صفحات الناسناصر الرباط

عن الحب في زمن اللجوء…/ ناصر الرباط

 

 

فتاة نحيلة، تجلس وحيدة على صف كراسٍ في عربة القطار الذي يصل المدينة بالبلدات المحيطة بها والذي أستقله كل يوم. تضع شنطتها البيضاء الكبيرة والمنفوخة بما تحتويه على المقعد المجاور لها. شعرها أسود فاحم، كثيف ومتموج. عيناها تبرقان بفرح وشقاوة. أنفها دقيق ووجنتاها نحيفتان. على فمها الصغير ابتسامة تشع سعادةً ورضا. ترتدي، ككل الشباب من عمرها، بنطلون جينز وحذاءً رياضياً أبيض. لفت نظري أنها، في هذا الحر غير العادي الذي تسلل إلى منطقتنا، ترتدي قميصاً زهري اللون، سميك الخامة، طويلاً، وأكبر من مقاسها، وكماه الطويلان المزرران يغطيان ساعديها. لكنها مع ذلك أنيقة أناقة أنثوية بريئة ولافتة للنظر. تجلس في فراغ القطار بارتياح المعتاد وحر الحركة، وتضع واحدة من ساقيها بلا مبالاة على حافة مجرى التهوية الممتد على جدار القطار. ترتدي قلادة فضية كبيرة مع نقوش معاصرة وصارمة وبعض الأساور الفضية التي تبان من تحت الكم. وتضع في أذنيها الاكسسوار الضروري لكل شباب العصر، سماعات الأي فون الذي تمسكه بيدها وتتكلم مع شخص ما على الطرف الآخر من الأثير.

كنت جالساً، وحدي أيضاً، في صف الكراسي المزدوجة التالي لصفها والمواجه له. أحاول التلهي بالقراءة على شاشة كومبيوتري المحمول ولكنني أنظر باتجاهها بين الفينة والأخرى. وأرى انعكاس صورتها على زجاج القطار الكبير بكامل الوضوح في هذه الليلة الحارة والرطبة. لم أنتبه في البداية للغتها ولم أسمع ما كانت تقوله عبر هاتفها. ولكن في لحظة سكون عند توقف القطار في محطة محلية وخفوت هدير محركاته، سمعتها بكل وضوح تقول بلهجة سورية شمالية، ربما حلبية، وبصوت متناهي النعومة: «إنت بدك حدا يحبك حب حقيقي متل ما بحبك»، وتبتسم راضيةً بما قالته وبما يظهر أنها كانت تسمعه من الطرف الآخر. أثارت هذه العبارة فضولي وبدأت أرهف السمع لما تقوله، مدفوعاً في الآن نفسه بالفضول الإنساني الطبيعي عند سماع حديث حميم، بخاصة حديث في الحب، وبالحشرية السورية المتنامية في زمن اللجوء عند سماع فتاة (أو أي شخص آخر) من بلدي الذبيح تتكلم بالعامية السورية وبملء راحتها وتعبر عن مشاعرها من دون خوف من رقابة أو وشاية، مما تعود السوريون على العيش في ظله في حياتهم العامة والخاصة في الآن نفسه، تكبلهم في ذلك عادات اجتماعية قاهرة وبالية ونظام حكم استبدادي لا يرحم.

لم أسمع كل ما كانت الفتاة تقوله والابتسامة الراضية لا تفارق ثغرها. لكن الحديث كان حديث حب واشتياق واضح. وكان الكلام، أو على الأقل ما وصل إلى مسمعي منه، يرن رقيقاً، حنوناً، ومحباً. كانت الفتاة تردد بين الفينة والأخرى كلمة «بحبك» بلهفة وصدق، فأنستني الانطباع السلبي الذي اكتسبته هذه العبارة بعدما طلسها ابن عم الدكتاتور السوري، رامي مخلوف، بصيغة الجمع العامي، «منحبك»، على لافتات عليها صورة بشار الأسد والعلم يرفرف من ورائه في كل أرجاء سورية بمناسبة مهزلة إعادة انتخابه قبل الثورة. في الحقيقة، لم أكن أسمع تعبير «بحبك» بقدر ما كنت أقرأه في تكور شفتي الفتاة عند نطقها تتبعها بعبارات تبدو عذبة ولو أنني لم أتمكن من سماعها. كانت الفتاة تغطي فمها أحياناً عندما تتسع ابتسامتها وهي تسمع الجواب، الذي كان عادة أطول من عباراتها، وربما أكثر إرضاءً لشغفها بدليل سعادتها البادية. أحسست شخصياً بتعاطف عميق مع قصة الحب هذه والفتاة السورية الناعمة التي تمر بها، والتي كانت على الأغلب من طالبي اللجوء المحظوظين الذين قبلت طلباتهم وسويت أوضاعهم واستقروا في ألمانيا، كما لاح لي من مظهرها ومن الثقة التي تشع منها في تعاملها مع محيطها. ولعلي بدأت أبتسم أنا أيضاً. ثم انتبهت إلى نفسي ولم أشأ أن أزعجها بإعطائها أي إشارة إلى أنني أفهم ما تمر به وما تعبر عنه. فالتفتّ بعيداً عن الزجاج لكي لا أتطلع إليها. ولكني سرعان ما لمحتها بطرف عيني تقف وترفع شنطتها الجلدية البيضاء المنتفخة.

عدت للتطلع إليها. وجدتها تخرج من الشنطة وشاحاً أبيض طويلاً. عادت إلى الجلوس وطوت الوشاح على حضنها. وبحركات متأنية ولكن عارفة بدأت تلف شعرها الطويل حول نفسه ورفعته فوق رأسها كتلة سوداء كثيفة وربطته بمطاطة. ثم أخذت الوشاح وبدأت بلفه حول رأسها ورقبتها لفتين أو ثلاثاً بحيث أحاط النسيج الأبيض وجهها تماماً مشكلاً حجاباً كاملاً مما تعودنا رؤيته في سورية في السنوات الأخيرة قبل الثورة. قامت ثانيةً، والابتسامة لا تفارق ثغرها، وأخرحت من شنطتها ما بدا لي معطفاً صيفياً رقيقاً ورمادي اللون، فردته ولبسته فوق ثيابها، وزررته. ثم وضعت ياقة المعطف تحت أطراف الحجاب الأبيض. وعادت للجلوس: محجبة سورية تامة الحجاب. لكنها كانت ما زالت تضع سماعات الأي فون في أذنيها تحت الحجاب. والأهم من ذلك، كانت ما زالت تبتسم ابتسامتها الرقيقة والطافحة سعادة. فقد كان حديث الحب الذي توقف قبل دقائق ما زال يغذي خيالها بصور ممتعة لم يبد لي أن تغييرها لمظهرها قد خفف من تأثيرها أو محاها.

كنا قد وصلنا إلى محطتي، وقمت مغادراً القطار من دون أن يتاح لي رؤية كيف ستعود الفتاة إلى عالمها السوري الصغير والمهاجر الذي جاءت به ومعه. تخيلتها تصل إلى وجهتها وتنزل من القطار إلى عائلة محافظة تنتظرها. تدخل عليهم محجبةً كما ينبغي. تسلم وربما تقبل يد أبيها وأمها، وتنهمك في الوظائف المنتظرة منها في بيتها. وتخيلتها أيضاً تبتسم لنفسها بحبور وهي تعيش على ذكرى كلمات الحب ونسائم الحرية التي تتيحها لها حياتها الجديدة في ألمانيا. وتبتسم أكثر لتوقعها استعادة تلك الحرية في الغد عندما تغادر المحيط الأسري ثانيةً، وتنطلق إلى الفضاء العام في المدينة حيث تمارس حريتها من دون رقيب. وتمنيت لها النجاح في المحافظة على التوازن الضروري بين محيطيها وهي تربي أجنحتها الجديدة في بلد اللجوء استعداداً للانطلاق نحو حياة أرحب مع من تحب.

* معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى