صفحات الناسعارف حمزة

عن الحدائق ومنصّفات الشوارع في سوريّا/ عارف حمزة

                                            هي فكرة مضادة لفكرة الموت تحت الأنقاض، فكرةُ انتشال الضحايا وعدم القدرة على مواراتهم في المقابر العامّة؛ فالسوريّون لا يجدون الأمان في طريقهم لأخذ ضحاياهم إلى هناك، بسبب تكرار قصف تلك الجنازة التي كانت سرعان ما تعود، لتحمل المزيد، من الجنازات، ممّن كانوا راجلين خلف الجنازة الأولى. فصاروا يرتجلون مقابرهم الجديدة خلال هذه العاصفة الوحشيّة التي تدور لإنهاء حياتهم الجديدة التي عثروا عليها فجأة.

والنظام السوريّ يستطيع من أجل إلقاء القبض على ثلاثة أشخاص، مثلاً، أطلقوا على جنوده النار، أو على صورة قائدهم المفدّى، أو نادوا بالحريّة وإسقاط النظام، أن يهدم حيّاً سكنيّاً بأكمله، حيّاً مكتظّاً بأطفاله وعجائزه ومرضاه ونسائه، وحتّى ببعض المؤيّدين له، المتواجدين في ذلك الحيّ، في طريقه لقتل أولئك الأشخاص المتجرّئين عليه!

في حيّ الأربعين، وفق ما نقل إليّ صديقي المحاميّ عبد المنعم، كانت هناك دباّبتان قد دخلتا الحيّ، وتقومان بعملهما المحبوب في تجريف الاسفلت، وتنقلان سبطانتهما، باستعراض كبير، بين الشرفات على جانبيّ الشارع، بينما الجنود الراجلون حولهما كانوا يُطلقون الشتائم لناس الحيّ، الذين نزل الكثير منهم إلى الأقبية. ثمّ بدأو في الهتاف بحياة الأسد الذي سيحرقون البلد من أجله، وبأنّهم شبّيحته للأبد، مع باقي مقاطع السيمفونيّة القميئة في شتم أعراض الرجال. فجأة أطلق شخص ما رصاصتين من مسدس شخصيّ من إحدى شقق البنايتين المتلاصقتين في نهاية الشارع، يقول عبد المنعم. لم يقم أحد باقتحام الشقق، أو الردّ على الرصاصتين بالرصاص، بل تمّ هدم البنايتين بالكامل بقصفها الجنونيّ من قبل الدبّابتين، ومات تحت الأنقاض أكثر من عشرين شخصاً!

هذه ليست حادثة نادرة أو عابرة، في العقاب الجماعيّ من قبل النظام السوريّ للخارجين عليه من أجل الحريّة، بل هي قاعدة أساسيّة في الحرب الدمويّة التي أدارها النظام منذ أكثر من عامين ونصف؛ فهو في طريقه لقتل الأشخاص الثلاثة، السابقي الذكر مثلاً، يقوم بترويع خمسة آلاف آخرين. كي لا يُفكّر أولئك الخمسة آلاف بتقليد ثلاثة أشخاص، أو، على الأقل، كي لا يُدافعوا عنهم.

في المناطق التي تعرّضت للقصف الوحشيّ ما عادت الطريق إلى المقبرة القديمة ممكنة السلوك؛ بسبب استهداف التشييع، كلّ تشييع، بالبراميل المتفجّرة أو قذائف الهاون. أو لأنّ الذهاب إليها ما عاد مجدياً، بسبب امتلائها بالضحايا، ضحيّة فوق أخرى. ومن أجل ذلك تمّ تحويل الحدائق العامّة إلى مقابر مرتجلة، يرتاح تحت خضرتها، المحروثة بالقذائف العنقوديّة والصواريخ، دم بريء يحنّ لرائحة البيوت المتهدّمة، ولعادات البيوت المتهدّمة.

“بيديّ هاتين دفنتُ مائتي طفل وامرأة في حدائق مدينة دير الزور”. يقول “عمر” الثائر في صفوف “كتيبة الحمزة” من الجيش السوريّ الحرّ، عندما جاء إلى “الحسكة” كي نضع أسياخاً حديديّة بديلاً لعظام ساعده التي تفتّتت. “أطفال بعمر الورد دفنتهم بأصابعي هذه”. كان يقول ويبكي. وكان يُرينا أصابعه كأنّنا سنرى فيها وجوه أولئك الملائكة الصغار. وتحت التخدير كان يواصل بكاءه الأبديّ الحزين والطويل، وهو ينوح كالأرامل.

إذا كان هو الشاب الشجاع يبكي، بهذه الحرقة المميتة، على أطفال ليسوا أطفاله، وقد لا يعرف الكثير منهم، فكيف كان حال الأمهات اللواتي فقدن أولئك الأطفال البريئين؟ فكيف كان نواحهم وصراخهم وقلّة حيلتهم في هذا العرض الوحشيّ المستمرّ؟

مع الحصار والقصف الطائش والعشوائيّ صارت تلك المقابر المرتجلة مخيفة أيضاً من ناحية الوصول إليها؛ فصار الناس يدفنون موتاهم في حوش الدار. والضحايا الذين لا فسحة سماويّة في بيوتهم، كالعمارات، صاروا يدفنون قتلاهم في منصّفات الشوارع، وهي الجزء المزروع بين شارعين من الإسفلت. ليصبح المشهدُ العبثيّ هكذا: البيوت متهدّمة كأنّ إعصاراً مرّ عليها، بينما ساكنوها صاروا نازحين في مدن أخرى، سيأتي دورها لا محالة، وبلدان أخرى، وبقيّة المكان تحوّلت إلى مقابر جماعيّة كبيرة ومرتجلة.

ومع أن مدناً صغيرة، مثل تلبيسة والسفيرة وداريا وحمّورية…، لم يبق فيها أحد، سوى الشهداء الذين يتابعون حياتهم تحت أرض المدينة التي صارت مقبرة فقط، ما زال الطيران الحربيّ يذهب إلى هناك كي يرمي بضاعته الحارقة، لكي يقتل القتلى! كأنّ الحقد لم يجفّ، ولم يمت بموت المحقود عليهم، فيذهب أولئك الأبطال كي يقصفوا الأموات الذين هتفوا للحريّة. إذ لا معنى آخر لدوام القصف على أمكنة لم يبق فيها أحد.

لحدّ الآن قتل أكثر من مائة وخمسين ألف مواطن سوري، هذا فيما عدا المقابر الجماعيّة للمفقودين الذين ماتوا تحت التعذيب في أقبية الأمن، والتي لا نعرف عددهم الحقيقيّ، ولا أيّ أرض ضمّت رفاتهم وآهاتهم لحدّ الآن. وهذا عدد مخيف في عامين ونصف من حصاد الوحشيّة.

ماذا يفعل الشهداء الآن في الحدائق العامة؟. هل يبردون في الليل والشتاء الطويل؟ هل تعتني بهم الأشجار الخائفة والأعشابُ الضئيلةُ في كلّ قصف جديد؟ هل يملّون في انتظار الأحياء الذين صاروا في أراضٍ بعيدة، وأطالوا المكوث فيها؟ وإذا عاد الأحياء هل سيعرفون قتلاهم من الأشجار أم من الحجارة أم من الرائحة المميّزة لكلّ واحد منهم؟

“كنّا ندفنهم على عجل”، يتابع عمر. “وفي كثير من الأحيان كنّا نترك شيئاً يدلّ على الميّت، كسنّه الذهب، أو بطاقته الشخصيّة، إذا لم تكن قد احترقت، أو نظّاراته الطبيّة.. تحت الحجر الذي نضعه فوق القبر المرتجل له في الحديقة، أو منصّف الشارع، بسبب القصف الشديد”. “والذين كنّا نعرفهم، ونعرف أين أصبح أهلهم، كنّا نتّصل بهم فيقولون لنا: ادفنوهم في بيتنا. ولكن بيوتكم تهدمت. كنا نجيبهم. وكانوا يبكون على قريبهم الميّت وعلى بيتهم. ثم يطلبون منّا أن ندفنهم كيفما نشاء، بشرط أن لا ننسى مكانهم”. كان يقول لنا عمر. “وكنّا ننسى مكانهم فيما بعد. كانوا كثيرين جداً. ثمّ نحنُ أيضاً سنموت، فمن الذي سيأتي ليسألنا؟”.

النظام ما زال يُثابر على قصف الحدائق ومنصّفات الشوارع في المدن المنكوبة. يخاف أن يشاهدها فجأة، على الهواء مباشرة، وهي تخرج في تظاهرات جديدة وتطالب بالحرّية وإسقاطه. يخاف من الكلمة. من الأمل . من الماضي الذي لم يمض مع مضيّ هؤلاء الشهداء.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى