري المدعوم من مجمل الأنظمة الشمولية المحتكمة لليسار مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا… الخ. فإن النموذج الوحيد المتبقي هو النموذج العولمي، أي نموذج الليبرالية الديموقراطية الغربية التي تقف في أعلى قمتها الولايات المتحدة الأميركية.

إن ذلك الواقع الفجّ والذي يثير أعلى منسوبات التناقض الوجداني العربي، ويُشكّل أسّ التناقضات التي تحكمنا، لا يعني الرضوخ للسياسات الغربية في المنطقة، بقدر ما يعني تبيئتها، واللعب السياسي ضمن أدواتها وبلغتها، والرد عليها أو التحرك ضدها ضمن معاييرها القيمية ذاتها. فالغرب الذي تمثله أميركا اليوم هو غرب ديموقراطي ذاتياً، لكنه غرب عنصري ضدنا وفي تاريخنا، والمواجهة معه من قلبه القيمي تختلف جذرياً عن المواجهة معه من خارجه على الطريقة الإسلامية أو الشيوعية في شيطنته. بل إن الصيغة الواقعية لهذا الغرب تجعل من غير الممكن لك أن تأخذ القانون والديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان والليبرالية الاقتصادية، بمعزل عن وجهها الآخر الذي هو أيضاً من صلبها، أي الرفع من شأن القيمة البراغماتية الصرفة للاقتصاد في السياسة، وجعل الأخلاق السياسية عبارة عن فائض قيمة سياسي لا أكثر ولا أقل… مع أن العكس وارد، بل هو ما كان محققاً على نحو دائم في علاقة أنظمتنا بالغرب.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى