أكرم البنيصفحات الرأي

عن الربيع العربي والعنف السياسي/ أكرم البني

 

 

 

عبر محاكمة منطقية بسيطة، يرد كثيرون العنف السياسي المتفشي في بعض البلدان إلى «الربيع العربي» ويحمّلون رياح التغيير التي رافقته المسؤولية الرئيسة عما تشهده تلك البلدان من اضطراب وفوضى وصراعات مسلحة وحضور الجماعات الإسلاموية المتشددة. ولكن مع قليل من التدقيق والتأمل تبدو الصورة مغايرة تماماً، وتظهر أن الربيع العربي بشعاراته عن الحرية وبناء الدولة المدنية الديموقراطية، هو العدو اللدود لظواهر العنف السياسي وأكثر المتضررين منها بل السبيل الأجدى لمناهضة أسبابها ودوافعها، على الأقل في نقطتين.

أولاهما، قام الربيع العربي على رفض الاستبداد بما هو رفض أحد الدوافع الرئيسة لنشوء العنف السياسي وتغذيته. فالتطرف والإرهاب لا ينتعشان إلا كرد فعل مشوه على احتكار السلطة وما تمارسه من القهر والتمييز. والقصد أن سيطرة حكومات عربية قامت على الوصاية والاستئثار وتطويع السياسة، وما نجم عنها من تغييب المشاركة وتضييق فرص ممارسة النشاط العام وإضعاف دور المؤسسات القادرة على معالجة مشكلات الناس وضمان حاجاتهم، ثم القمع المركز والمديد لخنق الحقل السياسي والمدني ولوأد النضالات السلمية، أفضت إلى ردود فعل من الطبيعة ذاتها وجعلت أساليب الفتك والتنكيل تتصدر المشهد.

والقصد أن احتكار السياسة واستخدام وسائل القهر لضمان السيطرة، يشجعان من لا يمتلكها، على التطرف والتعصب واحتقار السياسة واستخدام أساليب القهر ذاتها لنبذ الآخر وإقصائه، مؤججاً العنف والعنف المضاد. ونضيف أن تغييب الحريات وعدم احترام التعددية وحقوق الإنسان هو أكثر ما يشجع العصبيات على التناحر والاقتتال، بينما يطيح الإصرار على القوة العارية للدفاع عن المصالح، المشروع السلمي الذي يشدد على فكرة التوافق وإرساء دعائم قيم الحرية والمواطنة.

تنطح حراك الربيع العربي لخوض ما يمكن اعتباره معركة غير مسبوقة لانتزاع الوصاية على مجال السياسة من أصحاب القوة والجبروت وتمكين الناس من ممارستها، وتطلع تالياً إلى إنتاج نظام عادل يرفض العنف بكل صوره وأشكاله ويقوم على التداول والمشاركة وحق البشر في إدارة شؤونهم والاستفادة من التراث الديموقراطي لحل القضايا الاجتماعية والسياسية… ما يعني أن العنف يشكل في حد ذاته نقيضاً للديموقراطية التي طالب الربيع العربي بها، ويعني تالياً أن قيم الديموقراطية وقواعدها ومؤسساتها التي تقوم على الاتفاق والتعاقد والإرادة العامة، توفر المناخ السلمي المناسب لتعبّر كل المكونات الاجتماعية عن مطالبها وتحصيل حقوقها، وتوفر أيضاً الآليات الملائمة لإدارة وتصريف الصراعات السياسية من دون تعريض البنية الوطنية ومؤسسات الدولة للاهتزاز والاضطراب والفوضى.

النقطة الثانية، أن الحرية التي شكلت عنوان الربيع العربي، شكلت أيضاً، بما هي حرية الرأي والمعتقد والاجتهاد، حافزاً لرفض الأساس الفكري المولد للعنف السياسي، ولنقض العقل العربي السائد وتاريخه المفعم بصراعات دموية على الهويات الإيديولوجية وصور الالتزام الأعمى بها، والذي يضج بطغيان المفاهيم المحنطة والأحكام المعيارية التي تشجع تعميم روح الإلغاء ونكران حقوق الآخر واجتهاداته، وتبيح ممارسة كل أشكال العنف والترويع ضده في محاولة لسحقه وحذفه، ولو كانت النتيجة تدمير البنية المجتمعية وروابط العيش المشترك.

عَرَفَتْ بلداننا جماعات تنصّب نفسها وصياً على الدين وعلى حياة الناس وخياراتهم، وتعتبر أن أفكارها وما تخطه من طرق وأساليب هي الصحيح والصائب ومَنْ يعارضها مرفوض ومنبوذ، فتسوّغ لنفسها استخدام ما يحلو لها من الأساليب التصفوية لإقصاء الآخر المختلف وتدميره، مستندة إلى عطالة النخب الثقافية والسياسية وعجزها المزمن عن مراجعة الأفكار المتوارثة وتجديدها، وإلى شيوع ثقافة شعبية تفتقد العقلانية وتفيض بالتزمت والتسطيح والإيمان بالرؤية الواحدة والحقيقة الواحدة التي لا تقبل الشك أو النقد.

لقد رفع شباب الربيع العربي شعار الحرية لأنهم أدركوا أن من قيمتها ودلالاتها يمكن إحداث تغيير جذري ينقلهم من ثقافة الإكراه والتقليد والاستئثار المعرفي إلى أجواء تساعد تفتُّح النقد والبحث الفقهي، وتسمح للمجتهدين بطرح أجرأ الاجتهادات والتفسيرات الدينية التي ترفض العنف وتعلي شأن الإنسان، جسداً وروحاً وعقلاً، وتزيل كثيراً من الأفكار الخاطئة التي عششت في عقول المسلمين أمداً طويلاً، ولا يزال بعضها راسخاً حتى يومنا.

إن تأمل المشهد الراهن يوصلنا إلى اكتشاف أمراض مستوطنة مازلنا نعاني منها كأفراد وجماعات تشجع على استشراء لغة العنف، وتنذر مجتمعاتنا بمزيد من التفكك والتردي والانحطاط، أخطرها دعوات الثأر الجاهلية والرد على العنف بعنف أشد، وأسوأها الصمت عن أساليب الفتك والتنكيل ومحاولة تبريرها، بما هو تغاضٍ عن انتهاك أبسط المبادئ والقيم الإنسانية التي حددت نمط التعاطي المتكافئ بين البشر، وعن التداعيات الاجتماعية والأخلاقية للعنف، وأهمها زرع الحقد والبغضاء وقتل الحياة المدنية وتمزيق أواصر الأوطان وتبديد طاقاتها.

ومن ما سبق يمكن أن يفسر هذا التسابق بين أطراف عدة على الإفراط في العنف، إن من الأنظمة العربية أو من جماعات إسلاموية متطرفة، فكلاهما يخشى الحقل السياسي، وكلاهما لا يجد سبيلاً لفرض حضوره إلا عبر منطق الغلبة والمكاسرة… ويفسر تالياً هذا التوظيف المقصود لصور العنف البشعة كالمجازر وقطع الرؤوس والحرق وتعميمها إعلامياً لإثارة الرعب وترويع الناس، ثم زيادة جرعة البشاعة كلما ازدادت الخشية من حراك الربيع العربي ومن تنامي فرص الناس لنيل حريتهم وحقوقهم.

واليوم تقف المجتمعات العربية أمام تحديات وحقائق تقول إن العنف السياسي الذي يسير نحو ذروته الوحشية يسير أيضاً نحو أفق مسدود بما يخلفه من مآسٍ وأعباء، وأن لا فرصة لقيام أوطان معافاة وأنظمة ديموقراطية من خلال تحطيم دور الناس والدولة والمجتمع المدني، وأن أوضح عنوان للعنف وتغيّب السياسة هو أنظمة توغلت في تسلطها وفسادها، وحضور قوى دينية أصابها العمى الإيديولوجي، تعتبر أن من يخالفها لا يستحق الحياة.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى