صفحات الرأي

عن العلمانية.. وعن معاني غيابها/ ثائر ديب

 

 

شهدت السنوات الخمس الماضية أمثلة عديدة على لقاءاتٍ لاتجاهات المعارضة السورية، عجزت فيها عن الاتفاق على إيراد كلمتي «الديموقراطية» و/أو «العلمانية» في بياناتها كهدفين لها في سوريا المستقبل. ويبدو أنًّ الخلاف كان يدبّ لا بين اليسار المتشدد والإسلاميين المتزمتين كما قد يتوقع المرء، بل بين اتجاه وطني ديموقراطي ويساريّ من جهة، واتجاه إسلامي يمكن وصفه بالمعتدل (كمعاذ الخطيب، مثلاً) ومعه بعض الشعبويين من «المتلبرلين» ذوي الأصول اليسارية والقوميين الذين يقرأون القومية العربية من منظور الإسلام بوصفه الهوية الأساس من جهة أخرى. وبعد ساعات أو أيام من النقاش، كان يُرفض التوقيع على بيان يحوي أيّاً من الكلمتين المشار إليهما وتُحبَط عملية إصداره. وفي أحسن الأحوال كان يجري الالتفاف على اللفظتين فتوضع «المدنية» مكان «العلمانية» ويحلّ محل «الديموقراطية» «حكم الشعب لنفسه بنفسه» أو «الشورى»، الأمر الذي يعكس طبيعة النخب المتحكمة في الخطاب المعارض والقائدة له، حتى لو تناسينا الاتجاه الذي تمثّله «النصرة» و «داعش» وأشباههما، وما لديه من معاهد شرعية ومفتين باتوا مراجع الحياة الدنيا والآخرة في ما يُزعَم أنّها «مناطق محررة».

سؤالنا المطروح بهذا الصدد، هل ثمة ثورة وتقدّم وحداثة وديموقراطية من دون علمانية؟

تستند العلمانية إلى تمييز بين الدين بوصفه عقيدة غيبية والدين بوصفه ظاهرة اجتماعية تاريخية تخصّ بشراً بعينهم في أزمنة بعينها وأمكنة محددة، بمعنى أنّها تفك القيد الذي يكبّل العقيدة الميتافيزيقية بأوضاع الدين كظاهرة اجتماعية ذات طابع تاريخي، ولا تتيح لهذا الأخير الدنيوي أن يزعم أنّه الأولى الدينية، فلا تتيح للتديّن أن يزعم أنّه الدين. بهذا المعنى، تكون العلمانية بعيدة عن معاداة الدين. وعلى العكس، فإنها تحرره من استغلال السلطة وتعزز جانب القناعة الفردية الحرة في العقيدة. وبعبارة أخرى، لا تعني العلمانية غياب الدين بالضرورة، بل احتلاله مكانًا مختلفًا متوافقًا مع الإحساس بأن الأفعال الاجتماعية العامة تحدث في ما يدعوه تشارلز تايلور «زمناً دنيوياً» أو «علمانياً» أفقياً بشرياً حداثياً، يختلف عن الزمن الديني العمودي الإلهي القروسطي، تاركةً المجال الخاص والفردي حرّاً في إيمانه وعقائده وفي تبديل هذه العقائد أو تركها نهائياً.

واضحٌ أنّ العلمانية تعني ثورة فكرية وثقافية تزيل الهيمنة باسم الغيبيات من دون أن تلغي تلك الغيبيات بالضرورة، بل تضعها في سياق زمن جديد ومكان جديد وعلاقات جديدة. ويصعب تخيّل ثورة في المجتمع والسياسة من دون هذه الثورة الفكرية، لا بالمعنى الأدونيسي الذي يرى أنَّ ثورة الفكر يجب أن تسبق ثورة المجتمع والسياسة (فهذه أسطورة، لأنّ رؤوس البشر تتحرر في سياق تحررهم الاجتماعي والسياسي وربما إبّانه أيضاً)، بل بالمعنى الذي يرى أنَّ هذه الأخيرة لا يمكن أن تؤتي أكلها من دون الأولى، وغالباً ما يكون الإجهاض مآلها. وبذلك لا يكون ثمة انفصال بين هاتين الثورتين، بل بين هذين الوجهين لثورة واحدة.

هكذا، يصعب أيضاً تخيّل الديموقراطية من دون العلمانية بوصفها شرطاً ضرورياً لها. فالديموقراطية نظام سياسي ذو طابع اجتماعي صرف تحدده الظروف التاريخية، الأمر الذي يقتضي تحرير هذا المستوى من المطلقات والأحكام المسبقة، الدينية وسواها، وإلقاء مسؤولية القرار من دون تقييد مسبق على عاتق البشر بوصفهم شعباً بعينه. وهذا ما يحتاج نقاشاً أبعد.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى