ديمة ونوسصفحات الناس

عن السوريين غير الجنود

ديمة ونوس

 يتساءل كثيرون عما يفعله السوريون في لبنان. على الرغم من ارتفاع الأسعار المرهق في سوريا، وصعوبة التنقل والزحام الهائل والأصوات المقلقة، إلا أن الوضع لا يزال محمولاً في الداخل أكثر منه في البلدان المجاورة، خصوصاً لبنان. وحدها شريحة المتنفذين من مسؤولين وتجار ومقربين، تعيش في بيروت بطريقة أفضل ربما مما عاشت في سوريا قبل بدء الثورة. إذ أن بيروت توفّر لهم حيزاً من المنافسة لم يكن متاحاً في سورية. بيوت فخمة مطلة على البحر أو على سفح جبلي. سيارات فارهة. ملابس “سينييه”.

على هامش الثورة، ثمة شريحة أخرى تعيش جحيماً حقيقياً، في الداخل والمخيمات وعلى أطراف المدن.. أطراف الحياة. بالكاد تستطيع التقاط أنفاسها حتى منتصف الشهر. هذه الشريحة العظمى تضمّ عائلات هجّرت وأطفالاً فقدوا أهلهم وطلاب جامعات. الطلاب الذين كانوا في سوريا مجرد جيل فاشل، كسول، تائه، ينجح بالواسطة ولا يزور الجامعة إلا في أوقات الامتحانات، هم أنفسهم الذين جاؤوا إلى بيروت ليستكملوا دراستهم. الفرق أنهم في لبنان باتوا مضطرين إلى ممارسة عمل ما إلى جانب الدراسة. والتقيت صدفة بالكثير منهم ولفتتني قدرتهم الاستثنائية على التأقلم مع وضع جديد، هم “الأطفال المدللون”. في دمشق، معظم الشباب العاملين في المقاهي والمطاعم، لم يكملوا دراستهم.. يشوبهم الشك، إذ أن صفة “كاتب التقارير”، أي المخبر، تلتصق بهم كشامة أو وشم. بينما الكثير من الطلاب السوريين في بيروت، يعملون في المقاهي إلى جانب الدراسة ليكسبوا حياتهم ويساعدوا عائلاتهم في الداخل.

 إضافة إلى قدرتهم على انتشال أرواحهم من ذلك المكان القاتم والخانق، استطاعوا أن يكونوا جزءاً من الحركة الثقافية في البلدان التي هربوا إليها. استطاعوا في لبنان مثلاً أن يغيّروا ولو قليلاً من النظرة النمطية التي تأسر السوري وتؤطّره: عامل بناء أو عنصر مخابرات. السوري هو فنان أيضاً كما يشهد حي “الجميزة” الذي تكتظ صالات العرض فيه بلوحات شباب سوريين، السوري موسيقي يعزف ويغني على منصات المسارح المعروفة في بيروت وفي المقاهي والبارات. السوري كاتب وصحافي. تاجر ربما أو طبّاخ. كائن طبيعي باستطاعته أن يكون أشياء أخرى تتعدّى البناء والوشاية.

 علاء صلاح الدين هو واحد من هؤلاء الشباب الذين تركوا سوريا وجاؤوا إلى بيروت لإتمام دراستهم الجامعية والبحث عن عمل يؤمن أقساط الدراسة. التقيته صدفة في مقهى “دار المصوّر” في الحمرا حيث يعمل ويعزف في الوقت ذاته. جاء إلى بيروت ليكمل دراسته. ثم أسّس، مع مجموعة من اللبنانيين، فرقة موسيقية أطلقوا عليها اسم “صدفة” كونهم التقوا بالصدفة قبل شهرين. عازفا الغيتار عادل وجاد صالح، عازف الفلوت والهرمونيكا والبايب اكزافييه بغدادي، وعلاء الذي يعزف أساساً على آلة الكاخون. علاء بدأ العزف في مقهى “دار المصوّر” حيث كان يشارك مجموعة من الشباب بعزف ارتجالي على “سطل” معدن مخصّص للثلج! ثم انضمّ إليهم ليشكلوا فرقة “صدفة”.

 في محل “زكريا” منتصف شارع الحمرا، تعزف “فرقة صدفة” مقطوعاتها الخاصة المؤلفة على إيقاعات موسيقى السيلتك التي تضجّ بالخيال والحلم. المحل الصغير حيث يجلس فيه الحضور بشكل طولي أمام البار أو أمام طاولات صغيرة وعالية، يدخله أطفال سوريون يبيعون ورداً جورياً أحمر. أصحاب المكان لا يمانعون دخولهم كما هي العادة في محلات أخرى. بل إن الأطفال هنا يدخلون ممتلئين بالمكان وكأنهم شركاء فيه أو مالكين. يتحدثون مع الزبائن ويجيبون على أسئلتهم بدهاء يفوق عمرهم. والتقيت هناك بـ”زعلان”. نعم اسمه زعلان. عندما لم أصدقه أخرج هويته الشخصية ومدّها لي. زعلان من مدينة الرقة، جاء إلى بيروت نازحاً يبيع الورود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى