صفحات سوريةعلي العبداللهغازي دحمان

عن الدروز والثورة السورية –مقالات مختارة-

 

 

 

تهافت سياسة الأقليات/ علي العبدالله

فتح موقف أبي محمد الجولاني من أبناء المذاهب الإسلامية غير السنيّة في سوريا(العلويون، الاسماعيليون، الدروز، والشيعة) الذي صرح به في مقابلته على قناة الجزيرة، ووضعهم في خانة المحتاجين إلى تصحيح العقيدة، وتحديده صيغة التعامل معهم بدعوتهم إلى العودة إلى صحيح الإسلام أو إقامة الحد عليهم، فتح ملف منهج التعاطي المطلوب في هذا اللحظة السياسية لتجنيب البلاد مزيد من التفكك والتشرذم والتذرر.

تزامنت مقابلة الجولاني مع تعرض علويين ودروز لإساءات ومجازر على أيدي حركات السلفية “الجهادية” فشكلتا تجسيدا للفكر السلفي “الجهادي” النظري والعملي ما أثار هواجس ومخاوف أبناء المذاهب الإسلامية غير السنّية، علما أن هذه الحركات لم توفر ابنا السنّة بل قتلت منهم الآلاف بذرائع وحجج واهية، والقوى المدنية والديمقراطية الحريصة على الوحدة الوطنية، أطلقت حوارا اجتماعيا يتلمس جذر الموقف وسبل الخروج من هذا المستنقع.

واقع الحال أن الظاهرة ليست جديدة ولها سوابق مؤلمة، فالعالم الإسلامي الذي تكونت فيه الشخصية السورية كان وما زال محكومًا بالثقافة الإسلامية بمكوناتها الثلاثة: العقيدة الدينية، الفقه الإسلامي، التجربة التاريخية، ومع أن هذه المكونات تتطابق في مرحلة وتتمايز وتتباين في أخرى إلى حد التناقض، فقد ظلت تتمتع لدى غالبية المسلمين السنَّة بالقداسة باعتبارها الإسلام، إنها بالنسبة لهم كلٌّ موحد ومتجانس ومتسق، وهذا كرَّسها فكرة حافزة لاستجاباتهم وجعلها مقياسًا ثابتًا لسلوكهم ورد فعلهم على الأحداث والمتغيرات، أو بتعبير غراهام فولر “مقياسًا للعدالة والإنسانية والحكم الصالح ومحاربة الفساد”.

في هذا الفضاء، وتحت هذا السقف، طُرِحت اجتهادات، ونشأت مذاهب فقهية تحولت، مع مرور الوقت، إلى طوائف دينية، طائفة كبيرة، أهل السنّة والجماعة أو السنّة، وطوائف أصغر، ليست متساوية في الحجم، شيعة، علويين، دروز، إسماعيليين…. إلخ، ترتب على مواقفها من بعضها، ومن الأحداث، قيام أحزاب سياسية، بالمعنى الذي أخذته الكلمة في الحضارة الإسلامية أي الولاء لشخص أو فكرة، وانفجار صراعات عنيفة ودامية، عمَّقت الخلافات الفقهية/المذهبية، وكرست انقسامات أفقية وعمودية في الاجتماع الإسلامي، كل هذا أفرز قراءات مختلفة ومتناقضة لأحداث التاريخ وتداعياتها: روايات، وأحكام دينية وأخلاقية، مشاعر وعواطف متضاربة وأحقاد وعداوات، بقيت سارية في ثنايا التاريخ الإسلامي، يضاف إليها في كل جيل تفصيل جديد أو رواية جديدة مشوهة لحدث قديم. تراكمات متواترة بحيث غدا لدى كل منها رواية خاصة بها عن المذاهب والطوائف الأخرى تُشيطنها، وتجعلها في موقع الخارج على العقيدة، وأس الفساد والسبب المباشر لكل المشكلات والصراعات والأخطاء التي شهدها التاريخ الإسلامي، وأصبح كل مذهب منها أو طائفة أو جماعة صغيرة شخصًا اعتباريًّا يرى في ذاته معبِّرًا عن الإسلام مع أنه نشأ بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بعقود، وأن التمذهب به ليس من أصول الدين أو العقيدة، ونال المذهب السنّي غلبةً كونه ظل المذهب الرسمي للإمبراطورية الإسلامية في الخلافتين الأموية والعباسية وغدا الأكثرية العددية ما جعله يعتبر نفسه الممثل الشرعي للإسلام، والمذاهب/الطوائف الأخرى خوارج عليه مع أنها لم تخرج على أصول العقيدة الإسلامية التي حددت بثلاثة أسس: الإلوهية، الرسالة، الميعاد/يوم الحساب أو القيامة، وان الاختلافات الأخرى اجتهادات قد تكون صحيحة أو خاطئة لكنها مشروعة.

مع انقطاع الفعل الإسلامي في التاريخ، وجمود الحضارة الإسلامية، ورسوخ قدم التخلف والانحطاط العقلي والثقافي والسياسي، وتآكل الإنجازات المادية والفكرية، وانكماش التطور الحضري، وعودة المجتمعات الإسلامية إلى حالة من البداوة والترّيف، وسيادة رؤى الحنابلة والأشاعرة والمتصوفة الفكرية والسلوكية، ناهيك عن الحروب الداخلية والخارجية وما نجم عنها من مظالم وخسائر وكوارث اجتماعية، وهزائم عسكرية، وغياب فكرة حافزة تستقطب المسلمين، انتقلت الخلافات إلى عمق الاجتماع الإسلامي، وتسربت المواجهات والمناكفات حتى بلغت القاع الاجتماعي عبر تداول روايات تنطوي على اتهامات وتكفير وتخوين يتم تداولها تعكس حالة خصومة شديدة إن لم تكن عداوة، وزاد في تعقيد القضية تبني الخلفاء والسلاطين لمواقف بعض الفقهاء المتزمتين واستخدام قوة السلطة في البطش بأبناء المذاهب الصغيرة وملاحقتهم وهذا دفعهم إلى التكتل للدفاع والهرب إلى الجبال والصحارى البعيدة، وقد حوّلتهم المظالم والملاحقة والعزلة إلى كتل صماء متقوقعة تتلبس عقلية الحصار، متسترة ومتكتمة ومجهولة المواقف والطقوس، وهذا غذى السرديات المعادية بالروايات والتوهمات عن انحرافهم وجنوحهم وخروجهم على الإسلام والإفتاء باستتابتهم أو إقامة الحد عليهم، وهذا غذى مظلوميتهم وزاد في تقوقعهم وانعزالهم عن المجتمعات الأخرى.

أدى ظهور الفكرة القومية وانتشارها، ونشوء الدول الوطنية، وبروز الأفكار الحديثة: العلمانية والاشتراكية وتبني أسس حديثة  للدولة، أسس دستورية وقانونية، على الضد من المنطق، إلى زيادة عوامل الفرقة والانقسام، حيث تحمس أبناء المذاهب الإسلامية الصغيرة للقومية، والعلمانية، والديمقراطية، والاشتراكية، والشيوعية، كمدخل للتساوي في الحقوق والواجبات مع الأكثرية السنّية، بينما لم تنظر الأكثرية السنّية، لاعتبارات ثقافية ومصلحية، إلى هذه التحولات والتطورات بعين الرضا، فقد رأت في تبنيها حطًّا من قدر الإسلام وخفضًا في مكانته، فالإسلام في نظرها متفوق ثقافيًّا وسياسيًّا، وهو أكبر من القوميات، والانتماء إليه يتجاوز الأوطان، فالأمة الإسلامية واحدة موحدة.

لم تنجح الدولة الوطنية في جسر الهوة بين مواقف مكوناتها الدينية والمذهبية والطائفية، ناهيك عن القومية والإثنية، فبقي الاندماج الوطني هشًّا وعرضة للاهتزاز والتفكك عند أي تحد، والوحدة الوطنية مرهونة بقوة السلطة وقدرتها على ضبط الحراك الاجتماعي والسياسي أكثر من ارتباطها بالتماسك الذاتي.

مع انفجار الثورة الشعبية جدد النظام الاستبدادي حملته ونشط أدوات دعايته لتوتير المناخ الاجتماعي وتحفيز الهواجس والمخاوف الطائفية، وخطَّط لدفع الأوضاع إلى مسارات حرب طائفية لاعتبارات عديدة أهمها: تحشيد الأقليات بعامة والطائفة العلوية بخاصة حوله وربط مصيرها بمصيره، تخويف المجتمع السوري من الثورة، وتخويف المجتمع الدولي من نتائج انتصار الثورة وأثر ذلك على السوريين من أبناء الأقليات الدينية، وخاصة المسيحيين، في مغازلة للغرب الذي طالما لعب بورقة حمايتهم تغطية لأطماع استعمارية، وسعى للاستفادة من المذهبية والعرقية المنتشرتين ليس في سوريا فحسب بل وفي دول المنطقة التي تعاني من انقسامات دينية وطائفية مماثلة(خلال الحرب الأهلية اللبنانية نجحت قوة من حركة فتح باقتحام مدرسة “شملان” التي أقامتها بريطانيا لتعليم سفراءها اللغة العربية وكان من بين موجوداتها خرائط للمنطقة حدد على إحداها انتشار الأديان والمذاهب والطوائف وعلى أخرى مواقع آبار النفط).

لم تنجح قوى الثورة، ولا قوى الأكثرية المذهبية (السنّة) في اختبار مقاومة الاستدراج فانزلق بعض أبنائها إلى موقف طائفي، وراح تحت المعاناة الدامية، والألم الشديد الذي ترتب على وحشية النظام وقواته (الجيش والمخابرات والشبيحة والميليشيات الشيعية التي جاءت من عدد من الدول العربية وغير العربية للمشاركة في القتال إلى جانبه ضد الثورة)، وهول الصدمات التي أحدثتها صور الأطفال والنساء والشيوخ المذبوحين، والجثث الممزقة والممثل بها، والصبايا المغتصبات، راح يهاجم الطوائف الموالية للنظام( العلويون والشيعة والدروز)، والدخول في ردود أفعال سلبية تجاه أبناء الأديان الأخرى (المسيحيون) دون تمييز بين من له دور في الصراع وارتكاب جرائم ضد المواطنين ومن ليس له ذلك.

وقد أضاف ظهور الحركات “الجهادية” بُعدا متفجرا على المشهد الديني والطائفي حيث أثارت البرامج والمشاريع السياسية لهذه الحركات التي ترتكز إلى الفكر السلفي بمنطلقاته العقائدية والسياسية من “الولاء والبراء” إلى إقامة دولة إسلامية، دولة الخلافة بصورتها التقليدية التي تُحكّم الخليفة بالرعية، وسياستها المحكومة بفتاوى فقهاء لا بتوجيهات القرآن الكريم بما في ذلك قتل المرتد ورجم الزاني وقطع يد السارق … الخ، أثارت هواجس ومخاوف أتباع الديانة المسيحية وأتباع المذاهب الإسلامية التي يعتبرها الفكر السلفي مخالفة أو خارجة على صحيح الدين أو منحرفة ويربط قبولها في مجتمع الدولة الإسلامية بعودتها إلى الإسلام، أي الانتماء إلى المذهب السني. وزاد ظهور “النصرة” و”داعش” وممارساتهما الوحشية ضد أبناء الديانة المسيحية (ترحيل السكان وخطف رجال دين ونزع الصلبان عن الكنائس ومنع قرع الأجراس) والمذاهب الإسلامية غير السنية من القتل، مثل جريمة اشتبرق التي راح ضحيتها عشرات المواطنين من أتباع المذهب العلوي وقلب لوزة التي راح ضحيتها عشرون مواطنا من الموحدين الدروز، والذبح والصلب والسبي والتعليق والجلد ومصادرة الأملاك والأموال وفرض مسطرة سلوك على المواطنين كافة يحدد نمط اللباس والسير والسفر ويمنع التدخين… الخ في تعميق وتعظيم هذه الهواجس والمخاوف وفي تصعيد الكراهية والعداء والمفاصلة بين أبناء الشعب الواحد، والدين الواحد كذلك.

لا يمكن أن تبقى نظرة الفقهاء المتزمتين، ولا الصور والسرديات النمطية قاعدة للعلاقة بين أبناء الوطن الواحد والمصير الواحد والمستقبل المشترك، فالمنطق والمصلحة يقضيان بكسر الحواجز والسدود والقيود والعمل على إنهاء ثقافة العزلة والانعزال والتمهيد لاندماج وطني أساسه عقد اجتماعي جديد مبني على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، يفكك الغيتوات وعقليتي الحصار والتكفير والتخوين وينهي سياسة الأقليات المذمومة والمتهافتة والتي لا تليق بجماعة وطنية واحدة، خاصة بعد أن انكشفت أخطارها على البلاد والعباد.

المدن

 

 

 

المأزق الدرزي في سورية/ غازي دحمان

لا يمكن وصف الحالة الحاصلة في جنوب سورية بغير المأزق، ذلك أنه، وبعد مرور أربع سنوات من الأحداث، تبين أن المكونين الأساسيين في المنطقة، السنة والدروز، لم يطوروا صيغاً للتنسيق والتفاهم، لتجاوز أي قطوع قد تحصل، كما أنهم لم يطوروا آليات لاحتواء النزاعات التي قد تحصل، وهي احتمالات واردة على الدوام، في ظل بيئة طائفية مستفزة ومستنفرة، وخلاف سياسي لا يخفي نفسه.

دروز سورية، شأنهم شأن غالبية الأقليات في سورية، وقف كثير منهم منذ بداية الثورة مع نظام الأسد، بسبب طبيعة فهمهم للثورة على أنها نوع من التقية السنية، للوصول إلى السلطة، ولكونها ستهدد امتيازاتهم السلطوية في الحاضر، ونمط حياتهم في المستقبل. لذا، لم تبهرهؤلاء كثيرا شعارات الحرية ولا الكرامة، وتمنوا، منذ البداية، وأد هذه الثورة بأسرع وقت ممكن، بشعاراتها وثوارها تجنباً للحرج الذي بدأ يزداد يوماً بعد آخر، حين لم تعد تكفي ذرائع محاربة الإرهاب والتصدي للمؤامرة، لتبرير السكوت عن المذبحة التي تتعرض لها الأكثرية في سورية.

وبالطبع، كان هناك أفراد الدروز من التنويريين واللامنتمين طائفياً، لكنهم، فضلا عن قلتهم، كانوا معزولين عن بيئاتهم وعديمي التأثير، ولا سلطة لهم أمام سلطة رجال الدين الذين أصروا على الوقوف ضد الثورة ومساندة نظام الأسد. ولكن، أمام حجم المقتلة الكبير والدمار الحاصل، لجأ الدروز والعلويون من قبلهم إلى فتح الأبواب لاستقبال اللاجئين، وذلك نوعاً من التعويض النفسي واستثمار مستقبلي، لإثبات أن وقوفهم ضد الثورة لم يكن يعني وقوفهم ضد البيئة التي أنتجتها، وربما شجع رجال الدين هذه الخطوة، لإسكات كل الأصوات المخالفة لهم في الطائفة.

غير أن الثورة التي ستعاند محاولات وأدها ستظهر تحدياً أمام المكون الدرزي، هو أن نتيجة استمرار دعم بشار الأسد ستكون خسائر صافية على مستوى القوة البشرية الدرزية، بعد أن قتل آلاف الشباب الدرزي في مواجهة الثوار، في حين أن الوضع الطبيعي هو احتفاظ الطائفة بمقاتليها لصد الأخطار المباشرة التي بدأت تلوح من جهة الشرق، حيث تتقدم داعش أمام تهاوي دفاعات نظام الأسد عن هذه المنطقة. ومن الجهة الغربية، حيث يقتنع الدروز أن المكون الأساسي لقوات المعارضة هي الكتائب الإسلامية، وتحديداً جبهة النصرة. من هنا، بدأت تظهر أصوات تطالب بمنح محافظة السويداء أسلحة ثقيلة، للدفاع في مواجهة القوى المتطرفة التي ستنتقم، يوماً ما، لقتلاها ولخذلانها. وفي هذا الإطار، ظهرت الحركة الاعتراضية للشيخ وحيد البلعوس، وهي حركة لا لها علاقة بالثورة من قريب أو بعيد، ولا تتعاطف مع الثوار، وليست معنية بمطالب الثورة السورية وأهدافها، بمقدار ما هي خلاف مع سلطة بشار الأسد، فيما يخص قضية تسليح الطائفة بأسلحة نوعية.

“المأزق الدرزي أنه قد يؤدي إلى اشتعال حريق واسع في المنطقة، يشمل مناطق في سورية ولبنان وفلسطين، وحتى الأردن، نظراً لتجاور السنة والدروز في هذه المناطق، والتداخل في أماكن انتشارهم”

لكن، ليس ذلك وحده المأزق، بل تحتوي محافظة السويداء على قطع عسكرية عديدة يستخدمها نظام الأسد في حرب الإبادة الممنهجة ضد سكان الريف الشرقي لمحافظة درعا، في حين تبين أن أهل السويداء يعتبرونها نوعاً من الحماية لهم، وينظرون إلى تحرير الثوار لها بمثابة تهديد وإهانة لهم، وقد أضفت حادثة قلب لوزة مزيداً من التعقيد والشك في العلاقة بين الأطراف، ولا يلام الدروز في تحوطهم، في ظل حالة الفوضى وعدم وجود ضمانات تحميهم، وبعد إعلان زعيم جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني، نيته تصحيح معتقداتهم! وربما هذه واحدة من أخطر المشكلات التي أفرزتها الثورة، وهي عدم القدرة على السيطرة على التفاعلات على الأرض، وتوحيد الخطاب والسلوك الثوري، ووضع الأقليات في مستقبل سورية بعد الأسد.

ولعل المشكلة الأكبر أن جغرافية توزع الدروز تقع على طريق الثوار إلى دمشق، سواء من جهة درعا، عبر صحنايا، أو من جهة القنيطرة، حضر وقطنا، ما يضعهم درعاً لحماية دمشق من السقوط بيد الثوار، ويجعل إمكانية الصدام أكبر. ولا شك في أن استمرار التوتر وتراكماته بين الطرفين من شأنه أن يؤدي إلى ما هو غير محمود، ما لم يلجأ الطرفان، وبأسرع وقت، إلى إيجاد تفاهمات واضحة، وهو ما لا يبدو ممكناً حتى اللحظة؟ ويتزامن ذلك مع تدخلات خارجية قام بها حزب الله، وخصوصاً في منطقة السفح الشرقي لجبل الشيخ، وتحديداً في مثلث حضر- جباثا الخشب، حيث توجد سبع قرى درزية، وكتلة سكانية تبلغ الأربعين ألف نسمة، وقد شكّل حزب الله في هذه المناطق كتائب تحت مسمى “المقاومة السورية”، وهي، في حقيقتها، ليست سوى أنساق دفاعية في مواجهة الثوار، ولحماية ظهر الحزب في منطقة البقاع الغربي، ولقطع طرق الإمداد عن الثوار من لبنان، وتملك هذه المنطقة طرقاً مفتوحة مع مناطق الدروز في حاصبيا، تعمل على تغذية الكتائب الدرزية بمقاتلين وأسلحة من دروز لبنان، وخصوصاً المؤيدين لوئام وهاب وطلال أرسلان، اللذين لديهما موقف سلبي تجاه الثورة السورية.

“ثمة مأزق درزي، صنعته الأحداث وخليط من الظروف، وهو يزداد توسعاً بسرعة خيالية، لن يخفيه السكوت عنه، وتحتاج معالجته إلى صبر وعقل، وترفّع عن الحساسيات، فهل ثمة من ينتبه قبل فوات الأوان؟”

المشكلة أيضا في المأزق الدرزي أنه قد يؤدي إلى اشتعال حريق واسع في المنطقة، يشمل مناطق في سورية ولبنان وفلسطين، وحتى الأردن، نظراً لتجاور السنة والدروز في هذه المناطق، والتداخل في أماكن انتشارهم، على امتداد حيز جغرافي، يمتد من الأزرق في الأردن إلى جبل العرب، وصولا إلى جبل الشيخ والجولان والبقاع الغربي، حتى جبل الكرمل وحيفا في فلسطين. والمشكلة أن المتطرفين الدروز في إسرائيل يضغطون، ليل نهار، لدفع الحكومة الإسرائيلية إلى التدخل ضد الثوار السوريين، بذريعة مواجهة القوى التكفيرية، كما يهددون بتشكيل فصيل محارب لمساعدة أشقائهم، والمعروف أنهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي، واكتسبوا خبرات قتالية جيدة، سواء في مواجهة الانتفاضات الفلسطينية، أو عبر القتال في جنوب لبنان، والمشكلة أنهم لا يعيرون أدنى اهتمام لمأساة الأكثرية السورية، ولديهم تصورات مشوّهة عن الثورة السورية منذ بدايتها، وقد عبروا عن ذلك في تظاهرات مؤيدة لنظام الأسد، ودعواتهم لسحق الثورة السورية، حتى قبل أن تظهر مؤشرات الصدام بين الثوار والدروز في المناطق السورية.

حتى اللحظة، يرفض دروز السويداء أي مساعدة يكون مصدرها إسرائيل، حتى لو كانت من أشقائهم الدروز، لإدراكهم أن فتح هذا الباب سيوسع شقة الخلاف مع شركائهم في الوطن، كما يعتقد كثيرون منهم أن من شأن السير في هذا الاتجاه فتح الباب أمام خيارات وسيناريوهات، مثل الدولة الدرزية على الشريط الحدودي بين لبنان وسورية من جهة، وإسرائيل من جهة، وهذا أمر ترفضه الغالبية الدرزية السورية حتى الآن.

لكن، لا يمكن الركون إلى المشاعر وحدها، فهي لا تشكل ضمانة حقيقية، كما أن الوقائع على الأرض، والتداعيات المصاحبة لها، ذات قوة تقريرية أكبر لمسارات الأزمة، ولها فاعلية أكثر وضوحاً في إحداث تحولاتها. عليه، المقصود بالمأزق الدرزي الوضعية التي يجد الدروز أنفسهم تجاهها، وكيفية مواجهة التحديات التي ستواجههم، والضغوط التي يتعرضون لها من أكثر من جهة، وكذلك الوضعية التي ستؤول إليها التطورات اللاحقة، وكيف يمكن إدارة الأزمة بطريقة لا تؤثر على ميزان العلاقة الهش بين الأطراف، وقد رأينا أن حادثة قلب لوزة أوقفت العلاقات السنية الدرزية على قدم واحدة؟ وهي حادثة مرشحة لإعادة التكرار في مناطق التماس العديدة، نتيجة خطأ ما أو سوء تقدير، أو حتى سوء نيات بعض الأطراف. نعم ثمة مأزق درزي، صنعته الأحداث وخليط من الظروف، وهو يزداد توسعاً بسرعة خيالية، لن يخفيه السكوت عنه، وتحتاج معالجته إلى صبر وعقل، وترفّع عن الحساسيات، فهل ثمة من ينتبه قبل فوات الأوان؟

العربي الجديد

 

 

 

 

 

رد.. ليس مأزق الدروز وحدهم/ علي العبدالله

قدم الأستاذ غازي دحمان (المأزق الدرزي في سورية، العربي الجديد:27/6/2015) وصفاً دقيقا للحالة المعقدة والمركبة والخطيرة التي تواجهها طائفة الموحدين الدروز في ضوء الموقف السلبي الذي اتخذته الغالبية الدرزية من الثورة السورية، وتصدر الحركات “الجهادية” المسرح العسكري، وامتداد المواجهات العسكرية إلى عقر دارهم، لكنه جانب الصواب، حين اعتبر المأزق درزياً.

كتب دحمان “المقصود بالمأزق الدرزي الوضعية التي يجد الدروز أنفسهم تجاهها، وكيفية مواجهة التحديات التي ستواجههم، والضغوط التي يتعرضون لها من أكثر من جهة، وكذلك الوضعية التي ستؤول إليها التطورات اللاحقة، وكيف يمكن إدارة الأزمة بطريقة لا تؤثر على ميزان العلاقة الهش بين الأطراف”. قول ينطوي على خلل منهجي، يختزل الظاهرة في بعض عناصرها ويحمله مسؤولية الخلل ومترتباته، ويستبطن في أحكامه نظرة استشراقية، تنطلق في قراءة الحدث السياسي والاجتماعي من ربطه بالهوية (العرق، الدين، المذهب) التي تسعى الى التأسيس لمفاصلة سياسية واجتماعية نهائية، على خلفية المظلوميات والتوازن العددي، عبر اعتبار أطراف الصراع ممثلين لهويات متناحرة، لا يمكن أن تتفاهم وتتصالح وتنخرط في مشروع وطني واحد.

لم يعط دحمان حيثيات المشهد السياسي الذي أجاد في عرضه حقها في تفسير المواقف السياسية وتبريرها، ويدقق في الخلفيات والأسباب القريبة والبعيدة، ويحدد المسؤولية بعد ذلك، فقد أشار إلى البيئة الطائفية “المستفزة والمستنفرة”، و”الخلاف السياسي”، وإلى “أن المكون الأساسي لقوات المعارضة هي الكتائب الإسلامية”، و” إعلان زعيم جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني، نيته تصحيح معتقداتهم”. ولا أعطى استدراكه الدقيق والهام على كلام الجولاني، حيث قال:” وربما هذه واحدة من أخطر المشكلات التي أفرزتها الثورة، وهي عدم القدرة على السيطرة على التفاعلات على الأرض، وتوحيد الخطاب والسلوك الثوري، ووضع الأقليات في مستقبل سورية بعد الأسد”. ولم يواصل، في سرد قراءته القاصرة، بل وألقى مسؤولية المأزق على كاهل الموحدين الدروز، وأوحى بأن معاداتهم الثورة جوهرية فيهم “تمنوا، منذ البداية، وأد هذه الثورة بأسرع وقت ممكن، بشعاراتها وثوارها، تجنباً للحرج الذي بدأ يزداد يوماً بعد آخر، حين لم تعد تكفي ذرائع محاربة الإرهاب والتصدي للمؤامرة، لتبرير السكوت عن المذبحة التي تتعرض لها الأكثرية في سورية”. وكان المنطقي والموضوعي توزيع المسؤولية على أطراف المعادلة السورية، واعتبار المأزق مأزق المجتمع السوري بكليته، ومطالبتهم جميعا بالقيام بالدور المطلوب لرأب الصدع واحتواء المخاطر التي ستترتب على سيادة النزعة الطائفية في الفكر والممارسة.

“لم يعط دحمان حيثيات المشهد السياسي الذي أجاد في عرضه حقها في تفسير المواقف السياسية وتبريرها، ويدقق في الخلفيات والأسباب القريبة والبعيدة”

لم يكتف دحمان بعدم فعل ذلك، بل انزلق إلى قراءة واقعة استقبال النازحين في السويداء، والساحل كذلك، قراءة تنطوي على تبسيطية واختزالية، فقوله:”وذلك نوعاً من التعويض النفسي واستثمار مستقبلي، لإثبات أن وقوفهم ضد الثورة لم يكن يعني وقوفهم ضد البيئة التي أنتجتها، وربما شجع رجال الدين هذه الخطوة، لإسكات كل الأصوات المخالفة لهم في الطائفة”. اتهام مبطن ينكر على محتضني النازحين امتلاك نزعة وطنية، وهي هنا معروفة ومثبتة وراسخة، في حين كان من الممكن، منطقياً وتاريخياً، رفع الموقف إلى سوية أعلى، بتحديد طبيعة الاستثمار المستقبلي الذي أشار إليه على انه استثمار وطني من أجل سورية موحدة، تسود فيها العدالة والمساواة والتسامح، فالتمييز بين الثوار والفاعلين السياسيين والمواطنين العاديين، حتى لو كانوا من حاضنة الثورة، يؤشر إلى حرص على الشعب والوطن أكثر من “التعويض النفسي” و “إسكات الأصوات المخالفة” ويتضمنها.

انطلق دحمان من مسلمةٍ تعتبر الوطنية في جهة وتنزعها، في الوقت نفسه، عن الجهات الأخرى. ينسى التاريخ القريب والبعيد، وما يعكسه من حقائق ومظالم، نسي دور الموحدين الدروز في الثورة السورية الكبرى عام 1925، نسي استئثار النخبة المدينية (السّنة، الشوام) بثمار الاستقلال واستبعاد الدروز، نسي اضطهاد الحكومات، من حسني الزعيم إلى حافظ الأسد، الموحدين الدروز، نسي لعب النظام الحالي على مسألة الأقليات، والدفع بتشكيل حلف أقلياتي لرفع نسبة حاضنته وتحصينه من النقد، وتسفيه الدعوة إلى الإصلاح والتغيير.

كان الموقف المنطقي والموضوعي اعتبار عدم “تطوير المكونين الأساسيين في المنطقة، السنة والدروز، صيغاً للتنسيق والتفاهم، لتجاوز أي قطوع قد تحصل”، وعدم تطوير “آليات لاحتواء النزاعات التي قد تحصل، وهي احتمالات واردة على الدوام”. ليس مسؤولية المكونين فقط بل ومسؤولية المجتمع السوري بالأساس، المثقفين والسياسيين خصوصاً، ومسؤولية الثوار وقادة الثورة بوجه أخص، لأنه من مستدعيات نجاح تحركهم وبلوغهم أهدافهم ترويج فكرتهم والعمل على إقناع المواطنين بها، ودعوتهم إلى المشاركة فيها، وتحاشي العقبات السياسية والاجتماعية وتلافي المعارك الجانبية. فهل فعل الثوار وقادة الثورة ذلك، وهل قدّروا انعكاس دخولهم مناطق ذات طابع خاص وحساس مذهبياً، وهل الذين هاجموا القرى الدرزية، واختطفوا بعض أبنائها كانوا مدركين المخاطر التي تنطوي عليها خطوتهم، ويستدعي الموقف المنطقي والموضوعي جعل تجاوز القطوع الراهنة ورأب الصدع بين أبناء درعا والسويداء مسؤولية الجميع مع مطالبة الطرف الساعي إلى التغيير، وكجزء من مشروعه ومسؤوليته الثورية، البدء بالخطوة الأولى، وعدم الاكتفاء بإصدار البيانات التي تعكس نيات إيجابية تجاه الطرف الآخر.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى